والخوف من أن يخسر الكرد بشمالهم ما كسبوه بيمينهم

 ابراهيم محمود

” إلى د. محمود عباس ، حيث يكون ”

من أولى سمات المقهور، فقط للتذكير: المبالغة، والمبالغة تشمل الاتجاهين في رد الفعل تجاه العالم: الإفراط ” في تمثَّل عنف معين “، في مواجهة قاهره: السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي، التاريخي، حيث تتاح الفرصة هنا، والتفريط ” في اتخاذ المبالاة، أو الخضوع للمزيد من الاستبداد وفعل الإيذاء والتزام الصمت السلبي، جرّاء القهر ذاته ” .

ردَّا الفعل متشابهان جهةَ القوة في الضغط: خارجاً في الإفراط، وداخلاً في التفريط، وفي الحالتين يكون التأثير مخلّاً بالنظام الحيوي للجسم وآلية التركيز لانتفاء التناغم !
هذا يشمل شعوباً، جماعات، أفراداً، على مستوى التنوع، حتى نحول دون التعميم، لأن الثورة على القاهر/ المستبد، لا تعدو أن تكون قيامة المقهور” بنسبة معينة ” وتنبيه آخرين، على القاهر المذكور سابقاً . إنه وضع هيجاني موجَّه، في قالب ثورة، انفجار، أو سَورة جماعية معينة تكون مصوَّبة بقواها الخارجة نحو هدف معين وما يصل به قولاً وفعلاً، أو كتماً عنيفاً لذلك، كما هو حال الرضوخ أو الاستسلام، وما يترتب عليه من إيذاء مضاعف يتملك الجسم بنيوياً .
ولكَم عاش الكرد قهرهم الخاص: عنف غريبهم الطاغية المسلَّط عليهم، كشعب موشوم وجهاً، وجسداً، وذاكرة وفي العمق منها، ومشاعر ولغة وكينونة…الخ، بقهر لم يطلبوه ولم يوافقوا عليه، ولم يمضوا عليه هم، إلا لقوى قاهرة سافرة فاقت قواهم، وكان ما كان في الزمان.
وفي الفرص المتاحة، وتلك التي يندفع فيها الكرد، في هذه الجهة الكردستانية أو تلك أو أكثر، وهم يعلنون قيامتهم على قهرهم، وعلى الغل فيهم من قبل طاغيتهم، قاهرهم التاريخي والجغرافي معاً خصوصاً، يمكن التعرف هنا، وعن قُرب ، على ” خطاب ” القهر: مفردات، وسلوكات مرافقة، وهو الواصل بين قاهر ومقهور وضمن فسحة مركَّبة: زمانية- مكانية !
ولأن المقهور مكبوت في داخله، لصعوبة القدرة على المجابهة خوفاً أو تخوفاً ” هل يحتاج ذلك إلى المزيد من الإيضاح أو المضي في المنحى ذاته ؟ “، يكون فعل التصرف أبعد مما هو متوقع، كما هو فعل القهر التاريخي المتراكم، وهو بمشهديته الزلزالية بدرجة ما.
القاهر هدف المقهور في كل ما يعنيه مادياً ومعنوياً، إذ يصبح بدوره في نظرة المقهور مجموعاً واحداً ” بلوكياً “، وكأن استواء رغبة المقهور واسترداد النفِس الطبيعي لا يكون إلا بالقضاء على هذا المجموع، وإزالة كل أثر دال عليه .
لكن القاهر بإطلاق، وبالنسبة للكرد ليس واحداً، ولا يتحدد بسهولة، لأن ثمة تاريخاً مشتركاً يجمع بينهم وبين الذين قهروه وتحكموا به، وما زالوا، حيث يستحيل، وبسهولة، كما يتصرف معنيون بهذا الشأن من الكرد والكم وافر، إجراء الفصل القطعي بين المتعلق بهم، وما يرتد إلى أعدائهم المعنيين بأمر عدوانهم عليهم وتحكمهم في مصيرهم .
ثمة ثقافة، لا بل ثمة ذاكرة لا تقرَأ تشريحياً، لأن التداخل القائم يخفي علاقات وقيماً ومشاعر مشتركة، تعدِم مثل هذا التحديد القطعي، وللدين علامته الفارقة ” الإسلام، كما هو معروف “، وهذا قد يكون اختباراً لقهر الكرد إزاء أنفسهم قبل أن يكون تجاه أعدائهم حيث يكونون .
لا أدل من ذلك، لحظة النظر في كل انتفاضات الكرد، وثوراتهم، وعصياناتهم ” إن أجيزت العبارة “، وهبَّاتهم، ومقاوماتهم الجماعية والفردية …الخ أيضاً، حيث يبرز الرابط الديني نافذ المفعول، ومؤثراً في مسار الفعل، وفي نتائجه التي تكون وخيمة في بعض الحالات، لأن المشهد لا يتمثل في المتداول كثيراً ” مع – ضد “، عبر انقسامات الكرد، عبر الانطلاق من خاصية الرابطة الدينية، وما أوسعها وأكثرها تشعباً من رابطة مرئية ولامرئية.
