الدكتور مرشد معشوق الخزنوي
نستكمل في ذكرى شيخ الشهداء نستلهم الدورس والعبر، حيث أجلينا عبر الحلقات السابقة نصائحه وهواجسه ومخاوفه تجاه شعبه وأمته ، وهانحن نفتح وصية آخرى كان يرى شيخ الشهداء أنه من خلالها ينفذ الاعداء إلينا ، وهم في غالبيتهم من المسلمين ، حيث يقول شيخ الشهداء في حوار خاص معه أجرتها مكتبة جارجرا للثقافة الكوردية حيث يقول .
أقول للشعب الكوردي إن كثيراً من أخوتك المسلمين الذين هم يظلمونك اليوم – نحن قلنا إن مظلمة الشعب الكوردي قادمة من المسلمين فالعرب مسلمون والترك مسلمون والفرس مسلمون – إن إخوتك المسلمين الذين يظلمونك يتمنون أن تكون ملحداً ، يتمنى هؤلاء أن تخرج عن دينك ليقنعوا شعوبهم ، تلك الشعوب التي لا زالت تعيش عقلية الحرب مع الآخر ، والصراع مع الآخر ،
وتعيش آلية الأثنينية الخير والشر ، والإيمان والكفر ، أقول : إنهم يتمنون من هذا الشعب الكوردي أن يتصرف أي تصرفات خاطئة ، ليتمكنوا من فريستهم ، و يخاطبوا من خلال هذه التصرفات شعوباً بالعربية أو التركية أو الفارسية ليقولوا لهم، أنظروا إلى هؤلاء الذين كنتم تقولون لنا لماذا تظلمونهم ، إنهم ملاحدة ، كفرة ، خرجوا عن الإسلام ، ولذلك فمسألتنا نحن الأنظمة مع الكرد ليست مسألة عرق أو لغة أو أوطان ، وإنما المسألة مسألة دين وإيمان وكفر ، لذلك ينادون :ياغيرة الدين ، وامعتصماه ! ليتمكنوا من تجييش هذه الشعوب لتتحرك من جديد باسم الإسلام ، ولينقضوا على هذا الشعب الكوردي المسكين باسم الله والدين والإيمان ، بدلاً من اسم العرق والوطن والشعب ، فإياك أيها الشعب الكردي أن تحقق أهداف ظالميك وأعداءك ، أيها الاخوة الكرد : إن الذين يعادونك ويظلمونك هم المسلمون وليس هو الإسلام ، فحاول أن تفصل بين الإسلام والمسلمين كما قال الله تعالى (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) [ المائدة : 8 ] .
فقد كان شيخ الشهداء ينظر الى واقع مجتمعه ، فكلما دبت نائبة تصايح البعض من بني جلدتنا الى لعن الإسلام والقرآن ومقداسات المسلمين ، وللأسف هذا الذي لازال مستمراً عند حدوث أية حادثة ، تربط الأمور مباشرة بالإسلام كدين ، وهنا ومن خلال هذه الوصية يريد شيخ الشهداء من شعبه وأمته أن يتحلى بالإنصاف ، وبالنظرة الموضوعية والعقلانية للأمور ، وأن لا يحقق مأرب ظالميه بأن يفصل بين الإسلام كدين وبين المسلمين كتطبيق لذلك الدين ، ولذلك وتأكيداً لهذا المبدأ يضرب شيخ الشهداء مثلاً في نفسه وعائلته في ذلك الحوار فيقول : ” استميحكم عذر في أن أعرف بنفسي ، أنا معشوق الخزنوي من غربي كردستان ، من عائلة كردية تتربع على عرش مشيخة الطريقة النقشبندية الصوفية ، هذه الطريقة التي استقدمها مولانا خالد الشهرزوري الى أرض كردستان من دلهي ، في الهند من الشيخ احمد الفاروقي السرهندي ، والذي بدوره استقدمها من بلاد الأوزبك في بخارى وطشنقد على يد الشيخ محمد بهاد الدين النقشبندي ، وهو الذي استقدمها من مشايخها في العهد العباسي في بغداد ، وهكذا الى أن ينتهي بكم السند الى سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة “.
