كردستان بين الكراهية والعنصرية

د. محمود عباس

  ما يجري في شنكال، جبال الإيزيديين، بشكل خاص، تتجاوز عملية الصراع على منطقة، أو إحتلال لآبار النفط، إنه جونسايد ممنهج تجاه الدين الإيزيدي الصوفي، القادم من أعماق التاريخ، من قبل تيارات دينية إسلامية متطرفة غارقة في الكراهية والجهالة. هناك وعلى الخط الواصل ما بين (عفرين وكوباني) المدينتين الكرديتين في سوريا إلى شنكال في كردستان العراق، يتقاطع الإسلام المحرف بشروره مع العنصرية القومية بأحقاده، لتنفذ خطط القضاء على حلم الشعب الكردي في الحريتين، القومية والدينية للذين يعتنقون الديانة الإيزيدية بينهم، الطامحين بعيش إنساني في عالم يسوده الإسلام، بعد أن اجتاحتهم 73 فرمانا، منذ المد الإسلامي الأول للمنطقة إلى الحاضر الموبوء الجاري،
جميعها من مبشري الدين الإسلامي نفسه، وتحت ذرائع متنوعة، ومن قبل تيارات مذهبية إسلامية مختلفة، معظمهم تشربوا مفاهيمهم و ثقافاتهم ورؤيتهم للأخر من المنبع نفسه، حيث القرآن والحديث وتأويلاتهم، يسندونها إلى الدين الذي يدعي الداعشيون اليوم بانهم يحملون رايتها، تلك الراية السوداء التي رفعت فوق الآلاف من المعارك الدموية على مر التاريخ الإسلامي، وتحت فيئها  حصلت المئات من المجازر وبحجج متنوعة، تلك المجازر التي بدأت باليهود والنصرانيين في الجزيرة العربية، منذ السنوات الأولى  للهجرة وما بعدها، والتي أدت إلى انعدام الديانتين من منطقة الإسلام الأولى  بكليته، والانعدام لم يأتي باعتناق الإسلام بقدر ما جاء على استخدام حد السيف في الرقاب، والأمثلة عديدة، ومنها آل زوج الرسول حفصة بنت حيي بن أخطب بعد معركة خيبر.
 وما يحصل اليوم على أرض شنكال من المجازر، انعكاس لتلك الثقافة الخارجة من أعماق الجاهلية، ويسكت عليها العالمين الإسلامي والعربي بل والعالمي، وهي لا تقل عن المجازر التي تحصل في مناطق أخرى ليست ببعيدة عنها مسافة، وتحرك الإعلام العالمي بأوسع أبوابها، وهو دليل على أن المحاط بكردستان، حكومات وقوى ركيزتهم الكراهية والحقد والعنصرية، فهم يشتركون في  مفاهيم وغايات معظمها لا تختلف بالإتيان على كردستان ومن فيها، لأنها بقعة جغرافية وشعب يحملون أبعاد فكرية وثقافة حضارية تطمح إلى الحرية ليس لذاتهم بل لكل من في المنطقة، وبإمكانها أن تكون ركيزة لقيام دول ديمقراطية وسنداً  لنشر مفاهيم الإخاء والتصالح بين الشعوب والأديان في المنطقة.
   وما جرى ويجري، بشكل عام، في الموصل من المجازر والتدمير الممنهج ضد الطوائف والمذاهب والشعوب المتعددة هناك وما حصل في الرقة سابقاً، وما دار من صراع على تخوم كردستان الغربية وعلى أطراف مدنها كـ (سري كانيه وكوباني وإعزاز وعفرين)، وما يحصل الأن في شنكال وإيزيدييها، تتجاوز تكتيكات آنية كعملية الإبادة المخططة ضد الأديان العريقة في الشرق، بل إنها استراتيجية يشترك فيها قادة من المذهبين السني والشيعي، في الخفاء حتى ولو كان الصراع بينهما في العلن، لكن في الواقع الفعلي تربطهما، الكراهية والعنصرية، تجاه كردستان قادمة، والشعب الكردي وبخاصة مكوناته الدينية من الإيزيديين والمسيحيين وغيرهم، ويدفع ثمنها جميع الشعوب المتواجدة في المنطقة ومن ضمنهم العرب، المسلمون من جميع المذاهب، والأديان الأخرى. إلى جانب المصالح الاقتصادية، ومناطق نفوذ، وسلطات تدعم بعضها، وتوزيع جغرافيات، وحصص على المراكز الغنية بالنفط والغاز.
