إبراهيم اليوسف
تباينت ردودُ الفعل تجاه إعلان الدعوة إلى الاقتراع على استقلال إقليم كردستان، ما بين رافض ومتحمّس ومتوجّس، وإن كنا لنجد في الحقيقة مجرد موقفين رئيسين هما: إما أنك مع الاستقلال أو أنك ضده، وليس ثمّة خيارٌ ثالثٌ، وذلك لأننا تابعنا مقالات وتصريحات ومواقف من قبل أبعاضهم، وهم- مع الأسف- من غير الكرد والكرد في آن واحد…!؟
مؤكّد أنّ مَن أبدوا حماسهم، كانت لهم موازينهم ومحاكماتهم لهذا المقترح، ضمن فضاء اللوحتين الخاصة والعامة، العراقية، والإقليمية، ولربما قبلهما: الدولية، إلا أن من يطالب بحقّه المشروع، وهو يجد نفسه في طريق التهالك بسببه، من دون أن يتحقق كاملاً، ضمن توصيفات واقع سياسي مستنقعي، وفي ظل استدامة خلل عضوي لا يمكن إصلاحُه على المدى المنظور، ليسترخص كل شيء دونه،
وهو ما لم يغب عن بال راعي صانع القرار الرئيس مسعود بارزاني الذي مهد له طويلاً، كلما لمس التكالب على حقوق شعبه من قبل الذين لم يروا في وقوفهم ضد صدام حسين إلا ليكونوا نسخة أسوأ منه، لأن الرجل ساوى بين جميعهم في فضاء دكتاتوريته، ليكون عادلاً في ظلمه حتى للبعض من أهل بيته، ولم يفرق في ذلك بين طائفة وأخرى، أو قومية وأخرى، وكان موقفه ممن حوله متأتياً من منظار الولاء إلى درجة إمحاء ملامح الكرامة الذاتية، وإن ما يريده من تربوا على ثقافته هو أنهم أرادوا أن يبزّوه في ذلك، وما أكثر الأمثلة المشخصة في الفضاء العراقي..!
بيد أن من غمزوا من هذه المبادرة، وراحوا يشككون بها، من خلال محاولة نسفها بالحديث عن أي من الظرفين الذاتي أو الموضوعي بلغة فلسفة السياسة، أو أدبياتها التي باتت مستهلكة، لم ينطلقوا-غالباً- إلا لأنهم يضمرون مواقف سلبية من ممارسة الكردي لحق تقريره لمصيره، إذ إن الوقت الآن ليس مكرساً من أجل إبداء المخاوف، أو سوق مصفوفة الحجج لدحض هذا المطلب الشرعي، لاسيما إذا كان من يبدون هذه المواقف- بغرض كبح العملية- يتجاهلون حقائق كثيرة، في مطلعها حق الأمم والشعوب في تقرير مصائرها، حيث ثمة كثيرون حتى من المنظرين المنافحين عن مثل هذا الحق يسقطون الكردي من حساباتهم، وفي هذا ما ينم على بؤس الثقافة التي نهلوا منها.
ثمة من هو كردي- أيضاً- كما تشير إلى ذلك هويته بيد أنه لا يفتأ يدبج الكوابح الواحد منها تلو الآخر، همه الرئيس إفشال هذا الحلم، انطلاقاً من أن ثقافته الذاتية، نتيجة عامل شخصي، أو حزبي بغيض، يدعوه ألا يتحقق هذا الحلم على أيدي طرف طالما بيَّن وفاءه لإنسانه، ولم يخطىء في القضايا المبدئية الكبرى، وهو يدافع عن هويته في وجه من أراد محوها، أياً كان، مسترخصاً ذاته، في وقائع يسطرها التاريخ، وهي جزء من ذاكرة إنساننا، منذ أول بذرة وعي قومي، وهو في المحصلة وعي إنساني لابد منه.
وحقيقة، فإن هناك خطاباً إنسانياً يطلقه بعض من ينحازون إلى العيش المشترك بين شعوب هذا البلد أو ذاك الذي ابتلع جزءاً من خريطة كردستان، بما فيه إقليم كردستان. هذا الخطاب يتأسس على جملة مفاهيم وطنية، أو إنسانية، لها إرث من التاريخين الحياتي والنضالي- لاسيما لدى العوام أو النخب الثقافية وإلى حد ما لدى النخب السياسية- إلا أن مطلقي هذا الخطاب كثيراً ما يتجاهلون مسألتَيْ: ديمومة عقل استغلال وإقصاء واستبعاد مَنْ لا ينضوي في إطار القومية الكبرى، ناهيك عن استنفاذ هذا الخطاب، وتهالكه- نتيجة استذئاب من كانوا، ولايزالون في إطار المعارضة للنظام السابق، من خلال سعيهم لاستعادة أدوات، وطرائق دكتاتورية عقل النظام العفن ذاته.
بدهيٌّ، أن حساسيةَ الموقع الجيوبوليتيكي لكردستان- عامة- من شأنها أن تجعل من فكرة الإقدام على -استقلال – كردستان من عداد أفظع المحرّمات، والمحظورات، في أعراف كثيرين، وهو واقع له عمقه التاريخي، التنظيري، ولو غير المعلن، في أذهان هؤلاء الذين رسموا فضاء خريطة هذا المكان، بعد أن عرضوا شعبها للتهجير، ومحو الوجود قبل الهوية، ممزقين جغرافيتهم، ومتصاممين عن مطالب أهلها، متباكمين متعامين عن حقهم، ومآسيهم.
ربما يكون هناك- من بيننا- من يدفعه الحرص، إلى التخوُّف، في أعماقه، وهو من حقه، إلا أن من حق شعبه عليه، أن يتجاوز مخاوفه، وألا يحوله إلى فايروس وبائي لزعزعة الصف، لأن الوقت الآن ليس إلا للتعاضد، والتكاتف، من أجل توجيه رسالة للعالم بأسره حول لُحْمَة هذا الشعب الذي تعرّض لأقسى نكبات المحو عبر تاريخه، وظل يقاومها، مدفوعاً بإرادة الحرص على الحياة، كي يستدرك واضعو خرائط المنطقة خطأهم الاستراتيجي، بل جريمتهم الكبرى، على أمل التكفير عنها، وقد تأخّروا في ذلك كثيراً، إلى أن تجاوز فعلتهم الزمن…!
ولكل هذا، فإنه لن تغيب عن أذهان من هم وراء هذا القرار جملة التصوُّرات السلبية قبل الإيجابية، إلا أن اللجوء إلى القرار لم يكن إلا خياراً اضطرارياً، دون نسيان العلاقات التاريخية التي تربط الكردي بجيرانه جميعاً، ولاسيما هؤلاء الذين جمعهم، ولايزال، الخندق الواحد، في أصعب المحن، في مواجهة آلة الهلاك والقتل، وما احتضان كردستان لكثيرين من أمثال هؤلاء إلا دليلاً على الوفاء لمثل هذا الإحساس النبيل الذي يعد جزءاً من شخصية وتكوين الكردي الأصيل، غير الملوث بفيروس الانسلاخ عن شيمه وقيمه، أينما كان..!
يتبع…..
جريدة كردستان- العدد564