زاكروس عثمان
تشهد بؤر النزاع المشتعلة في الشرق الأوسط تقلبات سياسية وعسكرية سريعة وحادة وهذا يعطي مؤشرات على أن أزمات المنطقة لن تشهد انفراجا في المدى المنظور لأن ما يجري فيها هو حرب عالمية تجري بالوكالة ونتيجة تعدد قوى الصراع وتناقض مصالحها بات التوصل إلى حلول سلمية صعبة المنال، وعلى ما يبدو فان مناخات الفوضى الخلاقة او الهدامة ستبقى سائدة لعقود اخرى، ومن يعتقد أن هذه الفوضى نتاج عملية تآمرية فإن اعتقاده غير دقيق تماما لأن النزاعات القائمة تراكمات بنيوية مركبة في مجتمعات المنطقة وكان لا بد من إنفجار البركان لإخراج محتوياته إلى السطح ومنها الصراع التاريخي بين الشيعة والسنة الذي اصبح عنوانا بارزا للأزمة في المرحلة الحالية ولم يعد هذا الصراع محصورا في نطاقه التقليدي بل بات صراع محاور تعمل على توجيه هذا المذهب أو ذاك في خدمة ايديولوجيا لها أهداف استراتيجية – سياسية أبعد ما تكون عن العقائد الدينية .
لدينا سؤال محوري وهو إذا كانت هناك أطراف سنية وشيعية تنتهج الإسلام السياسي فمن هو الطرف الذي نجح في توظيف المذهب في تحقيق أهدافه السياسية ولماذا نجح أحدهما وفشل الآخر، تبعا للمعطيات يمكن القول: أن التشيع السياسي في طريقه إلى تحقيق النجاح في إنجاز هدفه الاستراتيجي ويقابله إخفاق المشروع السني هذا ان كان للسنة مشروع أصلا، مع أن الحزب السني يتوزع على عشرات الدول مترابطة جغرافيا و تمتلك ميزة التفوق العددي ناهيك عن وجود دول سنية لها قدرات اقتصادية وعسكرية وطاقات بشرية ووزن إقليمي – دولي يوفر لها شروط التكامل والتعاون فيما بينها لإنجاز مشروع سياسي ناجح، فيما الحزب الشيعي يفتقر إلى كثير من هذه المميزات فالشيعة جزر متناثرة في بحر سني وليست هناك دول شيعية باستثناء إيران ومؤخرا العراق ومع ذلك فإن الجزر الشيعية تتجه للسيطرة على البحر السني وهذا أمر غير مفهوم تماما إذ كيف يمكن للحزب الشيعي أن يستولي على الدولة اللبنانية ويضعها في خدمة التشيع السياسي العابر للحدود؟ ربما تكون الإجابة هي اختلاف الاساليب والاليات التي طبقها الفريقان لاستثمار المذهب في صراع سياسي- عسكري يرمي إلى بناء خلافة سنية أو تأسيس دولة شيعية، حين اقول الحزب السني والحزب الشيعي لا اقصد تنظيم سياسي محدد موجود في بقعة معينة بل اقصد محور اكبر عابر للحدود يتبنى بطريقة أو أخرى مشروع شيعي أو سني ويمارس عمل منظم للوصول إلى غاياته ما يعني وجود جهات منظمة تتولى قيادة وتوجيه التيارين ولعل سر نجاح طرف وفشل الطرف الآخر يكمن في كفاءة قياداته، فمن هي الجهة التي تقود السنة ومن هي الجهة التي تقود الشيعة وما هو الاختلاف الأساسي بين زعامات التيارين، كما هو معروف أن الحزب الشيعي ليس مجرد حركة سياسية فحسب بل كذلك إيديولوجية حكومية رسمية تتبناها الدولة الإيرانية كمشروع استراتيجي متكامل، ومع أن الحزب السني يمتلك إيديولوجية أيضا إلا أنها غير واضحة المعالم وغير موحدة لأنه لا يتعدى حدود تنظيمات أهلية تكاد تكون مستقلة تماما عن أية حكومة أو دولة، صحيح أن السعودية على الصعيد الداخلي تطبق نموذج الدولة الدينية وصحيح ايضا