كوباني النائية، التي تعرضت كأخواتها من المدن الكوردية السورية، في الجزيرة وعفرين، للأهمال والتهميش والتضييق والإفقار والتجهيل والإقصاء والتغييب عن المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والخدمي والثقافي السوري العام، لدوافع وغايات وأهداف موغلة في العنصرية والشوفينية القومية، أرادت كما كل المدن السورية، أن تعيش بحرية وكرامة، وأن يبزغ ميلاد فجر جديد في سوريا، تسود فيها المساواة ومبادىء الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وسيادة القانون والعدالة، بعد عهود طويلة من القهر والقمع والظلم والاضطهاد والاستبداد، جلبت معها الكوارث للوطن والمواطن في آن معاً، فجاءت الثورة السورية، التي تفاعلت معها كما لم تتفاعل مدينة غيرها، فهبت عن بكرة أبيها، بشيبها وشبابها ونساءها وأطفالها، للمطالبة برحيل النظام، والتضامن مع معاناة الثائرين في مختلف المناطق السورية، والتنديد بجرائم النظام بحقهم، واعتبرت أن أية قطرة دم سورية تراق، هي دمها، وبقيت وفية لهذه الثورة العظيمة وأهدافها النبيلة، وقدمت من أجل ذلك، العديد من الضحايا، شهداء ومعتقلين ومختفين قسرياً ومنفيين هنا وهناك، ما جعلها عرضة للاستهداف المتكرر والحصار الخانق والمؤامرات الدنيئة من قبل النظام المجرم وحلفائه وأدواته الإرهابية. وقد توج ذلك، بالهجوم الغادر عليها من قبل ما يسمي بـ تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) الإرهابي، منذ منصف شهر أيلول المنصرم، وبعد فترة وجيزة من الإعلان عن التحالف الدولي لمحاربة إرهاب داعش في سوريا، ما أدى إلى نزوح جميع سكانها، الذي يقدر بأكثر من ( 460000 ) نسمة، إلى الحدود التركية، في ظل عدم وجود إمكانية لإستيعابهم وتوفر أدنى مستلزمات الحياة لهم، مما ينذر بوقوع كارثة إنسانية كبرى، ما لم يتدخل المجتمع الدولي بقوة لإنقاذهم، خاصة وإننا بتنا على أعتاب فصل الشتاء القارس.
في المعارك الطاحنة، التي لا تزال تدور رحاها على مشارف مدينة كوباني، والتي تفتقد التكافؤ بين الطرفين المتقاتلين لناحية امتلاك السلاح والعتاد وحتى العدد، فلدى إرهابيي داعش الأسلحة الثقيلة بمختلف أنواعها من الدبابات والمدافع والراجمات والصواريخ والعربات المدرعة، أما المقاتلون الكورد فليس لديهم سوى الأسلحة الخفيفة، من رشاشات والبنادق وبعض قاذفات الـ ( ر. ب. ج )، إضافة إلى أن خطوط أمداد الإرهاببين مفتوحة من كل الجهات، مقابل إغلاقها بشكل كامل أمام المقاتلين الكورد، سطر المقاتلين الكورد رجالاً ونساء، ملاحم بطولية رائعة، أبرزتها وسائل الإعلام الكورية والعربية والدولية المختلفة، وأشاد بها كبار القادة ورؤساء دول العالم، في وقت لا تعترف فيها المعارك الحديثة، التي تستخدم فيها الأسلحة المتطورة، بالشجاعة والبسالة.
