سيادة رئيس الوزراء غائب عن الوعي

د. ولات ح محمد
    صرح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الأسبوع الماضي بأنه “لا يمكن صرف جميع رواتب الموظفين في الإقليم بسبب وجود الفساد”. وقال إنه يدعو “سلطات إقليم كوردستان إلى احترام التظاهرات السلمية” وأضاف: “لن نقف مكتوفي الأيدي في حال تم الاعتداء على أي مواطن في إقليم كوردستان” متوعداً بأنه سيحاسب المعتدين (مشيراً إلى مسؤولي الإقليم) لأن المواطنين عنده في كل أنحاء العراق هم مواطنون عراقيون ومن واجب الحكومة حمايتهم. 
    إن تصريح السيد العبادي بمثل هذا الكلام يشير إلى أحد أمرين: فإما أنه رئيس وزراء قوي لدولة قوية ومستقرة وآمنة وخالية من الفساد وتسمح للمتظاهرين بالتعبير عن أنفسهم ومطالبهم دون التعرض لهم، وأنه شخصياً رئيس عادل ويقف على مسافة واحدة من جميع مواطني دولته وحريص على حقوق الجميع بدرجة واحدة وأنه يحاسب الذين يعتدون على أولئك المواطنين وعلى ممتلكاتهم وأنه لا يسمح بنهب وسرقة أموالهم وأموال الدولة. وإما أن الوضع عكس ذلك تماماً، وبالتالي فإن صاحب التصريح يعيش حالة وهْم وإنكار للواقع وغياب عن الوعي لأنه لا يدرك ما يقول أو ينسى ما قال سابقا أو فعل فيقع في حالة تناقض فاضحة. ونحسب أن هذه الثانية هي واقع حال العراق ورئيس وزرائه، ويمكن أن نسوق أمثلة عدة على هذا الشكل من الغياب عن الوعي.  
    في أحد خطبه الأسبوعية قبل نحو شهر قال العبادي إن حكومته تعكف على إحصاء عدد موظفي الإقليم بالتنسيق مع مؤسساته لتقوم بدفع رواتبهم في القريب العاجل. بعد أيام قامت الجهة المعنية في حكومة الإقليم بتكذيب هذا الكلام في بيان قالت فيه إنه لا أساس لمثل هذا الكلام وإن أية لجنة لإحصاء عدد موظفي الإقليم لم تزر مدن الإقليم مطلقاً. وهو ما يدعو للتساؤل: على من يضحك العبادي؟ وهل حقاً يعي ما يقول؟ خصوصاً أنه هو نفسه الذي أغرى مواطني السليمانية بأنه سيدفع رواتبهم ولكنه بعد أن اطمأن إلى اشتعال فتيل الفتنة في السليمانية عاد وقال في خطابه الأسبوعي 19 كانون الأول ديسمبر إنه ليس لديه قوائم ومعلومات بأعداد الموظفين في الإقليم وإنه سيقوم بتوزيع الرواتب حالما يتأكد من تلك الأرقام وإن ذلك يحتاج إلى وقت. أي أنه قام بتكذيب نفسه بنفسه. وهذا مؤشر على أن الرجل لا تعنيه الذاكرة في شيء.
    أما بخصوص الفساد الذي اتهم به حكومة الإقليم (وقد فعل في مرات سابقة أيضاً) فإن دولة الرئيس يتحدث وكأنه لا يعلم بحجم الفساد في حكومته الذي جعل بلده الغني في المراتب الأولى على مستوى العالم فساداً، أو كأنه لا يعي أن حجم النهب بلغ مئات المليارات من الدولارات بينما أكثر من نصف سكان دولته يعيشون تحت خط الفقر، وأن من نهبوا وأضاعوا كل تلك الأموال يجلسون بالقرب منه في المنطقة الخضراء وأنه لا يجرؤ على سؤالهم عن درهم واحد، أو كأنه لا يعي نسبة الموظفين الوهميين في إدارته والذين هو نفسه أعلن خمسين ألفاً منهم قبل ثلاثة أعوام. مع كل ذلك يتناسى العبادي أن نسبة التنمية في إقليم كوردستان أضعاف ما حققته حكومته وحكومات أسلافه الفاسدة والفاسدين. إن ما يطلقه العبادي من كلمات هو متاجرة من أجل الضحك على الناس وكسب المزيد من المقاعد في الانتخابات القادمة. وهذا ما دفع السيد السيستاني الأسبوع الماضي إلى دعوته لمحاربة الفساد بالقانون والإجراءات الفعلية وليس بالاستعراضات والشعارات الفارغة.
    أما بخصوص دعوة العبادي سلطات الإقليم إلى “احترام التظاهرات” واستعداده للتدخل إذا ما تعرض مواطنوه للعنف من طرف حكومة الإقليم مدعياً أنهم مواطنون عراقيون وأن من واجبه حمايتهم فإن من يستمع لهذا الكلام لا يستطيع إلا أن يفكر في أحد احتمالين: فإما أن الرجل يظن أن الناس أغبياء وفاقدو الذاكرة وأنهم لذلك سيصدقونه بسهولة. وإما أنه غائب عن الوعي ولا يدرك ما قال وما يقول؛ فإضافة إلى كذبه الفاضح في مسألة لجنة التدقيق لدفع رواتب الإقليم ينسى العبادي (الحريص على سلامة مواطني إقليم كوردستان وحقهم في التظاهر وحمايتهم من حكومتهم) أنه في السادس عشر من تشرين الأول الماضي أرسل عشرات الآلاف من قواته العسكرية والمليشيات التابعة له والمنفلتة من سيطرته إلى كركوك وطوزوخورماتو ومناطق أخرى وأنه تسبب في تهجير مائتي ألف من مواطنيها الآمنين وفي قتل الآلاف منهم وإحراق المئات من البيوت والمحلات العائدة إلى أولئك المواطنين “الأعزاء” على قلب العبادي والحريص على أمنهم وحمايتهم الآن. يتحدث العبادي وكأنه لا يعي أن تلك الأعمال الإجرامية بحق أولئك المواطنين قد وقعت وما زالت مستمرة، وأن رئيس وزراء أولئك الضحايا “الحريص على أمنهم” لم يكلف نفسه جلب مجرم واحد إلى محكمة في بغداد ولو من باب الكذب وذر الرماد في عيون المراقبين ومنظمات حقوق الإنسان التي تطالبه بسحب المليشيات وتطبيع الأوضاع في تلك المناطق دون جدوى.