انها تمثل زعامة الحزب السني في العالم الإسلامي إلا أنها لم تتبنى رسميا أيديولوجية الإسلام السياسي السني كمشروع استراتيجي عابر للحدود وهذا هو العامل الرئيسي الذي يقف وراء إخفاقات الحزب السني وبالتالي نجاحات الحزب الشيعي لأن الأخير مشروع منظم ومخطط ومتكامل تقف خلفه دولة” إيران” التي أسست إدارة خاصة بالمشروع وهي الحرس الثوري”الپاسدار” الذي يتمتع بصلاحيات مطلقة أكبر من حجم وزارة وله ميزانية ضخمة ومستقلة ناهيك عن وضع امكانيات الدولة السياسية والعسكرية والدبلوماسية تحت تصرف الأجهزة المختلفة العائدة للپاسدار من مؤسسات مدنية دينية عسكرية فالمشروع تحت إشراف الولي الفقيه مباشرة وهذا يجعل الحكومة الإيرانية برمتها مسؤولة عن نجاحه هنا لا اتحدث عن الامس واليوم بل عن مشروع طويل الأجل وضع أساسه في السنة الاولى من نجاح ثورة الخميني 1979 حيث تبنت الجمهورية الاسلامية في ايران فكرة تصدير الثورة، ومع ان المملكة السعودية”السنية” أقدم عهدا من الجمهورية الإسلامية” الشيعية” إلا أن ملوك السعودية لم يضعوا أية خطط حكومية لتصدير الإسلام السياسي السني ولهذا لم يوفروا مستلزمات نجاح المشروع السني، ولكن لماذا اوجدت طهران مشروع تصدير الثورة ولماذا احجمت الرياض عن مشروع كهذا، ربما يعود ذلك إلى اختلاف جوهري بين استراتيجية الدولتين وطبيعة تكوين كل منهما وإلى تركيبة المجتمع “العربي” وتركيبة المجتمع “الفارسي” فالسعودية قياسا إلى إيران مجتمع حديث النشأة أقرب إلى البداوة منها إلى التمدن وهو يفتقر الى الخبرات والتجارب والموروث الحضاري المطلوب لسياسة الدول ولهذا فان السعوديون بعد تأسيس دولتهم 190 اكتفوا بما في حوزتهم ولم يفكروا في مد نفوذهم إلى الجوار العربي والإسلامي فلم يجدوا حاجة إلى وضع خطة مشروع استراتيجي لتصديره إلى خارج المملكة وكان حري بقادة المملكة ان يعملوا مبكرا بهذا المشروع ليس لغرض احتلال بلدان أخرى والسيطرة على ثرواتها بل لمواجهة خطر دائم قادم من ايران التي لم تتخلى عن أطماعها التاريخية في التوسع والهيمنة لإعادة إنتاج إذ بعد سقوط الدولة الساسانية 651 م استمرت محاولات الفرس في إحياء حلم الامبراطورية من جديد وكانت آخر محاولة لهم هي قيام الدولة الصفوية 1501 م التي سيطرت في ذروة توسعها على أذربيجان وأرمينيا و كوردستان و العراق وجورجيا ومناطق من القوقاز إضافة إلى تركمانستان وباكستان وأجزاء من آسيا الصغرى ، وفي عهد الأسرة البهلوية 1925 م عادت الأطماع التوسعية لإيران حيث تبنى الشاه محمد رضا بهلوي الطراز الغربي وتحالف مع أمريكا وأسس جيشا قويا وتطلع للسيطرة على مشيخات الخليج العربي ما شكل تهديد مباشر للسعودية التي تجنبت فتح صراع سياسي وعسكري معه ما سمح له في الهيمنة على المنطقة ولكن التوازنات الدولية حينذاك لم تسمح لإيران بالتوسع العسكري ثم تغيرت المعادلة بسقوط دولة الشاه وإعلان قيام الجمهورية الاسلامية في ايران والتي تبنت ايديولوجية جديدة بزعامة الولي الفقيه حيث تابعت سياستها التوسعية القديمة بأسلوب مختلف اشد خطورة من أطماع الشاه فالأخير لم يوظف المذهب الشيعي في تحقيق طموحاته