   فمن توزيع الأدوار ضمن الاستراتيجية، كالقضاء على الثورات في الشرق، وعلى الشعوب التي شاهدت بوادر حريتها من خلالهم، أو الشرائح الوطنية من الشعب التي تأمل بمستقبل نقي لا وجود للأنظمة الفاسدة، إلى التكتيكات الخاصة بتوزيع مناطق النفوذ، وطرق توسيع السلطات، يمكن معرفة الكثير عن تبادل الأدوار بين التيارات التكفيرية والسلطات الشمولية في المنطقة. فعملية تخلي السلطة السورية عن مدينة الحسكة، وسحب الجيش منها، وتركها للقوات الكردية، والبقاء كسلطة متخفية متمركزة في قامشلو، خدعة عسكرية وسياسية، يندرج ضمن تكتيك خبيث، مشابه لما فعلته حكومة المالكي في مدينة موصل، والحالتين، كاف لخلق الشكوك العميقة حول أسباب مهاجمة قوات منظمة تدعي المذهب السني على منطقة سنية كردية أفرغت في كثيره من ديمغرافيتها، وموجهة لتحقيق أجندات قادة المذهبين المتعددة في المنطقة الكردية والتي يوصلون عفرين بكوباني وحتى شنكال، من ضمنها الاقتصادية، حيث مناطق النفط الغنية على أرض كردستان، والسياسية، لديمومة السيطرة بأدوات تستخدمهم عند الضرورة. والعملية العسكرية الجارية في المنطقة الكردية لا تعكس ضعف السلطة أمام القوات الكردية أو هجمات داعش في المنطقة الكردية ضمن سوريا، ولا ضعف القوات العراقية والبيشمركة أمام داعش على أطراف شنكال وموصل سابقا، بقدر ما هو مخطط ماكر وخبيث تخدم أجندات ذاتية، ولتثبيت استمرارية هيمنتها على المنطقة القادرة على تحريك الآخرين حسب أجنداتها.
في حقيقة الأمر، وفي خضم الصراعات التي تتجاوز جغرافية سوريا، والتي خططت لها السلطة السورية بخبث ودراية، أعدمت الحجج التي تدفعها لمواجهة التيارات التكفيرية، التي دعمتها وتدعمها بالأسلحة، وبالطرق المتنوعة، وتقدم لها خططها، لتنفيذ أجنداتها داخل وخارج سوريا. وللتغطية على الخدع الجارية، تنفذ عمليات عسكرية ضدها على قدر ما تقدم لها من دعم لوجستي، وعلى المستوى الذي يجب أن تكون عليه، وهوما فعلته وتفعله حكومة المالكي حاضراً، وبمجملها معارك للتغطية على زوايا الالتقاء بين التكفيريين والسلطات الشمولية، وهنا تدعم هذه التيارات بشكل متدرج لتكون قادرة على مواجهة الكرد والمعارضة السورية معا، وإسكات الشرائح الداخلية ضمن المنظمة نفسها، والتي تنتبه إلى ريائها المستورة، أو للتيار السني الروحي في المنطقة، وخير مثال عليه الهجمات المتكررة على كوباني في غرب كردستان، مع سكوت السلطة السورية، والخطط المعدة مسبقا لإجتياح شنكال والقيام بالمجازر الشنيعة بحق الكرد الإيزيديين.
  فهما، بإخلائهما لمدينة الحسكة في سوريا، وإخلاء حكومة المالكي عن المناطق الكردية ومن ضمنها الموصل، وتركها بدون حماية وبدون مواجهة حقيقية مع قوات داعش، يطمحون إلى تحقيق عدة غايات منها:
1- ترك المنطقة لقوات كردية منفردة بدون سلاح كاف، ومسنودة من حزب بقي وحيداً في الساحة، كمثال الحسكة، لتواجه المنظمة التكفيرية المدعومة بأسلحة السلطة نفسها، وهي بهذا الأسلوب والتي خططت لها على مدى سنوات الثورة السورية، حققت الكثير من خططها ضمن المنطقة الكردية، فمن المعروف بأنها السلطة الشمولية التي تمكنت من تشتيت الحراك الكردي السياسي على مدى العقود الماضية، واليوم تستخدم نفس الأساليب الخبيثة لتقليص القوة الكردية وتفتيتها في سنوات الثورة السورية، وفي الفترة التي كانت الظروف فيها مهيأة لتحقيق ذاتها كطرف ثالث أو معارضة وطنية وقومية لها هيبتها على الساحتين الداخلية والخارجية، خلقت خلافات كردية- كردية، ووجهت أبشع التكفيريين نحو المنطقة.
