الذهنية الديكتاتورية والدستور الديمقراطي .. الدساتير لا تصنع ديمقراطيين .. حكام بغداد نموذجاً

د. ولات ح محمد
    في غضون أسبوع واحد أدلى حيدر العبادي بتصريحين اثنين أفرغ فيهما كل ما يحمله في وعيه ولاوعيه تجاه الكورد؛ الأول قال فيه إن منع تقسيم العراق انتصار يوازي الانتصار الذي تحقق على تنظيم داعش الإرهابي. أما الثاني فقد أكد فيه الأول عندما تعمد تجاهل تقديم الشكر لقوات البيشمركة في ما سماه “خطاب النصر على داعش” في حين شكر كل القوات والمليشيات التي شاركت في ذلك الانتصار، معبراً بذلك عن عقلية طفلية غير جديرة بقيادة بلد بحجم العراق، وكاشفاً عن زيف ادعائه أنه يمثل كل العراق والعراقيين، إذ وضع الكورد والبيشمركة في موضع الآخر المقابل والضد والعدو وليس في موقع الجزء الأصيل المكمل للكل الذي يمثله العبادي عراقياً.
    النكتة في هذا الموقف أن كل دول العالم القريبة والبعيدة شكرت وتشكر البيشمركة منذ سنتين وتحييها على دورها البارز والرائد في محاربة داعش وهزيمته. أكثر من ذلك بعض تلك الدول اعترافاً منها بفضل البيشمركة في مواجهة التنظيم راحت تزودها بالأسلحة وتقوم بتدريبها وتعيد هيكلتها على أسس حديثة. وفي ذات السياق قام مخرج ومفكر فرنسي بصناعة فيلم “البيشمركة” وعرضه في الأمم المتحدة أمام ممثلي 190 دولة اعترافاً منه ومنها بتضحيات تلك القوات ووجوب شكرها ودعمها. أما العبادي الذي يدعي أنه أيضاً رئيس وزراء الكورد والبيشمركة وأن تلك القوات (حسب الدستور) جزء من المنظومة الدفاعية العراقية التي هو قائدها العام فإنه لا يرى لتلك القوات دوراً في هزيمة داعش أو أن دورهم لا يستحق الشكر. تلك القوات التي لولاها لكان مصير كركوك أسوأ من مصير موصل بعد أن فر منها الجيش الذي شكره العبادي، ولكان سقوط بغداد مسألة وقت لا غير لو أن كركوك صارت في يد داعش. أما كركوك ذاتها فما كان لداعش أن يتركها بسبب ثروتها النفطية إلا وهي أطلال يؤلف عليها العبادي وبائعها نوري معلقات من نوع خاص. 
    قوات البيشمركة التي لا يشكرها العبادي هي التي حمت بدمائها كركوك وطوز خورماتو وغيرها، وهي التي قطعت شريط الحرير ومهدت الطريق لجيشه لخوض معركة تحرير الموصل. سميتها عقلية طفلية لأن العبادي يعرف أكثر من غيره دور قوات البيشمركة، إذ لم يستطع البدء بمعركة الموصل إلا بعد الاتفاق والتنسيق معها ووضع خطة مشتركة تنفذ في غرفة عمليات مشتركة، ولكن لأنها كوردية سيشعر العبادي بنقصٍ في تورّمه وانخفاضٍ في منسوب النشوة الكاذبة لديه لو أنه أشركها في فضل الانتصار. في كل الأحوال عدم اعتراف باني أمجاد العراق الحديث بذلك الدور الهام للقوات الكوردية يكشف عن ذلك الحقد الدفين الذي لا يستطيع إلا أن يطل برأسه في هكذا مناسبات وإن اختبأ نفاقاً وتقية لبعض الوقت في دهاليز القلوب المعتمة.  
    هذا الموقف هو تتويج لكل مواقف العبادي السابقة منذ الدخول المخالف للدستور لقواته والمليشيات المنفلتة من سلطته مدينة كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها حتى إعلان ما سماه خطاب النصر مروراً بكل الإجراءات والقرارات التي اتخذها بحق الإقليم وأبنائه واللغة المتعجرفة المتعالية التي تدل على شخص لم يكن يصدق أن هذا الذي يراه نصراً (على من يدعي أنه جزء من شعبه) قد جاءه على طبق من ذهب ولم يدفع من ثمنه شيئاً.