بالهيمنة على المنطقة فيما الخميني حول التشيع إلى ايديولوجيا رسمية للدولة وكان هذا ذكاء من الخميني وخلفائه في توظيف التشيع في خدمة أهداف سياسية داخلية وخارجية إذ بعد سيطرة هؤلاء على السلطة أصبحت كل القرارات والأعمال تصدر باسم الولي الفقيه – المعصوم عن الخطأ – كونه وكيل الإمام المنتظر وبناءا عليه لا يجوز عصيانه لأنه مرجعية ربانية وليست دنيوية وبذلك أوجد الخميني حجة مقدسة لإخضاع الداخل الإيراني وتبني مشروع تصدير الثورة الإسلامية على أنه واجب ديني على الشيعة القيام به تمهيدا لظهور الإمام الغائب ، كما هو واضح فإن مشروع تصدير الثورة ما هو إلا تسمية دينية لمشروع إيراني توسعي قديم يهدف إلى السيطرة على بلدان المنطقة، ولكن مرة اخرى لم تحرك السعودية ساكنا أمام التهديد القديم الذي اتخذ ابعادا اكثر خطورة حيث ضرب الخميني بالتوازنات الدولية بعرض الحائط ولم يعبه بالمعسكرين الشرقي والغربي وسارع الى ادخال مشروع تصدير الثورة الى حيز التنفيذ مستفيدا من سياسة السعودية القائمة عدم التورط عميقا في الصراع السياسي والعسكري الناجم عن قضايا كثيرة تخص العالم الإسلامي، وكثيرا ما كان تدخل الرياض في بعض المسائل يقتصر على الجوانب السياسية والدبلوماسية والمالية أو لعب دور الوسيط لحلحلة بعض القضايا، ولم يحدث أن ملك سعودي فرض نفسه كلاعب محوري في قضية من قضايا العالم الإسلامي إلا في ظروف خاصة فرضت عليهم التدخل بكل ثقلهم في مشاكل هددت دولتهم مباشرة مثل حرب اليمن 1962 عدا ذلك لم يتدخل آل سعود مباشرة في الحروب الناتجة عن الصراع العربي – الإسرائيلي والحرب الأفغانية والحرب العراقية – الإيرانية 1981 فقد ظلت المملكة كلاعب أساسي غائبة على الأرض في بؤر ومناطق الصراع رغم مكانتها الاقتصادية وقدراتها العسكرية الجيدة وتمتعها بالحماية الأمريكية وهذا ما سهل على إيران الشاه ومن ثم إيران الخميني المضي في استراتيجيتها، وكان المنتظر من الحكومة السعودية ان تتبنى رسميا الحزب السني للحد من تمدد النفوذ الايراني الى عمق البلدان الإسلامية، حيث ضربت طهران على الوتر الحساس لدى عامة الشيعة وذلك بتأجيج مقولات مظلومية آل البيت والدفاع عن المستضعفين وقد لقي هذا الخطاب قبولا لدى الجيوب الشيعية في دول المنطقة فالسواد الأعظم منهم تبعا لمعتقداتهم المذهبية يتبعون مرجعية واحدة ويتعصبون لمذهبهم والذي حدث بعد ثورة الخميني هو أن الإمام المستضعف بات رجل دولة قوي ما زاد من ولاء الشيعة له ولدولته حقيقة علينا الاعتراف بها وهي أن الشيعي العربي والباكستاني والتركي يوالي الإمام أكثر من ولائه لحكومة بلاده ويوالي إيران أكثر من ولائه لوطنه لاعتقادهم أن الولاء للإمام اهم واكبر من اي ولاء هذا يشير إلى عمق إيمان الشيعة بالولي الفقيه وقد شهدت هذه القناعة صحوة كبرى عقب نجاح ثورة الخميني ما أدى إلى تحول الجزر الشيعية إلى حواضن شعبية لمشروع تصدير الثورة وقد أرسلت طهران المئات من الدعاة وعناصر الاستخبارات والسياسيين و الپاسدار إلى مختلف البلدان لنشر الدعاية الخمينية وتجنيد الاعوان والعثور على موقع قدم في الدول الهشة واستطاعوا