راهناً، وفي هذه الأيام العصيبة جداً ” رغم أنني أتحفظ على العبارة هذه، إذ متى عاش الكرد وككرد خارج هذا المحوَّل القيمي والوصفي، سوى أنني أتشفع بلاحقتها : جداً “، حيث يسهل تلمس تحقيق مكاسب من قبل الكرد، وقد ” تحلحل ” وضعهم السياسي، أي خفّف قهرهم دون أن يزول قاهرهم، ودون أن يشب المقهور داخلهم عن طوق قهرهم المديد بتاريخه وأثره العنيف، ولأن ظروفاً كانت وراء كل ذلك وفي أكثر من جهة كردستانية ” هنا، في إقليم كردستان، يكون النموذج الأكثر قابلية لقراءة بريده السياسي والاجتماعي والنفسي والثقافي ..الخ “، وترتباً على الغزوة الداعشية المنكرة، من اليسير إيجاد كم وافر من كردنا، وهم بكامل وعيهم، عبر ردود أفعالهم في القول والسلوك العملي، يجهرون بلزوم إزالة كل ما يخص الخصم وما يمثّله تاريخياً، وأن الاستقلال التام لاحقاً، هو الحل الوحيد، أي بتمثل فعل انتقام معمَّر.
لكَم أطرب لذلك ، كأي كردي، قبل أن أكون باحثاً، وكباحث كردي، وأنا أقدّر المطلب العظيم الجليل لكردنا الذين يشددون على ذلك، سوى أن طربي هذا سرعان ما يفقد نصف مفهومه ” لعلم من يعلم من أهل اللغة، أن الطرب مركَّب المعني، وهو أنه حصيلة الفرح والحزن معاً “، أي ” فرحي بما هو منتظر “، ليكون ” حزني/ خوفي ترجمةً إزاء المتحصَّل “، وأنا أعاين ما هو كردستاني وتاريخي وليس مقتطعاً من تاريخه، أو في جهة دون أخرى، حيث يتراءى قهر الكردي الصاعد هنا.
لن نفرض جدلاً بالقول، إنما نقول دون افتراضه هذه المرة لدقة المطروح والمرفوع: إن مجرد المضي قدماً بهذا التصور، أشبه بفعل انتحار تاريخي، نفسي، اجتماعي، وربما كارثي ” إن أراد المعنيون بمفهوم الثورة، أو سحر ” الحل الجذري ” وما شابه، الذهاب بالمطلب المعروض والمحدد حتى نهايته من جهتهم “، لأن المتاح لهم لا يتيح لهم سوى التحرك ضمن فسحة جغرافية، سياسية معينة، وهذا يتطلب” وهنا بالذات ” قدْراً ملحوظاً من الضبط الذاتي الجماعي، وحراسة للذات الجماعية، وتحديداً حين يمكن تسمية هذا المطلوب التخلص منه: كل ما يجمع الكرد بأعدائهم بالجملة ” على المستوى الديني الإسلامي “.
إن رد الفعل تجاه ما هو ديني ” حيث يكمن الخطر الداعشي ومن يمثله ويتحرك بموجبه هنا وهناك، وهو بعنفه الطاعوني طبعاً، يصلنا بفعل القهر المشار إليه، لأن هذا الدين ليس بالأمر السهل تدارك حدوده ومفاعيله، وحتى بالنسبة للذين يتم لتعامل معهم باعتبارهم ممثّليه الأوَل: العرب هنا تحديداً، يكون من المستحيل، وليس الوارد الممكن فقط، رسم حدود لعلاقات مستقبلية في السياق القطعي، كون الدين لم يعد ومنذ مئات سنّيه مجرد تنازل عما كان عقيدياً فقط لصالح ما هو مستجد: الإسلام، لأن علينا أن نسمّي مجمل القيم ولائحة العلاقات التي تتلون بها، وحتى في النطاق الأدبي: الشعري” ماذا يبقى من بابا طاهر الهمداني، والجزيري، وخاني..؟ “، ومنا بالذات، حيث الديني ليس جلداً من الخارج، ولا أدل على ذلك من أن ” سقوط/ رسوب ” الكرد في عملياتهم الانتفاضية وفي ثوراتهم وهبّاتهم، ارتبط بطريقة التحضير للامتحان، أو النظر إلى ” الأسئلة ” ومن يعنى بها، حيث الامتحان لا يأتي من الخارج فقط، وإنما من الداخل كذلك، وتلك هي المعادلة الكبرى، والحاسمة والخطرة” على طريقة النظر في عبارة: احذر توتر عالي إزاء مولّد كهربائي، مثلاً “، لا ينبغي، ولا بأي صورة تجاهلها في درسها المصيري، ومن قبل المعنيين بخاصية الديني وما يصل الكرد بالآخرين: العرب وغير العرب في الجوار وفي أوساطهم طبعاً.

ولعلّي، حين أستشرف تلك الطريقة من التعامل التي يعتمدها أولو أمر كرد من سياسيين وخلافهم وهنا في إقليم كردستان بالذات، في المنحى الديني، وتجاه الآخرين، وهي سياسة تخرج عن هذا الخط المقلق: المتوتر جداً، ورغم وجود الضحايا، والقهر الذي يضغط على نفس كل كردي لأسباب معروفة على أعلى مستوى، وإزاء الجاري خصوصاً، يتملكني بعض التفاؤل، دون أن أنسى قهري، وما يصلني بعمود من أنتمي إليهم كردياً، إنما أيضاً من يربطني بهم” أنا وغيري ” من أهل الضاد وخلافهم، حيث القهر لا يحمل بصمة الكردي فقط أو يسميه وحده، إنما الآخر أيضاً يعاني قهراً، حتى وهو في مظهر القاهر، وهذا يحفّز على المزيد من التروي والتبصر، حتى يخسر الكرد بشمالهم ما كسبوه بيمينهم . أتوقف هنا، لأهدئ قهري قليلاً !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…