ورغم إن الجرح لا يزال نازفاً وحاراً، كما يقولون، وإن كل الجهود يجب أن تصب راهناً من أجل وحدة الهدف والخندق، في مواجهة إرهاب داعش وأعداء الشعب الكوردي، والعمل على تجسيد مصالحه القومية. وقد يزيد إثارة الأخطاء وإبرازها من مساحة الجرح، ألا أنه لا بد من وضع الأصبع على الجرح، واستخلاص الدروس والعبر مما حدث، لمنع تكرارها في المستقبل، ومن أهمها:
* أنه لا يمكن مطلقاً الاعتماد على الأنظمة المقتسمة لكوردستان، فكل هذه الأنظمة تعادي الشعب الكوردي بشكل أو بأخر، وتعمل من أجل لجم طموحاته القومية المشروعة ومنعه من ممارسة حقوقه، من منطلق أن أي تطور في القضية الكوردية في أي جزء كوردستاني، سينعكس بالضرورة بشكل إيجابي على الأجزاء الكوردستانية الأخرى، وفي الحالة الوطنية السورية، لا يمكن للكورد المراهنة على النظام الحاكم، الذي مارس بحقهم سياسة الاضطهاد القومي والحرمان من الحقوق القومية والوطنية وحتى الإنسانية، خلال عقود طويلة، وخاصة أن هذا النظام يواجه ثورة شعبية، لذلك يجب الوقوف إلى جانب الشعب السوري الثائر في مواجهة هذا النظام الجائر، لأنه – أي النظام – لا يفكر إلا بمصالحه وبقائه في الحكم، وفي حال نجاحه في إنهاء أزمته سيعود من جديد إلى دوامة القمع والاستبداد وسياسة الظلم والاضطهاد القومي والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية للإنسان.
* وأنه أيضاً لا بد من التعاون والعمل الكوردي المشترك، والذي يجسدها الاتفاقية الموقعة في هولير بإشراف فخامة رئيس إقليم كوردستان السيد مسعود بارزاني، بين المجلسين: ( الوطني الكوردي و شعب غربي كوردستان )، وكما أنه لا بد من التعاون والتنسيق مع المعارضة السورية، فالعمل الأحادي الجانب وإقصاء الآخرين وتغييبهم ومصادرة كل شيء، الناجم عن عقلية التفرد والاستبداد، لا يمكن أن تبنى عليها، بل إنها تؤدي إلى التشتت والتفتت والاغتراب.
* وأن المجلس الوطني الكوردي، مطالب بالخروج من حالة الضياع والتردد، وفرض نفسه لاعباً أساسياً، من خلال تشكيله جناح عسكري، يدافع عن الشعب الكوردي، في مواجهة إجرام النظام وإرهاب داعش، أو أي عدوان آخر، ويعتبر القرار الصادر مؤخراً من الأمانة العامة للمجلس بتبنى قرار المجلس المحلي في كوباني تشكيل قوة عسكرية للدفاع عن كوباني، خطوة في الاتجاه الصحيح، يجب أن يليها قرار شامل في هذا الاتجاه، وبالتالي التعاون والتنسيق مع التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب.
* وأنه لا يمكن للتحالف الدولي، أن ينجح في محاربة الإرهاب والقضاء على مرتكزاته، دون وجود خطة مرسومة متكاملة، من خلال توجيه الضربات الجوية لمواقع داعش والنظام معاً، لأنهما وجهان لعملة واحدة، وتقديم الدعم والاسناد اللازم للجيش السوري الحر، بعد إعادة هيكليته، ليضم كل المكونات السورية، وكذلك دعم الفصائل العسكرية الأخرى المعتدلة، وخاصة الكوردية منها بعد توحيدها وإعادة هيكليتها وفق اتفاقية هولير وملحقاتها، التي ذكرناها أنفاً، وإيجاد آليه للتنسيق بين الضربات الجوية والفصائل التي تقاتل على الأرض، والعمل على إقامة مناطق عازلة على طول الحدود السورية، بعد فرض الحظر الجوي على طيران النظام، لحماية السكان المدنيين من انتهكات حقوق الإنسان.
* وأنه لا يمكن إحراز دعم أو تقدم القضية الكوردية في سوريا، بدون التنسيق والتعاون مع المعارضة السورية، والقوى الكوردستانية الإقليمية والدولية، المؤيدة للثورة السورية.
* وأنه لا يمكن أن ينعم المنطقة بالأمن والاستقرار، ما لم يتم حل القضية الكوردية في جميع الدول المقتسمة لكوردستان، وفق مبادىء القانون الدولي وعلى أساس حق الشعوب في تقرير مصيرها، والتعامل والتعاون مع الشعب الكوردي على أنه أحد الشعوب الأساسية في المنطقة، وهذا ما أظهرته الأحداث الأخيرة التي جرت خلال الأيام الماضية في تركيا، على خلفية تطورات كوباني.
هذه هي بعض الدروس المستقاة مما جرى في كوباني، نأمل أن تكون دماء الشهداء ومعاناة المشردين واللاجئين من أبناء شعبنا الكوردي دافعاً قوياً للجميع لدراستها بإمعان والاستفادة منها قدر الإمكان.