د. محمود عباس
المال، المادة، المصاري، الدولار، القوة، المارد الذي يحي الأموات، ويخلق أنصاف الألهة، ويبين الأبله عبقريا، والجاهل مثقفاً، السلطة التي تبرز الرؤوس الخاوية، وتجعل المنافق وطنيا، والانتهازي دبلوماسيا، إنها القوة التي تخر أمامها كل القوى الأخرى على الأرض، قدمه الله على البنين (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) السلطة التي لا حدود لإمكانياتها، هذا السلسبيل الشبح المنبثق بغزارة من جغرافية كردستان، يسلب ويهجر بدون هوادة، ولا يرى سبيلا إلى الشعب والحركات الكردية وبشكل خاص الثقافية. استخدمتها السلطة الشمولية السورية بخباثة ضد الكرد بشكل عام وحركتيه السياسية والثقافية بشكل خاص.
سلُطُتْها سلطة الأسد على الحركة الثقافية بدون هوادة، أحاطتهم بعوز مدمر، لتذلهم، وتحطم الكلمة عند قسم من المثقفين، وتوهن قوتهم المعنوية والفكرية، أضعفت شريحة منهم في كثيره، لكنها بالمقابل هيجت النخبة، والتي بينها أقلام بإمكانيات على مستوى الشرق بفكرها وذخيرتها الثقافية ومتانة كلمتها، وبينهم كتاب وباحثون بملكات رؤى ثاقبة للقادم، نقبوا الماضي بدراية، لكن السلطتين الشمولية والمادية حالتا بينهم وبين المجتمع، وبطرق متنوعة، أسقطوا النقد بعشوائيته، وبغزارة، على كلية الحركة وبشكل خاص على النخبة، تحت حجج مختلقة من عدة اعتبارات، ولا شك بعضها محقة وهي التي انتبه إليها المجتمع، والشريحة نفسها، ونقدوا ذاتهم أكثر من أي شريحة أخرى، وأولها لأنهم لم يقوموا بواجبهم الريادي، أو أنهم لم يتمكنوا من حمل الواجبات المطلوبة منهم كأنبياء الأمة، وتصحيح مسار الحركة السياسية، ولم يستطيعوا أن يؤثروا في الأحزاب، كما ولم يخلقوا الثقافة النوعية التي يجب أن تكون البديل عن ثقافة السلطة الشمولية والتي تمرغت فيها أغلبية الحراك السياسي، ولم يتمكنوا من الدفاع عن ذاتهم، وطروحاتهم، بالشكل المطلوب، فالسلطة المادية والتي تستخدمها الشمولية بكل أبعادها، كانت في وجههم أينما رحلوا وحلوا، يلتقون بالفقر والعوز والصراع مع معاناة الحياة اليومية مثل اغلبيه الشعب مضافة إليها معاناة حرية الرؤية والفكر المسلوبة في زمن العوز المعدم، وعليه فقد همشت كل انتقاداتهم وتحليلاتهم وتقييماتهم، ونداءاتهم، وبقيت الحركة السياسية تتلاعب بالشعب كما ترغبه قوى الأمن، وتقودهم إلى مطبات وانشقاقات، وخلافات لا آخر لها، كما حافظت على الثقافة الموبوءة، مثلما خططت لها السلطات الشمولية المسيطرة على قرارات الأحزاب الرئيسة، والراضخة لإملاءات دوائرها الأمنية، التي كانت ولا تزال في بعضه تقرر كلية المسيرة والتنظيم، بشكل أو آخر، فالحركة الثقافية، وتحت ظروفها القاهرة، إما انجرفت مع هذه أو أضمحلت أمامها، والقلائل واجهوها بقوة، والبعض أدرك بأنه لا حول للأحزاب السياسية في ظل جبروت العوز والحرمان المادي، واستبداد السلطة الشمولية، فهذا التنوع في الحركة الثقافية عكست الواقع المعاش والبيئة المفروضة، وهي التي خلقت الثورة في المنطقة الكردية. فالبعض أنتبه إلى حقيقة مؤلمة، لو لم تكن هذه الأحزاب كما يريده المستبد، فإنه سيخلق غيرهم، ومن السهل في مجتمع يقطر له المستعمر الحاجة بالقطارة من زرع كل ما يرغب، وهي في هذه الحالة مغلوبة على أمرها، أو الثورة على الواقع المعاش.
مع ذلك وفي هذا الواقع المتلاطم، كان غياب بوصلة الأغلبية من المثقفين بشكل عام، فاتجهوا إلى محاور عديدة، يبحثون عن أسباب الضياع والتشتت، ولم يركزوا على المسبب الرئيسي، فكثيرا ما ضاعوا في الصراع الدائر بين الأحزاب، بحجة تصفية الداخل قبل الخارج، ولم يدركوا أن هذا الداخل منبعه الخارج، ولن يصفى مادام المجرى مرهوناً ويصب في المجتمع الكردي ويغذي الحركة السياسية وبشكل خاص الأحزاب.
