2-هل لداعش وجود فعلي الآن حقاً ؟
الاتجاهات معاً، ولا يستطيع أحد السيطرة على هذه العملية..)
الحاكمة وشاهدة العيان على الجاري، وذلك من خلال الاحتكاك المباشر بجماعات داعش،
في أمكنة مختلفة من مناطق انتشارها: في سوريا والعراق قبل كل شيء، وعلى أكثر من
جبهة متنقلة، فمن المستحيل إذاً تكذيب النظر .
الرؤية العيانية، أو الاحتكاك المباشر، إنه يتركز على ما إذا كان داعش يتنشط بوصفه
ماسك زمام أمره، وأن ما ينقَل عنه وباسمه يعنيه في الصميم، أي ما إذا كان المتعلق
بداعش يعود إليه، بالأصالة وليس بالوكالة، وأبعد من هذه؟
على أكثر من مستوى تتنافس المعلومات”
إنها تعيش حربها الإعلامية: في الفضاء: عبر الأقمار الصناعية، حيث تنتشر غرف
عمليات مصمّمة غاية في الدقة والتصويب والتوجيه، من عل، وهي متنقلة تبعاً للمعطيات
الخبرية وما يراد منها في هذه الجهة من العالم أو تلك، من منظور القوة المسيطِرة،
وعلى الأرض، عبر مخططات وخطط، ونظام شيفرة غاية في السرّية، حيث الخفي هو الأعظم،
والخارج عن السيطرة بوعي كوكبي هو بؤرة التحدي. “، إنما يُستدرَك هنا بأنها
صراعات محسومة سلفاً، استناداً إلى تفاوتات القوى الفاعلة أرضياً، وكون داعش منزوع
السلطة المباشرة، منزوع الهوية التي تسمّي نظاماً دولتياً بعينه، وتلقي جهة أوامرية
معينة، ولا بد أن داعش رغم كل حمولته من الإرهاب المادي والمعنوي، زُج به لأداء
دور في قاطرة العنف الكوكبية، بقدر ما رؤي في مرقّمه الديني ومعلّمه العقيدي
التكفيري، البطاقة الائتمانية المساومَة والمدغمة مع الاسم المركَّب بعد تمحيص،
وكونه يؤدي أكثر من دور في آن، ولو لم يوجد لاُبتدع بشراكات متعددة الجنسيات، سوى
أن الحامل الإسلامي مرشَّح لقابليته على تجسيد المبتغى منه، لهذا لا يجب النظر إلى
داعش على أنه جملة كيانات بشرية، تقاتل، وتداهم، ومن ثم تمارس جرائمها، أو
إرهابها، ولها نقطة بداية ونهاية، ونظام إجازات، ومناوبات..الخ، وهذا يضعنا في
مواجهة واقع غير المسمى حدودياً بين الدول، وسيستام سياسي واستخباراتي وعسكري
وحربي ودعائي يتجاوز حدود التلقي الانترنتي والتلفزيوني المباشر، عندما يجرّد داعش
بافتراضه تنظيماً من حقيقة كونه جماعات ذات عقيدة خاصة، وتثبَت صورة أخرى: تلك
التي تقيم داعش في الواجهة الحسية، وتشغل الناس بمختلف مراتبهم، وثمة جنسيات
خبرية، أو إعلامية مجهولة، تحول دون متابعة أصولها، كما هو المتردد عن أدوار داعش
تكويناً وكياناً !
رؤية داعش على الأرض، حيث يجري التحرك
والانتقال من مكان إلى آخر، وكذلك عبر عمليات قتل الآخرين وخطفهم وسبي نسائهم
” مع كرد شنكال الإيزيديين نموذجاً “، ونهب البيوت وسلب الناس، وإتلاف
كل شيء، علامات دالة على أن هناك تخريباً وتهريباً ملموسين، سوى أن ذلك لا يحفّز
أي جهة قانونية دولتية أو أممية أو حقوقية معينة، على ملاحقة أي من هؤلاء المعنيين
” من الإرهابيين “، ليس لأنهم مبرّأون من أي تهمة، بالعكس، إن التهمة
ثابتة عليهم بالجملة، إلا أن الشرط الوحيد الأوحد لإحالتهم إلى القضاء ومحاكمتهم
هو وجود إمكانية قانونية في هذا الإجراء، من خلال مؤسسات أو عمق اجتماعي وسياسي
قائم، وكل ذلك لا وجود له إطلاقاً، فهم غير مقيمين من حيث المبدأ، وحتى يتحقق
الشرط ذاك، في رقعة جغرافية ويُتمكَّن من القبض عليهم، بما أنهم في المجمل يعرّضون
أنفسهم للقتل مباشرة، ويحاولون ألا يتركوا شيئاً وراءهم، كما لو أن دياركهم حيث
يحلّون ويقيمون، وكونهم رحالة ولا يعبّرون عن انتمائهم إلى كيان سياسي دولتي رسمي
لتثبيت الجرم، إلى جانب عدم وجود جهة سياسية حكومية، أو طرف حكومي في أي مكان في
العالم، يفصح عن تبني السلوك الداعشي.
وفي الوقت نفسه، نشهد بالعين المجردة، ومن
خلال وسائل الإعلام هذا الحراك الملموس لداعش، وهذا لا يحتاج إلى برهان، وليبقى المشكل
المتعلق بطبيعة هذا الجاري باسم داعش: انعدام الوصل القانوني- الحقوقي بين داعش
وطرف سياسي يُهتدى إليه، ليكون الجزاء.
ذلك ما يحيل داعش على مستوى مجمل العمليات،
إلى قضية متعدية للواقع، إلى التفكير المباشر في عالم الميديا، حيث تتقافز الصور وتركَّب
أو تتناسل، كما تتزاحم الأخبار والمشاهد التي لا تدع أي سياسي، وعلى أعلى مستوى
سياسي، برتوكولي، دبلوماسي في العالم، في وضعية صمت أو عدم اكتراث، وهذا يزيد
الطين بلة، أو انطلاقاً من ميكانيزم المستحدث الداعشي، تتم بلبلة الفكر المعني،
وتتويه اللجان الحقوقية في العالم، بقدر ما يثير الخيال الشاعري، وهو في أكثر
مستوياته نشاطاً في مسعى لتعقب خيوط داعش، رغم أن الخيال الشعري يقوم على كم معين
من الصور البلاغية والوصفيات، والعائد إلى داعش يستند إلى قرائن/ مستمسكات.
ربما هي انعطافة جديدة، ليس في مستجدات
منظومة القيم العالمية، وخاصية الحدود بين الدول، وما يلحق الكوكب الأرض بشبكة أخطبوطية من
الميديا، والإيقاع بالضحايا وبأشكال مروعة، كأننا في عهدة حكايا ” السعالي
الليلية ” وهي تنال من كل من تريد إيذاءه على طريقتها .
الحدث يقود الواقعة، الخيال على أشده يتحكم
بالمشخص ويقوم بتصريف أعمال، اللامرئي يعزّز من رهبة المرئي رغم أنه يتنفس بيننا،
داخلنا، معنا، حيث نأكل ونشرب، ننام ونستيقظ، حيث نتابع منخرطين في داعش وبلغاتهم
” العربية قبل كل شيء، وخلافها “، لكن عزلاً في الحال يظهر، أو يتراءى
بين هؤلاء وبين أمكنة يسهل الوصول إليها ومحاصرتها، هو الجاري.
كل ذلك يعيدنا إلى نقطة البداية في متاهة
لعبة كابوسية، كوكبية، مجنحة، ودموية.. إذا كان لنا أن نعتبرها بداية، بما أن
البحث عن البداية أول اللغز المعذّب للذاكرة المكانية.
هذا يرفع من سقف الداخلين في اللعبة: من
المتلبسين بالجرم المشهود، جرّاء حنكة تقنية لا يمكن التنكر لأصحابها، ومرونة من يشرف عليها،
ومراوغة المنفذ، وتلوُّن الناظر في النتائج.
كل ذلك يبقي السؤال العنوان قابلاً للطرح
تباعاً: هل لداعش وجود حقاً، بالصيغة سالفة الذكر؟
======
ملاحظة: كما نوَّهت في نهاية المقال الأول،
فإن المثار هنا، يعقب ما ورد في سياق مقال جان بودريار ” حرب الخليج لن تقع
“، ويأتي قبالة ” هل وقعت حرب الخليج حقاً ؟ :
La Guerre du Golfe a –t-ell
vraimen lieu ?
وذلك في 6 شباط 1991، وكما أكدت هناك، أشدد
هنا على أن المثار في المقال سابقاً، وهنا، لا يستنسخ أفكار بودريار، إنما في ضوئها
تصاغ أفكار أخرى وتتغاير، لتغاير المعطيات، وحسب المتابع أن يمعن النظر، إن أمكنه
التروي، في الفارق الموجود، وما يترتب على كل خطوة.
حسبي أن أكرر أن الذي أقوم به، ليس أكثر من
مغامرة فكرية، بحثية، استنطاقية، واستشرافية، يتداخل فيها الشرق مع الغرب، الشمال مع
الجنوب مشهدياً، إزاء أخطر مستجد غير معهود، أكثر مما حاول بودريار مكاشفته،
والتصدي له، دون التفكير في تلك ” العواقب ” النفسية وغيرها والمترتبة
على إجراء كالذي كان وقتذاك، وما يُسمى هنا.