    يتحدث العبادي وكأنه غير مسؤول عن كل تلك الجرائم وغير مسؤول عن محاسبة من ارتكبوا كل تلك الجرائم، أو كأن أولئك الضحايا لم يكونوا مواطنين عراقيين عندما أجرمت في حقهم تلك العصابات ثم صاروا مواطنين يحتاجون إلى حمايته عندما صارت المشكلة بين بعضهم وبين حكومة الإقليم. حكومة الإقليم التي يريد العبادي حماية الناس منها لولاها لكانت مليشيات نوري وحيدر الآن تعيث فساداً وقتلاً وحرقاً في مدن السليمانية وأربيل ودهوك وزاخو وحلبجة. العبادي يدافع عن الأعمال التخريبية في السليمانية ويدعو للسماح لهم بالتظاهر ويسعةى لحمايتهم بينما واجه قبل شهور تظاهرات المنطقة الخضراء بالقتل لأنها كانت تهدد عرشه وكانت مظاهرات ضد الفساد بالمناسبة. 
    هنا لا بد أن نذكّر الرئيس الغيور الذي لا يسمح بتعرض مواطني السليمانية للاعتداء بأن قواته قتلت في فبراير شباط الماضي خمسة مواطنين وأصابت مائتين بجروح عندما أطلقت النار الحي على متظاهرين حاولوا الوصول إلى المنطقة الخضراء عبر جسر الجمهورية في تلك المظاهرات التي دعا إليها السيد مقتدى الصدر للمطالبة بتغيير مفوضية الانتخابات ومحاسبة الفاسدين. علماً أن أولئك المتظاهرين لم يحرقوا مؤسسات الدولة ومقار الأحزاب والممتلكات العامة والخاصة كما فعل متظاهرو السليمانية ورانية الذين يتاجر بهم دولة الرئيس. وهذا يشير بوضوح إلى أن سيادته غائب عن الوعي فعلاً، فهو لا يعي ما يقول أو لا يتذكر ما اقترفت يداه أو يظن أن الناس بلا ذاكرة وأن رؤوسهم لا تحتفظ إلا بكلمات دولة الرئيس.
    أكثر من ذلك قتل نوري المالي المئات من المتظاهرين من العرب السنة في   أواخر فترة ولايته في الموصل والأنبار عندما اقتحم تجمعات لمظاهراتهم آنذاك. ولو كان حيدر صادقاً في حرصه على المواطنين وحياتهم وسلامتهم وحقوقهم ومحاسبة من أجرموا في حقهم لكان عليه محاكمة شريكه في الحزب والسلطة وليس مكافأته بتسليمه منصب نائب رئيس الجمهورية. إن من يعجز في ثلاث سنوات عن جلب أي مجرم إلى أية محاكمة بسبب قتله المواطنين أو نهب أموالهم أو الاستيلاء على ممتلكاتهم ثم يعرض عضلاته البالونية على الكورد فقط مهدداً إياهم بالاستيلاء على الإقليم لفرض الأمن وحماية الناس فإنه بذلك يطلق كذبته الكبرى التي فاقت حجم إمكاناته وقوته وجرأته.
    إن من مارس كل هذا الفساد وارتكب كل هذه الجرائم بحق العراقيين وتغاضى عن كل تلك الجرائم التي اقترفها ويقترفها المجرمون بحق العراقيين كل يوم ويتركهم دون محاسبة لا يحق له أن يتحدث عن فساد الآخرين وضرورة حماية الناس منهم. وإن فعل ناسياً أو متناسياً كل ذلك فإنه يثبت أنه يعاني من مشكلة ما في الوعي والذاكرة لديه. وبدلاً من المتاجرة بعواطف الناس والضحك عليهم بوعود زائفة من أجل التحريض والفتنة التي هي أشد من القتل – كما يعلم العبادي – على سيادة الرئيس أن يخرج نفسه من هذه الدوامة التي وجد أووضع نفسه فيها بعد الحدث الكركوكي ويفتح حواراً مع أربيل وشعب كوردستان الذي يدعي الحرص على سلامته بينما يفرض عليه عقوبات جماعية. عليه أن يعلم أن زمن الاحتلالات العسكرية قد ولى وأن النار التي ستحرق السليمانية وأربيل ستحرق غيرهما أيضاً. وأخيراً عليه أن يعلم أن الكرسي الذي يفتعل سيادته كل هذه الفتن والزعزعة والتحريض من أجله لن يسلم وحده إذا اهتزت الكراسي الأخرى بفعل فاعل.
    إن من يكن على استعداد لأن يرتكب جريمة بحق جزء من شعبه لكي يحظى بكرسي الولاية من جديد عليه أن يتوقع احتمال سقوطه قبل الانتخابات أو بعدها؛ فليس كل الأحلام قابلة للتحقق. وأخيراً، على سيادة الرئيس أن يعي أن الوصول على جماجم الناس وجثثهم يتسبب في كوابيس آخر الليل وربما في غياب عن الوعي أيضاً.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…