كسب الكثير من الشيعة ومن ثم تجنيدهم في المشروع الايراني وذلك بتأسيس حركات سياسية مسلحة مرتبطة بالپاسدار ومهمة هذا الجهاز خلق دويلات شيعية داخل الدول السنية، ونجحت الدعاية الخمينية السياسية ” تحرير القدس” والدينية “رفعة الاسلام” والثقافية “المطبوعات المجانية والسينما” والاعمال الخيرية”بناء مشافي ومنح مالية” في الوسط العربي السني حيث ظهرت تنظيمات فلسطينية موالية لطهران و في غفلة من الحكومات العربية وعلى رأسها السعودية تم تدريب وتسليح هذه التنظيمات حتى اصبحت جاهزة للقيام بالمهام الموكلة اليها ولعل حزب الله في لبنان هو اول نجاح واكبر نجاح للمشروع الايراني حيث استطاعت من خلاله وبالتواطئ مع نظام الاسد بدمشق من الاستحواذ مبكرا على الدولة اللبنانية، وما يثير الانتباه هو ان كافة الحركات السياسية والمسلحة التي صنعتها ايران على درجة عالية من التنسيق والتعاون بين بعضها البعض كونها تتبع جهاز مركزي واحد مقره طهران، وما كان للهلال الشيعي يوشك اليوم على النجاح لولا وقوف دولة بكل قدراتها خلفه ولولا اتخاذه هدف استراتيجي لها، فيما بقي عمل المحور السني خارج إطار حكومات الدول السنية بل بقي في شكل إطارين تقليديين الاول إطار دعوي ركز على نشر المذهب السني ولم يمتلك هدف سياسي اما الاطار الثاني تمثل في حركات إسلامية سياسية وجهت كل اهتمامها إلى استلام السلطة في بلدانها دون ان يكون لها طموح بالسيطرة على المشرق الإسلامي هذا لان الحزب السني يفتقر إلى مرجعية موحدة والى التنظيم والتخطيط وإلى جهاز حكومي يديره ويشرف عليه ويضع له ايديولوجية واحدة وهدف واحد بدليل تشرذم الحركات السنية تنظيميا وسياسيا وعقائديا وافتقارها إلى مرجعية عليا واحدة، وحين ظهرت حركات سنية عابرة للدولة فانها سلكت الطريق الخطأ إذ بدل منح الأولوية لمجابهة المحور الشيعي بدأت بممارسة الإرهاب ضد المدنيين وضد حكوماتها وأعلنت الجهاد ضد الدول الغربية وبذلك قدمت خدمة كبيرة لطهران، فيما الحزب الشيعي التزم بالولاء المطلق للحكومة الإيرانية ومع ان اجنحة منه تمارس الإرهاب إلا أنه لم يتبنى علانية أية عملية إرهابية تستهدف المصالح الغربية وهذا يعني أن المحور الشيعي يعمل باخلاص وانضباط شديد على تحقيق هدفه الاستراتيجي فيما المحور السني يعاني الفلتان والفوضى.
لقد نجحت طهران بان تجعل نفسها قبلة الشيعة لتكون زعيمتهم مذهبيا وسياسيا ولكن الرياض لم تحاول أن تكون قبلة السنة بل بقيت القبلة في مكة ما يعني ان زعامة السعودية للسنة اقتصرت على الجانب الديني دون السياسي بكلام آخر بدل من ان تضع الرياض المذهب في خدمة السياسة حدث العكس و باتت الدولة في خدمة المذهب حيث ترك آل سعود الدعاة ينشرون المذهب خارج المملكة دون توجيه من الحكومة واقتصر نشاط الدعاة على الدعوى لان الحكومة السعودية لم ترسل عناصر استخبارات وضباط وسياسيين بين الدعاة لإيجاد تنظيمات سياسية وعسكرية في الدول الإسلامية تتبع لها، ولعل اكبر اخطاء الرياض هي أنها لم تجند الدعاة لإيجاد حزب سني تحت اشراف جهاز خاص تابع للحكومة السعودية بغية منافسة طهران بنفس اسلوبها الاستخباراتي.