يستكمل شيخ الشهداء ويشير الى المقصد من هذا التعريف فيقول :” هذا التعريف سردته لكم لأمثل لكم حقيقة ، وهي أن الناس اصبحت مشغولة عن الحقائق ، وتبحث عن الامور الجاهزة ، بمعنى عندما يروني ويرون عمامتي تجدهم يقولون قال الشيخ كذا ، وهو بالتالي قول الاسلام ، أي أنني الاسلام كله في نظرهم ، على أن الحقيقة أنني لا أمثل الاسلام بالرغم من محافظتي على عمامتي ، بل ربما لا يشكل الإسلام مني إلا الشيء البسيط ، فأنا كمعشوق تتمازج فيَّ ثقافة الكرد بحكم اصولي وانتسابي إليها ، وثقافة الهنود والاوزبك والعباسيين والعرب والإسلام من خلال المرشدين في السلسلة التي سردت لكم جزء منها ، فهل تتصورون أن الاسلام مر بكل هذه الثقافات ولم يترك بصماته عليه ، أبداً لا ” .
الذي يريد شيخ الشهداء أن يلفت الأنظار إليه أن الإسلام ومنذ أن توفي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام تعرض للتشويه والتحريف ، وعلى مد أربعة عشر قرناً تعرض الإسلام الى تغيب كثير من حقائقه ، وإنزال اجتهادات علماء افاضل مكان الحقائق الإسلامية ، واستغل الطغاة والجبابرة هذا الإسلام العظيم ليمارسوا القتل والترهيب في حق الناس باسمه ، فبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ابتعد الدين عن جوهره ، وانحرف عن مساره إرضاءً لغايات الرجال ، وللأسف اختلقت لأجل ذلك النصوص المكذوبة المنسوبة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبرير تصرفات الرجال ، وإضفاء القدسية على تلك الممارسات ، وكما هو معلوم لجميع من له أدنى معرفة بعلوم الشريعة ، يعلم أنه في مجال السنة أو الحديث الشريف عندنا تخصص كامل هو تخصص الرجال ، أو ما يعرف بعلم الجرح والتعديل ، وهذا العلم أوجد حتى يتسنى للعالمين قدر الامكان معرفة الحديث المنسوب الى رسول الله حقيقة من الذي هو مكذوب عليه .
إذا علمتم هذا فاعلموا أن الاسلام ومنذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد تعرض لمحاولة اغتيال ، لينحرف عن مساره ، وإن لم يكن بهذه الصورة التي نراها اليوم ، حيث كان التغيير والتحريف بسيطاً مقارنة بما هو عليه اليوم ، واخطر جانب تعرض فيه الاسلام الى التشويه عندما أراد الناس أن يؤدليجوه ، ويعدونه ليقف في وجه الشعوب ، عندما اخرجوا الإسلام من حقيقته الذي هو دين وأمة ، الى انحراف جر على المسلمين الويل عبر عصور وقرون عديدة ، عندما أرادوه دين ودولة ، ونحن الكرد من أوائل الشعوب وأخرها التي تعرضت للسحق ، ولازالت تحت نير هذا التحويل ، حوربنا باسم الدين في حقنا في العيش ، في استقلال أرضنا ، في أن يحكمنا من يفهمنا ويعرفنا ، حوربنا في لغتنا التي وهبها الله لنا ، أنسونا قدسية أرضنا ، فأصبحنا طمعة لكل جبار وآثيم ، ويوم أردنا للإسلام أن يعود الى أصله ، كما أنزله الله على عبده محمد عليه الصلاة والسلام ، ونعيده الى مساره الصحيح لحماية الشعوب وتنظيم علاقتها مع خالقها ، أتهمنا بالكفر والزندقة ، والطرد من الدين الحنيف ، لأنهم شكلوا محاكم إلهية على وجه الأرض ، وهم بذلك أرادوا للشعب الكردي أن يبتعد عن دينه ، وبالفعل فقد ابتعد الكثير عن هذا الدين الذي لا يحمي لهم حق ، ولا يحترم لهم خصوصية ، هذا الدين المزيف ، ولعلي لا أعرف ما المناسبة التي قال فيها كارل ماركس [ الدين أفيون الشعوب إذا استغل ] ، لكني أجدها الآن مناسبة تماماً للحالة الكردية، كما كانت مناسبة قبل قرون للحالة الإسلامية ، أمام أفعال أساءة للإسلام ، حيث استغلت سياسيًا لخدمة مصالح بعض الأطراف ضد مصالح أطراف أخرى .