    صحيح أن ما تلاه العبادي كان تحت عنوان “خطاب النصر على داعش” لكنه بتجاهله توجيه الشكر للبيشمركة أولاً، وبقوله إن منع تقسيم العراق يوازي في أهميته الانتصار على داعش ثانياً جعل منه خطاب انتصار على داعش والبيشمركة معاً. وهو بذلك يضع الكورد والبيشمركة في سلة واحدة مع داعش. ومن يفكر هكذا يجب ألا نستغرب عدم شكره لهم. وكونه عاد في اليوم التالي إلى نص الخطاب وأضاف شكره لقوات البيشمركة  لا يغير من المسألة شيئاً لأنها كشفت عن ذهنيةٍ وموقفٍ ورؤيةٍ لا تغير الكلمات من حقيقتها وحقيقة صاحبها شيئاً. وما يعزز هذه الرؤية إلى الكورد والبيشمركة أن شريك العبادي وغريمه وسلفه وصنوه في الحقد نوري المالي (بدون كـ) قد أدلى بتصريح مزامن قال فيه: إذا كنا نشكر تحالفاً من 63 دولة ساعد العراق في الحرب على الإرهاب فلماذا ننكر مساعدة إيران لنا في كركوك؟. وهذا تكرار لفكرة حيدر بكلمات أخرى؛ أي أن الكورد في كركوك في مقام داعش في الموصل، وأن الانتصار على الأول في مقام الانتصار على الثاني، وأن من يشكر قوات التحالف في الموصل يجب أن يشكر إيران في كركوك.
    هذه الذهنية في معالجة الأمور تدل على أن حاكم بغداد لم يتغير وإنما تغير قناعه؛ فالعبادي وسلفه نوري المالي وكل الفئة الحاكمة منذ 2003 صرخوا وناحوا وولولوا لسنوات طويلة شاكين من دكتاتورية صدام ودمويته وإجرامه بحقهم داعين إلى حكم تعددي ديمقراطي يحترم الإنسان ويعترف بحقوقه الفردية والجماعية. تلك كانت شعاراتهم عندما كانوا مطاردين وممنوعين من دخول العراق. ثم صاروا هم حكام العراق وجلسوا على كرسي صدام ورموا دستوره في سلة المهملات وكتبوا دستوراً عصرياً يضمن حقوق كل العراقيين ولو بنسب متفاوتة. ولكن مع كل ذلك ما الذي تغير؟!. لا شيء، فكل من آلت إليه الأمور منهم ركّب على كتفيه رأس صدام وراح يتصرف وكأن العراق والعراقيين صاروا ملك يمينه يفعل بهم ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء. أما الدستور الديمقراطي فيرفعه على رأس رمحه إذا كان يعزز ديكتاتوريته، ويأكله إذا رآه يتحدث عن حقوق الآخرين.
    ذهنية الديكتاتور أو المستبد لا تستطيع أن تعترف بالآخر أو بحقه وإن كان منصوصاً عليه في القانون والدستور. لذلك كل الحكام الذين تعاقبوا على بغداد في ستة العقود الأخيرة حاربوا الكورد، ابتداء من عبد الكريم قاسم ومروراً بصدام حسين وانتهاء بحيدر العبادي، على الرغم من اختلاف الظروف والأزمنة والدساتير. وبدلاً من التفاهم مع شركائهم الكورد قدموا تنازلات لأطراف خارجية من أجل ضربهم وإنهائهم؛ صدام تنازل عن أراض عراقية لشاه إيران عام 1975م من أجل خنق الثورة الكوردية (ثم لاسترداد تلك الأراضي خاض بعد خمس سنوات حرباً مع إيران ما زال العراقيون يدفعون ثمنها حتى الآن) ثم عاد وقصفهم بالكيماوي ودفنهم في مقابر جماعية. نوري المالي أراد أن يشن هجوماً عسكرياً على الكورد، وعندما عجز عن ذلك قام بتسليم الموصل لداعش ليتولى هذا الأخير مهمة إنهاء الكورد (ودفع العراقيون ثمن فعلته غالياً). حيدر العبادي تنازل عن السيادة الوطنية التي كان يتشدق بها أمام العراقيين وتحالف مع من كان يراه عدواً فسمح للأتراك ببقاء قواتهم في أراضيه بدون رخصة منه وبلع إهاناتهم له مقابل التعاون معه في 16 تشرين الأول لضرب الكورد في كركوك ولتسليمها لإيران (وسيدفع العراقيون ثمن فعلته أيضاً). هؤلاء على استعداد لحرق كل العراق لكي لا ينال الكوردي حقه الدستوري.
    بهذه العقلية المريضة بالسلطة والمال والحقدين الطائفي والإثني وكراهية الآخر المختلف وإلغائه حكموا ويحكمون العراق. ولذلك مهما تغيرت الدساتير والقوانين والوجوه والأسماء فإن شيئاً لن يتغير لأن الذين كتبوا تلك الدساتير والقوانين وصوتوا عليها وأقروها لم يفعلوا ذلك لأنهم أحرار متحررون من إرثهم وميراثهم الذي لا يسمح لهم برؤية الآخر والاعتراف به وإقامة علاقة ودّ معه بدلاً من الصراع، علاقة “أنا وأنت” بدلاً من “إما أنا وإما أنت”، بل لأنهم مضطرون إليه. هؤلاء تحرروا من النظام الديكتاتوري الدموي ولكنهم لم يتحرروا من الديكتاتور الذي في دواخلهم، وفي أذهانهم، ولا من الكراهية المعشعشة في قلوبهم. 