2-  تمكنت بسياستها المتقلبة بين الأطراف، خلق الصراع الكردي-العربي، حتى ولو كانت القوى المواجهة تيارات إسلامية متطرفة، وبوجود شريحة عروبية متعصبة، غارقة في ثقافة البعث الشوفينية، والملغية لغير العربي، وما نراه اليوم من اجتياح قبائل عربية تحيط بمنطقة شنكال تدعمهم داعش لنهب أموال الإيزيديين الكرد وسبي النساء وقتل شبابهم الذين يأبون اعتناق الدين الإسلامي، وقبلهم للمسيحيين في موصل، مثال صارخ لمدى تشعب ثقافة الحقد والكراهية والعنصرية تجاه الأخرين.
3- التأكيد على أن تبقى القوة الكردية في أضعف حالاتها، راضخة لإملاآتهم، والمنطقة في حالة مستمرة من الإفراغ الديمغرافي، رغم أن الفراغ المأمول قد بلغوه منذ فترة، إلى جانب هذا وذاك هناك إلى جانب الديانة الإيزيدية التاريخية والمسيحيين، البعد السني للمنطقة الكردية والذي يبحث في عملية تهميشه أو عزله عن القوى السنية الإقليمية.
الخطط والتآمر، على الكرد وعلى المنطقة مدروسة وبدقة. دعم قوات داعش بأسلحة الفرقة 17 وفوج الميلبية المدرع، ومن ثم لحقهما أسلحة اللواء 93، وقبلهم  أسلحة الفرق الثلاث التي تخلت لهم عنها حكومة المالكي، مخطط سبقها توزيع المنظمة بين سوريا والعراق، ونقل التجارب بين الدولتين، بدايتها القضاء على الصراع السلمي، ومن ثم نقلها إلى صراع بين السنة والشيعة، بعد أن كان بين الشعب والسلطات الشمولية، واليوم تدفع لأن يكون بين العرب والكرد، أو سنة العرب والكرد والمسيحيين، أو الشيعة والكرد، والغاية منها في غرب كردستان، إضعاف قوة الكرد الذين حملوا السلاح بشكل شرعي، واصبحوا السلطة المهيمنة العلنية على أرض الواقع،  ومضطرة على مواجه الخطر الداهم للمنطقة الكردية، إن كانت من التيارات التكفيرية أو من السلطة نفسها، وفي الواقع الجاري التيارات المتطرفة الإسلامية أو القومية العنصرية ستقوم بالمهمة نيابة عن السلطة، ومن الواضح انه لا يمكن لقوة أن تداهم المنطقة وتجتاحها بدون اخذ الضوء الأخضر من سلطة بشار الأسد، واليوم القوة الكردية المتواجدة على الأرض سيكونون وحيدين في مواجهة قوات مسنودة بأسلحة ثقيلة، ورغم تحملهم لهذا العبء الوطني الخطير، يتحملون الخطأ الذي  أدت بالمنطقة لبلوغ ما هي عليه، عدم دراسة الخطر القادم على الكرد الإيزيديين الذين هم أكثر الكرد معرضون للمجازر بسبب الخلاف الديني ومثلهم المسيحيون في المنطقة، وفي المنطقة الكردية ضمن سوريا لعدم  الشراكة الكلية في الدفاع، وذلك إما بعدم إدراك اللعبة السياسية العسكرية، أو بتصديق نوايا الأسد، أو الهلال الشيعي، والخطأ لا يزال مستمراً، بالإصرار على منطق التفرد بالسلطة وإدارة المنطقة وحمايتها دون القوى الكردية الأخرى، أمام خطر المداهمات والهجمات الخارجية المشتركة بين الحاقدين من الإسلام المتطرف والعنصريين القوميين.
  والغريب أن السلطة السورية مهدت لعمليات إثارة الحرب ضد المنطقة الكردية، وجعلها مقبرة للأدوات التي انتهت مهماتهم، بالاسلوب الذي تتبعه الإدارة الأمريكية والروسية في منطقة الشرق الأوسط للقضاء على التيارات التكفيرية الإسلامية والسلطات الشمولية المنتهية مفعولهم، وتقترب المنطقة من صراعات أكثر دموية بين التيارات التكفيرية ربيبة السلطات نفسها والسلطات الشمولية، مهماتهم الرئيسة تكاد تنتهي، وربما تجاوزوا حدود المسموح لهم من قبل السلطات العنصرية، وهنا تبدأ خطط الدول الكبرى المعنية بأمور المنطقة، بأن يضعفوا بعضهم البعض.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…