خلاصة الأمر يا سادة يا كرام أن شيخ الشهداء أراد لشعبه وأمته أن يعي حقيقة أن الإسلام شيء و المسلمون شيء آخر ، فهناك فارق بين المبدأ وتطبيقه ، فمن السهل أن تصدر الأوامر وتوضع الخطط والأفكار ، ولكن تطبيقها يخضع لظروف الزمان والمكان وأهواء الانسان.
وهذا الأمر ليس خاصاً بالإسلام بل على كل الأديان السماوية منها والأرضية ، بل يسري حتى على النظريات والأفكار البشرية ، والأمثلة على ذلك اكثر من أن تحصى .
فالشيوعية اختلفت رؤاها الفكرية بين لينين وتروتسكى ، واختلفت تطبيقاتها مع الأصول الفكرية لما قاله ماركس ، ثم اختلفت تطبيقاتها فيما بين الصين والاتحاد السوفيتى ويوغوسلافيا ورومانيا .
والديمقراطية فكرتها واحدة ولكن تختلف تطبيقاتها فى دول الاتحاد الأوربي وأمريكا، وبين تطبيقها في دول الجامعة العربية .
وحتى مصطلح العلمانية ومدى الفصل بين الدين والدولة لا يخلو من اختلاف نظرى وتطبيقى ، وهذا واضح وجلي بين التطبيق الكمالي للعمانية في تركيا ، وبين التطبيق الفرنسي أو البريطاني .
هذا على المستوى الأفكار والأهداف البشرية و التطبيق العملي لها ، لكن تراه أيضا فى الدين الالهى السماوى وفى الأديان البشرية الأرضية.
تراه فى المسيحية التى تتسم بالحب والتسامح والعفو والمغفرة ، ولكن تحت رايتها تمت الكشوف الجغرافية واسترقاق شعوب وإبادة بعضها على يد الاسبان أكثر المسيحيين تمسكا بالمسيحية ، ثم سارت بقية شعوب أوربا المسيحية على نفس الطريق فى استعمار واستعباد وقهر وسلب واستغلال شعوب العالم .
ودفع الثمن فى العصور الحديثة معظم أمم العالم من الهنود الحمر فى أمريكا ، وشعوب آسيا فى اندونيسيا والهند والصين ، والشعوب المسلمة فى أواسط آسيا الى العرب والأفارقة، كل العالم تقريبا قامت أوربا المسيحية باستغلاله وقهره خلال ثلاثة قرون انتهت بحربين عالميتين أزهقت حياة الملايين من البشر الأبرياء .
فى كل ذلك التاريخ الدموى لأوربا المسيحية لم يتهم أحد المسيحية بأنها دين الارهاب والإبادة الجماعية ، ولم يجعلها أحد مسؤولة عما فعله المسيحيون الأوربيون فالمسيحية لم تتحمل وزر الاستعمار الأوربى ، والمذابح الغربية بدءاً من استعمال السيف والرمح فى العصر الرومانى ، الى استعمال القنبلة الذرية فى الحرب العالمية الثانية ، والأسلحة المحرمة دوليا فى فيتنام وما بعد فيتنام.
هذا يوصلنا لقاعدة اساسية أراد شيخ الشهداء أن يلفت الأنظار إليها أن التطبيق البشرى لمبادئ المسيحية والإسلام يتشكل تبعا لثقافة كل دولة أو مجتمع ، ولهذا ترى فى المسيحية الأوربية ملامح أوربا ، وترى فى المسيحية المصرية القبطية ملامح الثقافة المصرية الزراعية ، كما يختلف التدين المصرى بالإسلام عن التدين الصحراوى العنيف الذى تجده فى الجزيرة العربية وأفغانستان ، كما تجد التدين الايرانى بالإسلام ترديداً للعقائد الفارسية القديمة تحت اسم التشيع.
الاسلام أو أى دين أو أى منهج أخلاقى أو تشريعى هي مبادئ ، وأوامر ، ونواهى ، ونظم ، وقواعد كلها فى الأصل تنحو نحو ما ينبغى أن يكون ، أما التطبيق البشرى فهو ما هو كائن فى الواقع من سلوكيات وأفعال ، ولا يصح الخلط بين ما هو كائن وما ينبغى أن يكون .
الاسلام فى القرآن الكريم هو تلك القيم الى تدعو للسلام ، وحرية العقيدة ، والفكر ، والعدل ، والقسط ، والرحمة والتعاطف ، و هو الأمر بكل ما هو معروف وخير ، من تلك القيم الانسانية ، وهو ايضاً الناهي عن كل ما هو منكر من الظلم ، والعدوان ، والبغى ، والإثم ، والفحشاء ، والفساد .
قال الله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) [ الحديد : 25 ].
فالإسلامُ هو حجةُ الله على العالمين وليس العكس .
وهو الذي نقيسُ به المسلمين وليس العكس .
والرجال يُعرَفون بالإسلام، وليس الرجال هم الذين يُعرَف بهم الإسلام.
وقد جاء في الأثر عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله : لا يعرف الحق بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله .
وانصف من قال: من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال.
فمن الخطأ أن ننظر إلى الإسلام ، وقيمه ، ومبادئه ، وأخلاقه ، وتشريعاته من خلال بعض أتباعه وسُلوكهم وتصريحاتهم ، ولذلك جاء في صحيح مسلم أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية يوصيه بتقوى الله وعدة وصايا أخرى ، منها: ((وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمِك؛ فإنَّك لا تدري: أتصيبُ حكم الله فيهم أم لا؟)).
قاعدة أساسية تلك التي يشير إليها المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه لا يستطيع أحد مهما أوتي من العلم والفهم والفضل والقدر أن يقول إنَّ فهمَه ورأيه هو مراد الله، بل يقول: هذا ما أفهمُه من حكمِ الله، فإن كان ما فهمه صوابًا فبها ونعمت، وإلا فلا، ولذلك كان الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه صاحب المذهب المالكي يؤكد على هذه القاعدة العظيمة فيقول : “كلُّ إنسانٍ يؤخذُ من كلامِه ويردُّ إلا صاحب هذا القبر”، وأشار إلى قبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
فالمسلم مهما حسنت أخلاقُه، واستقام فكره، واعتدلت طريقته، تظل الصورة التي يعطيها عن الإسلام صورة مصغرة لا تعكس بدقة الحجم الحقيقي والأبعاد الفعلية للأصل، وإذا كان هذا هو الحاصل في حال الاستقامة والاعتدال، أفيجوز أن نُحملَ أخطاء بعض المسلمين وأوزارهم على الإسلام؟!…..
رحمك الله شيخنا معشوق الخزنوي وأعلى الله مقامك في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، سلام عليك يوم ولدت ، وسلام عليك يوم استشهدت في سبيل ما تؤمن به ، وسلام عليك يوم تقف امام الرب القادر تقتص من ظالميك .