    كل الحكام الذين مروا على رقاب العراقيين منذ اثني عشر عاماً (تاريخ إقرار الدستور) داسوا على الدستور كلٌ على طريقته الخاصة. منذ اثني عشر عاماً والكورد يطالبون بتنفيذ  المادة 140 من الدستور وأولئك الحكام يماطلون ويسوفون. وبدلاً من أن تتم محاسبتهم لأنهم لم ينفذوا مادة (أو مواد) دستورية رفعوا هم راية النصر وقالوا إن صلاحية المادة قد انتهت، ثم توج آخر أبطال الدستور خروقات سابقيه بإعلانه حرباً على الكورد قائلاً: أيها الكورد الأعزاء، هأنذا بدلاً من الإجراءات المدنية والقانونية ووجع الرأس قد طبقت بالقوة المادة التي تطالبون أنتم بتطبيقها منذ سنوات وتهرّب منها أسلافي الموقرون.
    هؤلاء الحكام مرضى “منطق القوة” حتى مع شعوبهم وشركائهم في الأوطان؛ فقد كتبوا الدستور العراقي الحالي بين عامي 2004 – 2005م، وكان أكثر من 80% من العاكفين على كتابته منهم هم وليسوا من الكورد وكذلك نسبة المصوتين عليه في الاستفتاء. ومع ذلك هم في خرق مستمر وفاضح للدستور الذي كتبوه بأيديهم لأنهم يرون (وقد عبر كثير من المقربين منهم عن ذلك) أنهم آنذاك إنما كانوا ضعافاً فأقروا للكورد بأكثر مما يستحقون، وأنهم ما داموا قد صاروا أقوى الآن فقد آن الأوان أن يصححوا “خطأهم”، وبما أنهم غير قادرين على تغيير الدستور بالوسائل المدنية والديمقراطية فإنهم سيغيرون الوقائع والأرقام بالقوة.
    هذا هو المنطق الذي جعلهم لا يلتزمون بالدستور. وبهذا المعنى عندما أقروا آنذاك بعضاً من حقوق الكورد في الدستور إنما فعلوا ذلك لضعفهم وقلة حيلتهم (ولو كانوا أقوياء لما وافقوا على هكذا دستور) وليس لأنهم ديمقراطيون ومؤمنون بحقوق شركائهم أو لأنهم مختلفون ذهنياً ونفسياً وأخلاقياً عن الدكتاتور الذي لم يستطيعوا أن يدخلوا أراضي جمهوريته إلا على ظهور الدبابات الأمريكية بينما كان الكورد في مواجهة الديكتاتورية على مدى كل تلك العقود.
    هكذا تنشأ الأزمات: الحاكم يعمل لنفسه ولحزبه ولطائفته. وحتى يفعل ذلك عليه أن يتجاوز القوانين والدساتير. وعندما يحتج من وقع عليه وعلى حقه الظلم ويعجز الحاكم عن مواجهته بالقانون يلجأ إلى القوة لإسكاته وقمعه وتخويفه. هكذا عاملهم صدام حسين عرباً وكورداً، وهكذا هم يعاملون المختلفين معهم المطالبين بحقوقهم اليوم عرباً وكورداً، وهكذا يتوارث الناس ذهنية الدكتاتور المستبد ومنطق “حق القوة” وعدم احترام دستور بلادهم وقوانينها عندما يرى المواطن حاكمه يتعامل مع دستور بلاده وقوانينها بهذه الطريقة. 
        لقد توافق العراقيون على دستور يلبي في حده الأدنى الكثير من حقوقهم المادية والمعنوية، ولكن القائمين على تطبيق ذلك الدستور أناس لا يعرفون الديمقراطية إلا بوصفها أداة لإيصالهم إلى السلطة لكي يمارسوا ما في ذهنياتهم من ديكتاتورية وتسلط واستبداد. وهذا هو أسّ البلاء في كل ما حصل ويحصل في المنطقة منذ قرون، ولا مؤشر على تبدله في المدى المنظور إلا في الحدود الدنيا للتغير وبالقدر الذي يفرضه واقع الأشياء من تغيير وليس بما تنتجه القناعات والأفكار والنصوص؛ فالقوانين والدساتير الديمقراطية لا تحوّل الديكتاتور الدموي المستبد ديمقراطياً، فهو يُخضِعها لديكتاتوريته ولا يخضع لديمقراطيتها.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…