تركيا … الخاسر الأكبر

توفيق عبد المجيد *

قالها ذات مرة وعلى سبيل المزاح والنكتة الرئيس العراقي السابق السيد جلال الطالباني وهو المعروف بروح الدعابة والنكات الكثيرة  ”  معانا بالنهار ومع الإرهابيين بالليل “
وكان يقصد بكلامه تلك الازدواجية في مواقف بعض الساسة العراقيين من أولئك الذين صعقوا أمام الأحداث الدراماتيكية السريعة التي عصفت بالعراق بعد مقدمات وممهدات كثيرة لها ، فلم يستطع أولئك الساسة تقبل الواقع الجديد في عراق جديد تغير فيه كل شيء حتى نظام الحكم وقلبت كل المفاهيم والثقافة الشمولية التي مورست فكراً وعملياً خلال عقود شتى ، وصار نسيانها والتغلب عليها صعباً للاندماج مع عصر جديد قوامه واقع جديد وفكر وثقافة مختلفة باختصار كان المتغير العراقي صادماً وصاعقاً لدى الكثيرين من أولئك الساسة لتقبل الحدث والمستجد،
 فكان التخبط في المواقف يصدر من أولئك رغبة منهم في مسايرة المرحلة الجديدة ليكونوا من رجالاتها وهم لم يستطيعوا التخلص من تراث وإرث ثقيل تبدل رأساً على عقب ، ويحضرني هنا قول لأحد قادة الاتحاد السوفياتي السابق عندما وصف الشعب الروسي بأن ” عقله في الفضاء وأقدامه مازالت مغروسة في الأرض “
كذلك الحال بالنسبة لتركيا ” العلمانية ” فقادتها يعملون بقوة لينضموا لنادي الدول الأوربية المتحضرة ناسين أو متناسين أنهم ينهلون من فكر إسلاموي حزبوي ضيق يكبح تطلعاتهم ويفصح عن تلك الثقافة التي لم يستطيعوا التخلص منها ليتأهلوا لدخول ذاك النادي كدولة مؤهلة لذلك ، فلم يستطيعوا أن يردوا عن أنفسهم تهمة دعم ” داعش ” أو على الأقل تقديم كل التسهيلات ودعمها ” لوجستياً ” وكانت صفقة الإفراج عن رهائنها موضع شبهة وشك لدى الكثير من الجهات المهتمة والمتابعة لهذا الشأن ، وهاهم للمرة الثانية ينفردون عن سربهم ويغنون خارجه .
 كانت الأولى عندما منعوا الطيران الأمريكي الحربي من الانطلاق من قاعدة ” انجرلك ” عام 2003 لقصف مواقع النظام العراقي في حرب الخليج الثانية ، فتسببوا في إبطاء العملية التحالفية وتأخيرها ، عدا عن توصيف موقفهم بالسلبي ، وتسجيله في ملفهم ليضاف إلى بقية الملاحظات التي دونت بالضد من مصلحتهم ، أما المرة الثانية والتي ألقت الكثير من الأضواء على موقفهم الضبابي المبهم عندما منعت التحالف الدولي – العربي من استخدام القاعدة المذكورة إلا وفق شروط اشترطتها تركيا ، هذه المواقف أثرت بشكل سلبي على حلف النيتو الذي تنضوي تركيا تحت مظلته ويفرض عليها التزامات واستحقاقات معينة كأحد الأطراف المشاركين في الخلف المذكور ، لكن تركيا لم تلتزم بما هو مطلوب منها .
وعندما وجدت أن الأحداث تجاوزنها أو كادت ، أرادت أن تصحح موقفها وأدركت أنها تأخرت كثيراً عن سربها ، وبعد فوات الأون ، وكان إخفاقها في الحصول على مقعد غير دائم في مجلس الأمن وبالتصويت مؤشراً لها على تراجع شعبيتها في الوسط الدولي ، ناهيكم عن موقفها المتخبط والمتردد من أحداث ” كوباني ” الأخيرة ، وفشلها في الموافقة على إحداث منطقة آمنة ومحمية على طريقتها بحيث تكون المستفيدة الأولى منها لتنفيذ أجنداتها .
واليوم أدرك الساسة الترك أن المنطقة الآمنة في طريقها للتنفيذ على الأرض وفق منطور امريكي غربي ، وأن البيشمركة سيدخلون كوباني وغيرها شاءت أم أبت ، فارتأت أن تحاول تصحيح الموقف ، لذلك سمحت أخيراً وبعد تعنت ، لقوات البيشمركة بالدخول الى كوباني عبر أراضيها بعد تعرضها لضغوط أمريكية مورست عليها بتدخل من الرئيس مسعود البرزاني شخصياً لدى الإدارة الأمريكية ، لأن العالم لم يعد يقبل منها هذه الازدواجية في الموقف ، فإما أن تكون مع حلفها وتنفذ المطلوب منها أو تكون خارجه   ، ولا أستغرب إخراجها من حلف النيتو وخسرانها الكثير من الامتيازات في كوردستان العراق . 
لذلك أستطيع القول إن الخاسر الأكبر من هذه المتغيرات هو تركيا ، والرابح الأكبر رغم الخسائر الأليمة هو الشعب الكوردي وقضيته القومية العادلة ، وستكون الدولة الكوردية القادمة موضع اهتمام لدى الغرب وأمريكا .
* قيادي في الحزب الديمقراطي الكوردستاني – سوريا

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…