لا شك أن مجموعة غير قليلة من الحركة الثقافية في غرب كردستان كانت ولا تزال تحليلاتها للماضي والحاضر دقيقة ومنطقية، ورؤيتها للمستقبل على الأغلب صائبة، لكن تبقى هذه الأقلية معدمة، وكلمتها قلما تخترق جدران الصمت، ونادرا ما يسمع صداها، بل وفي كثيره تتهم باللاوطنية لعدم الانزياح إلى انتماء حزبي كما تستوجب مصلحة السلطة الشمولية، وتحارب من جبهتين، واحدة من العوز وأخرى من السلطة، قد تكون سلطة الأحزاب أو السلطة الشمولية، وهذا ما يلهي الأغلبية من الحركة الثقافية بعدم البحث عن طرق الخلاص وتحديد المسارات، لانجرارهم إلى الخلافات اللامتناهية بين الحركة السياسية، وهنا تكمن أحد أهم نواقص المثقف الكردي بشكل عام، وهي عدم التركيز على خلق البدائل الثقافية للمجتمع الذي عاش في كنف عوز مادي خلقته السلطة الشمولية، ونفث تحت رحمته كل الموبقات الفكرية وطرق التعامل والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وغابت على أثرها الأهداف التي يجب أن يتجه إليها المجتمع، والتركيز على عزل السياسيين الذي فرض عليهم الخلافات، بل وبالعكس، تبعتهم الأغلبية الثقافية وعمقت في خلافاتهم، وأغنتها بالأفكار التي كانت عاجزة عنها السياسي الكردي، وشاركتهم في انعزالهم المبطن عن الثورة الكردية والسورية.
أقرب المواقف الدارجة في حاضرنا السياسي، الكثير بما يتعلق بداعش، في البعدين الإقليمي والدولي، الديني والقومي، واجتماعات دهوك، وما نتج عنها من بنود، وعلى أثرها وتحت ضغوط دولية عدوة وصديقة أشراك الجيش الحر بالدفاع عن كوباني وبقيادة العكيدي الذي لا تزال كلمته ترن في أذن كل كردي، يوم قال تحت خيمة المعارضة الإسلامية ( يجب القضاء على الكرد وأعادها بعد الانتقاد بأنه يقصد أل ب ك ك ) واليوم هو ضمن القوة الكردية نفسها، فهل هذا الرجل نسي الماضي، أم القوة الكردية غيرت من مسيرتها وعلاقاتها التكتيكية، هذه وغيرها من المواضيع، وما خطط لمستقبل غرب كردستان وما يرسم لها حاضرا، لا يتطرق إليها المثقف الكردي إلا في نهج وحيد، التأييد والدعم للظاهر المبان بدون دراسة الخلفيات الجارية والآتية.
أسئلة عديدة تفرض ذاتها، ويتركها للسياسي الذي لا يزال في كثيره منتميا إلى أجندات إقليمية، وتسير حركته تحت مخططات لا يؤتمن جانبها، وبدون دراسة واعية من قبل الحركة الثقافية الكردية، النهاية ستبقى ضبابية. ولاشك هناك تردد لمواجهة حاضرنا الجاري، وهي عدم الجرأة بالانجراف إلى هذا المستنقع، وربما لها مبرراتها الذاتية لتغييرها لبوصلتها المرنة والمتعددة الأوجه، ظهور بعد وطني ما حتى ولو كانت غير نابعة من الذات الكردية بقدر ما كانت تحت ضغوط خارجية، والثانية لأنها ستواجه هجوما شرسا من العامة قبل مريدي الأحزاب بناءً على البعد الأول، وأول الاتهامات هي اللاوطنية، كما وسيصطدم بالأحزاب ككتلة وليس كأفراد، والتي دعمت بقوة مادية في الفترة الأخيرة، وهي الأن تملك السلطة التي بإمكانها أن تسخرها لضرب كل من يتجرأ بالنقد اللامرغوب فيه من قبلهم كحركة سياسية وليس كأشخاص، كيف لا وهي الأن أصبحت رائدة الشعب، وهي تبين بأنها على أبواب تأجيل خلافاتها، وتغيير تكتيكها ومساراتها، وهي قبل شهور كانت منبوذة من الكل، ونقصد الكل وبدون استثناء، فهل بوصلة الحركة الثقافية في غرب كردستان، والمعروفة بمشاكساتها جمدت، لأنها تشم رائحة التحرر والتغيير في مسارات الأحزاب وتخلصت من الماضي الحزبي المشوه وتندرج إلى مرحلة الحس الوطني؟! وهل حاضرها في دهوك وبعدها بدون سلبيات؟ أم أنها مرنة لعدم الجرأة، أم بسبب المعاناة أم لقلة الدراية أم لطغيان سلطة المارد المهيمن أبداً؟
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية