صالح بوزان
الواقع الذي يسود في الشارع السوري بهيمي بكل معنى الكلمة. ولم تعد للكتابة أي تأثير علبه، وربما أصبحت الكتابة عنه شيئاً من العبث مثل العبثية التي تسوده. في الحقيقة عندما كان الكاتب السوري يكتب منتقداً الواقع الذي يسود في بلده، كأن ينتقد النظام الاستبدادي السائد منذ نصف قرن، وما قام به خلال أربع سنوات الأخيرة من جرائم تجاوز فيها الطغاة البرابرة البدائيين، أو ينتقد صبيانية فصائل المعارضة المختلفة، كان الهدف من الكتابة ثلاث مسائل على أقل تقدير. الأولى توعية الشعب لكي يستيقظ من السبات الذي يتحكم به، وبالتالي ليقوم بالثورة ويستمر عليها حتى النصر. والثانية إضعاف عقلية النظام الديكتاتوري معنوياً لكي يرضخ لمطالب الشعب في الحرية والديمقراطية، والثالثة إخراج المعارضة من صبينتها ودفعها إلى المسؤولية الوطنية العامة.
نحن جميعاً، هذا ما أعتقد، فشلنا في تحقيق هذه الأهداف الثلاث خلال نصف قرن من حكم حزب البعث، وخلال المسيرة المؤلمة للثورة السورية. لقد تبين أن بنية نظام الحكم في سوريا لديه مناعة عمياء ضد أي تأثير معنوي، فهو خارج النطاق الإنساني. وبالتالي فالكلام الإنساني لا يفهمه ولا يؤثر عليه. إلى جانب أن العقلية الصبيانية للمعارضة هي بنية متأصلة فيها فكرياً وسياسياً. أما الشعب السوري، والكارثة هنا بالدرجة الأولى. نجد أن الآلاف الذين كانوا يخرجون في المظاهرات السلمية تشتتوا بين المقابر والسجون والمنافي. والباقون، توزعوا بين النظام وتلك الكتائب المسلحة التي تعشق الدم مثل النظام بوحشية مقيتة. وأقصد بالباقي الذين يتحركون على الأرض وليس المنكفئين على أنفسهم لسبب من الأسباب.
في عام 2003 كتب عقيل العويط في جريدة النهار اللبنانية مقالة ذكر في مقدمتها وهو يقتبس من “الصفر والمطلق” لسان آرتور كويستلر:” إذا أراد أحدهم التصدي للدكتاتورية فعليه أن يشهر الحرب الشعبية كوسيلة لتحقيق هذا الهدف. وإذا نكس هذا الأحدهم وعدل عن ذلك خائفاً أمام مثل هذه الحرب فعليه أن يتخلى عن المعارضة والاعتراض وأن يقبل بالديكتاتورية”.
إنه استنتاج مؤلم دون شك. ولكنه حقيقة. غير أن ما كتبه هذا الكاتب ينتمي إلى فكر القرن العشرين. ففي القرن الواحد والعشرين تغيرت المعايير. وربما كان الكاتب يقصد بالدكتاتور على صعيد أوروبا حصراً. بينما على صعيد العالم المتخلف عن الحضارة المعاصرة، نجد أن الدكتاتور لا ينتمي إلى شعبه ولا إلى وطنه، فهو ينتمي لسلطته حصراً. نحن نعرف ثلاث رموز كبيرة من الدكتاتوريين في القرن الماضي، وهم هتلر وموسوليني وستالين. هؤلاء الثلاثة كانوا من أشرس الدكتاتوريين في التاريخ الحديث. لكنهم جميعاً لم يتنازلوا عن شبر واحد من وطنهم, بل كانوا يسعون لتوسيع خارطة وطنهم بالاحتلال. وكان لديهم عشق وثني تجاه شعوبهم، لدرجة أن الشعار الأعظم لدى النازيين كان “ألمانيا فوق الجميع”. أما الدكتاتور في الشرق، فلديه الاستعداد للتخلي عن أجزاء من الوطن من أجل تهدئة العدو لكي لا يزعزع سلطته. ويعتبر شعبه مجرد أسرى وسبايا. وبالتالي لديه الاستعداد لقتله بالجملة (كما يحدث في سوري) وبيعه في معارك رخيصة مادام كل ذلك يحمي سلطته من الانهيار. في المقالة السابقة للكاتب عقل عويط يذكر على لسان كاتب آخر هو خورخي لويس بورخيص ما يلي: “.. أن الشيء الأدهى الذي تأتي به الدكتاتورية هو البلاهة، خصوصاً عندما يتمكن الدكتاتور من جعل الشعوب “بلهاء”، فيستأصل العقول والأفكار ويمسح إرادة الحرية مما يؤدي إلى استتباب نظامه وإسلاس القيادة له”. هذا ما وجدناه من حكم القذافي وحكم حزب البعث في سوريا والعراق، وما نجده اليوم كيف تحول هذا القسم من البلهاء من ثوار كانوا يطالبون بالحرية والديمقراطية إلى مجموعات توزعت في التنظيمات الإسلامية المسلحة مثل القاعدة والدولة الإسلامية وغيرهما والتي تقيم في مناطق نفوذها أبشع أنواع البهيمية البشرية.*
هل بإمكان الكلمة التأثير على توحش النظام وعلى بهيمية الكتائب المسلحة الإسلامية وغير الإسلامية؟ لا أعتقد ذلك. والواقع العملي على الأرض دليل قاطع على فقدان تأثير الكلمة على جميع الأطراف وكذلك على الشعب.