وحين دق ناقوس الخطر لم تكن الرياض جاهزة للرد، فأعلن الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين الحرب على إيران 1981 وتولت دول الخليج دعم العراق بالمال والسلاح ولكنها لم تفكر في التدخل العسكري الى جانب الجيش العراقي لإلحاق هزيمة استراتيجية بنظام الجمهورية الاسلامية في ايران قد تقود إلى إسقاطه وطمر مشروع تصدير الثورة، استمرت الحرب 8 سنوات نجح خلالها صدام حسين في عرقلة خطط طهران التوسعية، و بعد توقف الحرب ارتكب صدام خطأ فادحا بغزو الكويت 1991 لان عواقبها مكنت الإيرانيين من تفعيل مشروع تصدير الثورة إذ إضافة الى لبنان وسوريا عززوا نفوذهم في العراق عقب دخول القوات الامريكية اليه في 2003 واستلام احزاب شيعية تتبع الولي الفقيه السلطة في بغداد وتحول العراق إلى ولاية إيرانية وباتت الحدود العربية في اكثر من موقع مكشوفة للإيرانيين، ما أعطى دفعا لمشروع الهلال الشيعي وقد وقع العبء على السعودية ولكن ماذا بوسعها أن تفعل وليس لها أذرع سياسية أو مسلحة موازية لأذرع إيران في مناطق المواجهة، لم تفعل الرياض الكثير إلى أن أصبح التهديد الإيراني للمملكة تهديدا وجوديا بقدوم ثورات الربيع العربي التي فجرت الأوضاع في اليمن والبحرين وسوريا والعراق حيث ضعفت حكوماتها ما سمح لطهران أن تتدخل مباشرة وعلانية في العراق وسوريا والبحرين واليمن وذلك بتشكيل ميليشيات شيعية متعددة القوميات وإرسالها بقيادة الپاسدار إلى تلك البلدان وكذلك اوعزت الى جيوشها النائمة تحت الارض بالتحرك فيما وضع حزب الله الدولة اللبنانية في خدمة الاجندة الايرانية، بالمقابل لم تعمل السعودية على تقوية السنة في العراق فيما التخبط والتردد كان عنوان تدخلها في سوريا حيث لم يبلغ مستوى التدخل الايراني الذي اتخذ طابع موقف حكومي رسمي حاسم بالقتال الى جانب جيش الأسد أما السعودية وبقية الدول السنية فلم ترسل جندي واحد من جنودها إلى سوريا لدعم المعارضة، وكان تدخلها الغامض والخجول وراء تسلل مقاتلين متطرفين إلى سوريا انضموا الى الجماعات الارهابية التي الحقت افدح الاضرار بالثورة السورية ودفعت بأطراف عدة في المعارضة إلى اسلمة الثورة ما تسبب في تحويل اهتمام الدول الكبرى عن عملية تغيير سياسي في البلاد الى محاربة الارهاب، وتبين ان العواصم السنية تدخلت في سوريا لاجندة خاصة بها وليس لردع التمدد الايراني إذ رأينا كيف انقلب الموقف التركي الى التعاون مع روسيا ثم مع ايران فقط لمنع الكورد عن تحقيق اي انجاز، ولعل نجاح ايران في تحقيق مكاسب كبيرة في سوريا والعراق يرجع الى ارباكات وتخبطات المحور السني الذي يفتقر إلى جهاز حكومي بيده القرار السياسي والعسكري حول كيفية التحرك في بؤر المواجهة مع المحور الشيعي وكذلك كيفية مواجهة الدبلوماسية الايرانية في الساحة الدولية حيث مارست طهران على الصعيد الدولي سياسة رشيدة مكنتها من امتلاك وتصنيع أسلحة صاروخية ونووية ورغم خلافاتها الظاهرية مع الغرب حرصت على تجنب خوض مواجهة فعلية معه وبنفس الوقت حصلت على شركاء أقوياء اوفياء وظفتهم في خدمة محورها، فيما الرياض لم تعمل على تقوية قدراتها العسكرية بمحاولة الحصول على أسلحة استراتيجية أما دبلوماسيا فقد وضعت كل بيضها في سلة واشنطن وتبين انها شريك لا يشد الظهر به لتجد المملكة نفسها مطوقة بإيران من الجهات الأربعة المليشيات الشيعية والپاسدار في سوريا الحكومة الطائفية والحشد الشيعي في العراق الحراك الشيعي في البحرين وانقلاب الحوثي في اليمن و انضمام قطر إلى محور طهران، من المؤسف أن الرياض لم تصحوا الا بعد ان بات الپاسدار يقف قريبا من أبوابها وبعد اقتراب طهران من حسم معركتي سوريا والعراق لصالحها وإن لم تحدث مفاجأة غير متوقعة يمكن القول إن الهلال الشيعي بات واقعا يمتد من طهران إلى بيروت، ولن يكتفي الولي الفقيه بذلك لأسباب استراتيجية -عقائدية تقتضي الاستحواذ على إمارات الخليج العربي و اسقاط الاسرة الحاكمة في السعودية ولو في المدى البعيد وتنصيب حكومات شيعية في الجزيرة العربية تكون تابعة لها، ازاء هذه الاخطار بادرت السعودية إلى تصعيد موقفها وذلك بالتدخل العسكري المباشر في اليمن ضد الحوثيين الذين يعملون على وضع هذا البلد تحت الوصاية الايرانية وفي ذات السياق اخذت الرياض في الآونة الاخيرة تصعد من جهودها لكسر احتكار حزب الله للدولة اللبنانية وقبل ذلك حاولت دعم المعارضة السورية وسعيها إلى تقديم رشى سياسية لحيدر العبادي رئيس الوزراء العراق لعلها تقنعه بعدم الارتماء كاملة في حضن الولي الفقيه مع انها تدرك ان العبادي لا يمكنه الخروج على توجيهات المرجعية، فهل تفلح محاولات الرياض في إنقاذ ما تبقى من المشرق المشرق الاسلامي بل في انقاذ المملكة من الاخطبوط الايراني الذي يحيط بها من كل جانب.
على ما يبدو أن قيادة المملكة أدركت أن تطورات الأحداث في المنطقة وما ينجم عنها من تداعيات تصب في صالح إيران وتهدد المملكة والأطراف المحسوبة عليها تهديدا مباشرا، وعلى ضوء ذلك قررت تجديد دماء الدولة واجراء اصلاحات داخلية تعتبر بالمعايير السعودية ثورة وقد كلف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وهو من جيل الشباب بهذه المهمة فهل يكون لديه وقت كاف وقدرات كافية على وضع استراتيجية جديدة قادرة على التصدي للاخطبوط الايراني ومن ثم إبعاده عن المنطقة، فالمملكة تبدو ضعيفة أمام إيران على كافة الصعد ولم تعد واثقة من حليفتها الاستراتيجية أمريكا لأن سياستها الشرق أوسطية ساهمت إلى حد كبير في تمدد النفوذ الإيراني من الخليج إلى البحر المتوسط ورغم ما تظهره واشنطن من مواقف متشددة تجاه طهران إلا أنها على أرض الواقع تفسح المجال أمامها لتوطيد سيطرتها على العراق والشام وقد خذلت واشنطن الرياض في الأزمة السورية والعراقية واليمن، وهذا ما دفع بالسعوديين إلى منافسة إيران في تأسيس علاقات قوية مع روسيا وذلك بعقد اتفاقيات اقتصادية وعسكرية مع موسكو ولكن هذه الخطوة جاءت متأخرة لأن طهران خلال عقود دخلت في علاقات وطيدة مع موسكو جعلت مصالح الطرفين مترابطة عضويا لدرجة يصعب على الروس التخلي عن الإيرانيين والتوجه إلى السعودية التي باتت شبه وحيدة في الساحة الدولية ولم تعد أمريكا ولا دول الاتحاد الأوروبي تدعم مواقف السعودية تجاه أزمات المنطقة بل كثيرا ما نجد الموقف الغربي يميل لصالح المحور الإيراني، ويمكن القول ان السياسة السعودية اليوم عاجزة مرتبكة لانها منفردة غير قادرة على مواجهة المحور الايراني سياسيا او عسكريا او حتى دبلوماسيا إذ ليس هناك شريك دولي يمكن الاعتماد عليه اما شركاء الرياض الاقليميين فلا يمكن الاعتداد بهم فقد التحقت تركيا بطهران وموسكو اما مصر فانها تتحفظ على فتح أية مواجهة عسكرية مع ايران او حتى اذرعها في بلاد العرب وبالنسبة للشركاء الخليجيين فهم اضعف من خوض اية مواجهة من هذا النوع، هل يعني هذا ان تستلم الرياض لمصيرها وتنتظر سيطرة الايرانيين عليها، ام ان هناك بديل امام السعوديين يمكن الاعتماد عليه، علينا الاقرار انه رغم ضعف موقف المملكة سياسيا وعسكريا الا انها تحتوي الكثير من عوامل القوة التي يمكن استخدامها للتصدي للتوسع الايراني وضرب مشروع الهلال الشيعي قبل ان يتحول إلى أمر واقع، ولكن ما هي الاوراق القوية التي يمكن للقيادة السعودية اللعب بها، الأمر ببساطة لا يحتاج شيء سوى أن تلعب الرياض نفس لعبة طهران وذلك بأن تضع خطة مدروسة بدقة قد تأخذ بعض الوقت ولكنها كفيلة بأن تقلب السحر على الساحر، إذ كما ورد في سياق المقال فان نجاحات إيران اتت من ايجاد أذرع لها في بلدان المنطقة وليس أمام من يرغب بمواجهة إيران سوى العمل على ايجاد أذرع له بداخلها ولعب السياسة بشيء من الحنكة وبطريقة استخباراتية وحتى تكون الخطة مجدية يتعين على الرياض اخذ بعض النقاط بعين الاهتمام ومنها :
– اتباع سياسة أكثر استقلالية عن السياسة الأمريكية وتنويع الشركاء الدوليين .
– التوجه الى الشعوب الاسلامية اكثر من التوجه الى الانظمة والحكومات.
– الدعوة إلى صحوة سنية منفتحة حداثوية معتدلة تمارس العمل السياسي بعيدا عن العنف والإرهاب.
– معرفة نقطة ضعف إيران وضربها من خلاله باقل التكاليف السياسية والمالية والعسكرية من المعروف ان ايران دولة متعددة القوميات والأديان والمذاهب وان العرق الفارسي الحاكم يمارس سياسة الاضطهاد القومي والمذهبي ضد القوميات الأخرى كما أن نظام ولاية الفقيه يمارس القمع ضد حركة المعارضة والتيارات الشبابية المناوئة للدولة الدينية ، بكلمة أخرى الوضع الداخلي في إيران هش للغاية والنظام الحاكم يسيطر على الأمور بأدوات القمع و وأحكام الإعدام وكلنا نتذكر الثورة الخضراء 2009 كيف تم قمعها بوحشية ولعل أنجع وسيلة لدفع ايران الى الانكفاء على نفسها هو غزوها من العمق دون أن تتورط الرياض في نزاع عسكري مباشر مع طهران وذلك بان تجند الشعوب الايرانية الناقمة على نظام ولاية الفقيه فالكورد و الاذريين و التركمان، والعرب والبلوش يشكلون قرابة نصف سكان إيران ولديهم استعداد للتمرد.
وقد انتبهت السعودية مؤخرا إلى أهمية الشعوب الإيرانية في مقارعة حكم ملالي طهران وسلكت الطريق الصحيح الى فتح علاقة إستراتيجية مع الكورد ولكنها للأسف تراجعت سريعا وادارت ظهرها للكورد ربما بضغط من واشنطن حيث تحالفت إدارة ترامب مع حيدر العبادي رئيس وزراء العراق ضد اقليم كوردستان الجنوب واعتقد الامريكيين والسعوديين ان دعم العبادي سوف يشجعه على الابتعاد عن طهران ولم يحدث شيء من هذا القبيل حيث ارسل العبادي الميليشيات الشيعية العراقية و الپاسدار الإيراني لاحتلال كركوك وتبين لواشنطن والرياض أن دعمهما لحكومة بغداد الطائفية قد خدم إيران وسهل لها عملية فتح طريق الى سوريا ومن ثم إلى البحر المتوسط أي اتمام مشروع الهلال الشيعي فيما يشكل الكورد السد المنيع والحاجز الجغرافي أمام تنفيذ هذا المشروع، وما يثير الحيرة هو تردد واشنطن والرياض في تصحيح الخطأ الفادح الذي أدى إلى سقوط أراض كوردية في قبضة إيران، هنا كان على القيادة السعودية ان تتبع سياسة مع الكورد مستقلة عن الموقف الأمريكي لأن التهديد الإيراني لأمريكا لا يتعدى تهديد مصالحها بالمنطقة فيما التهديد الواقع على السعودية هو تهديد وجودي لان ايران تخطط في القضاء على هذه الدولة وكانت مصلحتها تكمن في التحالف مع الكورد وليس الانقلاب عليهم لحساب حكومة إيرانية تحكم بغداد، ولكن ما هي اهمية الكورد بالنسبة للسعودية، من المعروف أن الكورد كتلة بشرية ضخمة تقف في نقطة حساسة بين الفرس والعرب والترك وانها تمتلك حركة تحرر سياسية – عسكرية عريقة تمتاز بالخبرات والكفاءة وقد اكتسبت الكثير من القوة والمهارة في السنوات الاخيرة الماضية كما ان موقع وطبيعة بلاد الكورد تكسبها اهمية فائقة ورغم ان هذه البلاد مقسمة بين اربعة دول إلا أن كل قسم منها يعتبر عمقا استراتيجي لبقية الاقسام وهذا يساعد على خوض كفاح مسلح طويل الآمد ينهك العدو عسكريا وسياسيا واقتصاديا ولان جنوب كوردستان يمتلك حكومة ويقع وسط كوردستان الشرقية- إيران وكوردستان الشمالية- تركيا وكوردستان الغربية- سوريا فانه يشكل حلقة وصل وجملة عصبية بين الاجزاء الثلاثة ما يعطي دفعا قويا لحركة التحرر في اي جزء كوردستاني، ولو أتينا الى الجزء الذي تحتله ايران سوف نجد 10 مليون نسمة لديهم حركة تحرر وطني منظمة تمتلك قوة سياسية وعسكرية ولها خبرة طويلة في مقارعة الجيش الايراني كما ان قابلية الثورة متوفرة لدى ابناء الشعب الكوردي هناك ولكن ما يحتاجه الكورد عموما هو دولة ذات وزن تتبنى قضيتهم وتقدم لهم دعم سياسي وعسكري يمكنهم من محاربة الجيش الايراني ولو أرادت السعودية أن تحمي نفسها من ايران ما عليها سوى تبني قضية شعب كوردستان – ايران فان اندلعت ثورة فيها سوف تشجع الشعوب الأخرى على التحرك ايضا ما يجعل الحكومة الايرانية مطوقة من الداخل الكورد بالغرب والاذريين بالشمال الغربي والعرب بالجنوب الغربي والبلوش بالشرق ما يؤدي إلى بعثرة الجيش الايراني في مختلف الجهات وهذا يصعب على طهران قمع كل هذه الحركات و سوف يغرق النظام الايراني في مشاكل داخلية خطيرة تجبره على الالتفاف الى وضعه الداخلي والتخلي عن مشاريعه التوسعية ما يضعف اذرعه المزروعة في بلدان المنطقة ويسهل القضاء عليها، ولن يكون لإيران وجود فيها بغياب هذه الاذرع، فهل تراجع الرياض موقفها وتتخلى عن الحكومة الطائفية في بغداد وتعيد بناء علاقة قوية مع اقليم كوردستان الجنوب – العراق وتقف إلى جانب قيادة الاقليم حول الاستقلال، أم تبقى الرياض تدعم رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي ما ان حقق هدفه حتى اظهر إشارات قوية لواشنطن والرياض على انه غير قادر وغير مستعد للتخلي عن إيران، وبذلك خسرت السعودية الورقة الكوردية ولم تنجح في كسب العراق، ولو أن الرياض حافظت على دعمها للاقليم الكوردي لكانت قد حصلت على سدا منيع بوجه التمدد الإيراني باتجاه البحر المتوسط ومنع الترابط الجغرافي بين محاور الهلال الشيعي، من جهة ثانية كان بمقدور الاقليم ان يتحول الى قاعدة متقدمة للمحور السني لشن هجوم معاكس على ايران
وفي هذا المضمار على القيادة السعودية أن تراهن على هولير/ اربيل وليس على بغداد التي يحكمها عمليا الولي الفقيه.