لدينا في الشرق حكمة غير معلنة، وهي إذا أرد أحدهم أن ينتصر ويؤمن ديمومة سلطته، يجب عيه أن يمارس أقصى أنواع الشدة ضد من يعارضه أو ينافسه، والأهم ضد شعبه. هذا ما فعله جميع الدكتاتوريين في الشرق الأوسط، من خميني وآياته، وصدام وزبانيته، وحافظ الأسد الأب والابن وباروناتهما الأمنية، والقذافي وعبيده. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد. فتلك القوى التي تدعي الحرب الشعبية ضد الدكتاتورية، سواء من الإسلاميين أو من اليمين أو اليسار، أو من الأحزاب الصغيرة والكبيرة، هم جميعاً طغاة بمستوى السلطة التي يحصلون عليها. وكلما ازدادت دائرة سلطتهم ازداد طغيانهم ووحشيتهم.
سأورد بهذه المناسبة حدثاً تاريخياً بعيداً من حيث الشكل عما نتطرق له، لكنه من صلب الموضوع من حيث الجوهر. هناك كاتب ايرلندي اسمه برام ستوكر صاحب كتاب ” دراكولا”. هذه الشخصية التي نجدها في العديد من الأفلام الغربية والتي تزرع الرعب بين الناس في المدن. استعرض الكاتب اللبناني إبراهيم العريس هذه الشخصية الأسطورية عند الكاتب ستوكر في مقال بجريدة الحياة البيروتية عام 2004. يقول العريس في مقاله أن دراكولا لم يأت من العدم، ولا من خيال ستوكر، ولا من لقاءاته، بل أتى من عمق التاريخ. فستوكر غاص في تاريخ أوروبا الوسيط خلال القرون السابقة ليعثر على شخصية تاريخية تمكن من استخدامها رمزاً للعديد من المخاوف التي كانت تعصر الروح الأوروبية في ذلك الوقت. فقد وجد ستوكر شخصية حقيقية في القرن الخامس عشر في منطقة فالاكيا شمال البلقان كان اسمه “فلاد دراكولا”، وكان أميراً عرف كيف يدافع عن منطقة ترانسلفانيا ضد المولداف المتوحشين وضد الأتراك المحتلين. كان فلاد دراكولا هذا يمارس ضروباً من العقاب ضد الأعداء ولا سيما ضد الأسرى الذين يقعون بين يديه، من القسوة والعنف بحيث جاء لقب دراكولا أي الشيطان مناسباً له. وأُعتبر فلاد دراكولا في بداية الأمر بطل تحرير وطني، لكنه لاحقاً عاد وأُعتبر رمزاً للشر والعنف، ثم غولاً حقيقياً.. وراحت الأساطير الشعبية تتناقل “مآثره”. لكنه هو نفسه ذلك الوحش الذي لا يتورع عن مص دماء ضحاياه لكي يعيش في الليل حين يخرج من قبره.
لا أريد التعليق على ما كتبه العريس، لأن ما كتبه لا يحتاج إلى الشرح. لكنني أستخلص ثلاث استنتاجات. الاستنتاج الأول أن كل الذين يمارسون الحرب في سوريا يشبهون فلاند دراكولا، يمتصون دماء الشعب، بغض النظر عن الشعارات التي يطلقونها. والاستنتاج الثاني أن هؤلاء الدراكولات لم يأتوا من المريخ، بل هم خرجوا من البيئة الوطنية التي أفسدها النظام الدكتاتوري المستبد. والثالث أن هؤلاء جميعاً يستخدمون وسيلة واحدة مشتركة، وهي إرهاب الشعب وتخويفه لدرجة أن هذا الشعب تحول إلى قطيع يحركه الإرهاب والخوف ذات اليمين وذات اليسار دون إرادة منه.
إن هؤلاء الدراكولات يجتمعون مع زبانيتهم في غرف سرية، يصنعون مصانع أيديولوجية لإدخال الشعب فيها وليخرجوه منها وقد أصبح أحجاراً هندسية غير عاقلة يتطلبها البناء الذي رسموه في مخططاتهم. وبما أن الشعب السوري من حيث التعداد لا يمكن أن يتسع لمصانعهم خلال مدة قصيرة حتى يتحول إلى ما يريدونه، فلا بد إذن من تمديد مدة الحرب الطاحنة عدة سنوات حتى يتمكنوا من إعادة تصنيع كل الشعب السوري.
كل الذين استولوا على السلطة في شرقنا، بعد إزاحة الطغاة العريقين، تحولوا بدورهم إلى فلاند دراكولا يمتصون دماء شعوبهم. وحولوا شعوبهم إلى بلهاء.
كنت من بين الذين شعر بفرح كبير عندما قضت الثورة الإيرانية على نظام الشاه. لكن الآيات الذين جاؤوا بعد الشاه أصبحوا من أفظع الدراكولات. وها نجد اليوم كيف يقيم الخمينيون مهرجانات الموت للمعارضين، ولا سيما الكرد منهم. لو كانت سلطة مجرم الشرق الأفظع صدام حسين بيد المالكي في العراق، وعدم تدخل الغرب وأمريكا في شؤون العراق بهذه النسبة أو تلك، لكنا نجد في المالكي دراكولا لا يقل عن جيرانه الإيرانيين. في مصر جاء بعد الثورة الرئيس الإخواني وهو يهيئ نفسه ليصبح دراكولا مصر، لكن الرئيس المصري الحالي كان فيه الإمكانية الأكبر ليحتل مكانه ويصبح هو دراكولا مصر.. وهكذا…
في الختام أميل إلى قناعة (وأتمنى أن أكون مخطئاً) أن غالبية الشعوب في شرقنا عاقرة تجاه الحرية والديمقراطية وتجاه الحضارة بشكل عام. كانت عاقرة منذ قرون، وهي مازالت عاقرة. وإذا أنتجت… فهي لا تنتج سوى دراكولات على نموذج دراكولا برام ستوكر.
———
* في بدايات الثورة كنا نذهب من حلب إلى كوباني في شمال سوريا. وفي الطريق كنا نقف عند حواجز ما كان يسمى بالجيش الحر. كانوا يستقبلوننا بالترحاب وبتهذيب منقطع النظير. كانوا يدلوننا على الطرقات الأكثر أمانة، ويودعوننا بأحسن من الاستقبال. كانت علم الثورة ترفرف على كل حاجز نمر به. كنا نقدم لهم كل ما لدينا من المأكولات والماء النظيف. والجملة الأكثر تحبباً التي كنا نقولها لهم: الله يحميكم. أين ذهب هؤلاء؟ من قتل تلك القيم العظيمة التي أفرزتها بدايات الثورة السورية؟ أين اختفت أعلام الثورة وظهرت بدلاً عنها أعلام سوداء ترمز إلى الموت. لقد أصبح الآن لبعض من ثوار الأمس ذقوناً طويلة وألبسة باكستانية، وتتدلى من أحزمتهم سكاكين الجزارين.
في عام 2003 كتب عقيل العويط في جريدة النهار اللبنانية مقالة ذكر في مقدمتها وهو يقتبس من “الصفر والمطلق” لسان آرتور كويستلر:” إذا أراد أحدهم التصدي للدكتاتورية فعليه أن يشهر الحرب الشعبية كوسيلة لتحقيق هذا الهدف. وإذا نكس هذا الأحدهم وعدل عن ذلك خائفاً أمام مثل هذه الحرب فعليه أن يتخلى عن المعارضة والاعتراض وأن يقبل بالديكتاتورية”.
إنه استنتاج مؤلم دون شك. ولكنه حقيقة. غير أن ما كتبه هذا الكاتب ينتمي إلى فكر القرن العشرين. ففي القرن الواحد والعشرين تغيرت المعايير. وربما كان الكاتب يقصد بالدكتاتور على صعيد أوروبا حصراً. بينما على صعيد العالم المتخلف عن الحضارة المعاصرة، نجد أن الدكتاتور لا ينتمي إلى شعبه ولا إلى وطنه، فهو ينتمي لسلطته حصراً. نحن نعرف ثلاث رموز كبيرة من الدكتاتوريين في القرن الماضي، وهم هتلر وموسوليني وستالين. هؤلاء الثلاثة كانوا من أشرس الدكتاتوريين في التاريخ الحديث. لكنهم جميعاً لم يتنازلوا عن شبر واحد من وطنهم, بل كانوا يسعون لتوسيع خارطة وطنهم بالاحتلال. وكان لديهم عشق وثني تجاه شعوبهم، لدرجة أن الشعار الأعظم لدى النازيين كان “ألمانيا فوق الجميع”. أما الدكتاتور في الشرق، فلديه الاستعداد للتخلي عن أجزاء من الوطن من أجل تهدئة العدو لكي لا يزعزع سلطته. ويعتبر شعبه مجرد أسرى وسبايا. وبالتالي لديه الاستعداد لقتله بالجملة (كما يحدث في سوري) وبيعه في معارك رخيصة مادام كل ذلك يحمي سلطته من الانهيار. في المقالة السابقة للكاتب عقل عويط يذكر على لسان كاتب آخر هو خورخي لويس بورخيص ما يلي: “.. أن الشيء الأدهى الذي تأتي به الدكتاتورية هو البلاهة، خصوصاً عندما يتمكن الدكتاتور من جعل الشعوب “بلهاء”، فيستأصل العقول والأفكار ويمسح إرادة الحرية مما يؤدي إلى استتباب نظامه وإسلاس القيادة له”. هذا ما وجدناه من حكم القذافي وحكم حزب البعث في سوريا والعراق، وما نجده اليوم كيف تحول هذا القسم من البلهاء من ثوار كانوا يطالبون بالحرية والديمقراطية إلى مجموعات توزعت في التنظيمات الإسلامية المسلحة مثل القاعدة والدولة الإسلامية وغيرهما والتي تقيم في مناطق نفوذها أبشع أنواع البهيمية البشرية.*
هل بإمكان الكلمة التأثير على توحش النظام وعلى بهيمية الكتائب المسلحة الإسلامية وغير الإسلامية؟ لا أعتقد ذلك. والواقع العملي على الأرض دليل قاطع على فقدان تأثير الكلمة على جميع الأطراف وكذلك على الشعب.
لدينا في الشرق حكمة غير معلنة، وهي إذا أرد أحدهم أن ينتصر ويؤمن ديمومة سلطته، يجب عيه أن يمارس أقصى أنواع الشدة ضد من يعارضه أو ينافسه، والأهم ضد شعبه. هذا ما فعله جميع الدكتاتوريين في الشرق الأوسط، من خميني وآياته، وصدام وزبانيته، وحافظ الأسد الأب والابن وباروناتهما الأمنية، والقذافي وعبيده. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد. فتلك القوى التي تدعي الحرب الشعبية ضد الدكتاتورية، سواء من الإسلاميين أو من اليمين أو اليسار، أو من الأحزاب الصغيرة والكبيرة، هم جميعاً طغاة بمستوى السلطة التي يحصلون عليها. وكلما ازدادت دائرة سلطتهم ازداد طغيانهم ووحشيتهم.
سأورد بهذه المناسبة حدثاً تاريخياً بعيداً من حيث الشكل عما نتطرق له، لكنه من صلب الموضوع من حيث الجوهر. هناك كاتب ايرلندي اسمه برام ستوكر صاحب كتاب ” دراكولا”. هذه الشخصية التي نجدها في العديد من الأفلام الغربية والتي تزرع الرعب بين الناس في المدن. استعرض الكاتب اللبناني إبراهيم العريس هذه الشخصية الأسطورية عند الكاتب ستوكر في مقال بجريدة الحياة البيروتية عام 2004. يقول العريس في مقاله أن دراكولا لم يأت من العدم، ولا من خيال ستوكر، ولا من لقاءاته، بل أتى من عمق التاريخ. فستوكر غاص في تاريخ أوروبا الوسيط خلال القرون السابقة ليعثر على شخصية تاريخية تمكن من استخدامها رمزاً للعديد من المخاوف التي كانت تعصر الروح الأوروبية في ذلك الوقت. فقد وجد ستوكر شخصية حقيقية في القرن الخامس عشر في منطقة فالاكيا شمال البلقان كان اسمه “فلاد دراكولا”، وكان أميراً عرف كيف يدافع عن منطقة ترانسلفانيا ضد المولداف المتوحشين وضد الأتراك المحتلين. كان فلاد دراكولا هذا يمارس ضروباً من العقاب ضد الأعداء ولا سيما ضد الأسرى الذين يقعون بين يديه، من القسوة والعنف بحيث جاء لقب دراكولا أي الشيطان مناسباً له. وأُعتبر فلاد دراكولا في بداية الأمر بطل تحرير وطني، لكنه لاحقاً عاد وأُعتبر رمزاً للشر والعنف، ثم غولاً حقيقياً.. وراحت الأساطير الشعبية تتناقل “مآثره”. لكنه هو نفسه ذلك الوحش الذي لا يتورع عن مص دماء ضحاياه لكي يعيش في الليل حين يخرج من قبره.
لا أريد التعليق على ما كتبه العريس، لأن ما كتبه لا يحتاج إلى الشرح. لكنني أستخلص ثلاث استنتاجات. الاستنتاج الأول أن كل الذين يمارسون الحرب في سوريا يشبهون فلاند دراكولا، يمتصون دماء الشعب، بغض النظر عن الشعارات التي يطلقونها. والاستنتاج الثاني أن هؤلاء الدراكولات لم يأتوا من المريخ، بل هم خرجوا من البيئة الوطنية التي أفسدها النظام الدكتاتوري المستبد. والثالث أن هؤلاء جميعاً يستخدمون وسيلة واحدة مشتركة، وهي إرهاب الشعب وتخويفه لدرجة أن هذا الشعب تحول إلى قطيع يحركه الإرهاب والخوف ذات اليمين وذات اليسار دون إرادة منه.
إن هؤلاء الدراكولات يجتمعون مع زبانيتهم في غرف سرية، يصنعون مصانع أيديولوجية لإدخال الشعب فيها وليخرجوه منها وقد أصبح أحجاراً هندسية غير عاقلة يتطلبها البناء الذي رسموه في مخططاتهم. وبما أن الشعب السوري من حيث التعداد لا يمكن أن يتسع لمصانعهم خلال مدة قصيرة حتى يتحول إلى ما يريدونه، فلا بد إذن من تمديد مدة الحرب الطاحنة عدة سنوات حتى يتمكنوا من إعادة تصنيع كل الشعب السوري.
كل الذين استولوا على السلطة في شرقنا، بعد إزاحة الطغاة العريقين، تحولوا بدورهم إلى فلاند دراكولا يمتصون دماء شعوبهم. وحولوا شعوبهم إلى بلهاء.
كنت من بين الذين شعر بفرح كبير عندما قضت الثورة الإيرانية على نظام الشاه. لكن الآيات الذين جاؤوا بعد الشاه أصبحوا من أفظع الدراكولات. وها نجد اليوم كيف يقيم الخمينيون مهرجانات الموت للمعارضين، ولا سيما الكرد منهم. لو كانت سلطة مجرم الشرق الأفظع صدام حسين بيد المالكي في العراق، وعدم تدخل الغرب وأمريكا في شؤون العراق بهذه النسبة أو تلك، لكنا نجد في المالكي دراكولا لا يقل عن جيرانه الإيرانيين. في مصر جاء بعد الثورة الرئيس الإخواني وهو يهيئ نفسه ليصبح دراكولا مصر، لكن الرئيس المصري الحالي كان فيه الإمكانية الأكبر ليحتل مكانه ويصبح هو دراكولا مصر.. وهكذا…
في الختام أميل إلى قناعة (وأتمنى أن أكون مخطئاً) أن غالبية الشعوب في شرقنا عاقرة تجاه الحرية والديمقراطية وتجاه الحضارة بشكل عام. كانت عاقرة منذ قرون، وهي مازالت عاقرة. وإذا أنتجت… فهي لا تنتج سوى دراكولات على نموذج دراكولا برام ستوكر.
———
* في بدايات الثورة كنا نذهب من حلب إلى كوباني في شمال سوريا. وفي الطريق كنا نقف عند حواجز ما كان يسمى بالجيش الحر. كانوا يستقبلوننا بالترحاب وبتهذيب منقطع النظير. كانوا يدلوننا على الطرقات الأكثر أمانة، ويودعوننا بأحسن من الاستقبال. كانت علم الثورة ترفرف على كل حاجز نمر به. كنا نقدم لهم كل ما لدينا من المأكولات والماء النظيف. والجملة الأكثر تحبباً التي كنا نقولها لهم: الله يحميكم. أين ذهب هؤلاء؟ من قتل تلك القيم العظيمة التي أفرزتها بدايات الثورة السورية؟ أين اختفت أعلام الثورة وظهرت بدلاً عنها أعلام سوداء ترمز إلى الموت. لقد أصبح الآن لبعض من ثوار الأمس ذقوناً طويلة وألبسة باكستانية، وتتدلى من أحزمتهم سكاكين الجزارين.