مصطفى أوسو
أن العنف، الذي يعتبر الإرهاب أعلى درجاته وأشدها وطأة وخطورة، ليس بظاهرة مستجدة أو طارئة في المجتمع البشري. بل أنه سلوك مارسه الإنسان منذ بداية اخترع الأسلحة التقليدية، وهو يعكس بهذا الشكل أو ذاك، تناقضات المجتمع وعدم استقراره وتباين مصالح مختلف فئاته وطبقاته، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي. وللعنف أشكال وصور مختلفة ومتباينة في الكثير من الأحيان. فقد يكون فردياً أو جماعياً، موجهاً ضد الأشخاص، مثل: الاغتيال السياسي، تفجير الحانات، فتاوى التكفير وإهدار الدم والتفريق، قطع رؤوس النساء بتهمة السفور والزنا، أو موجهاً ضد الأموال، مثل: تفجير المراكز التجارية والسفارات، أو ضد وسائل النقل المدني، مثل اختطاف الطائرات والسفن واحتجاز ركابها.
ويختلف توصيف العنف باختلاف هدفه، فما قد يتبدى إرهاباً إذا كان لمجرد خلق حالة من الذعر والخوف أو القهر والإذلال، قد يصبح عملاً ثورياً نبيلاً إذا كان هدفه دفع الظلم ومقاومة الطغيان وممارسة الحقوق المشروعة أو محاولة لإصلاح الفساد في مجتمع ما، كما أن توصيف العنف يختلف باختلاف العلم الذي يتناوله، فهو من وجهة نظر علم النفس غيره من وجهة نظر القانون أو السياسة أو الفلسفة أو الاجتماع، ومن هنا يصعب من النواحي العملية والنظرية إيجاد تعريف دقيق لمصطلح الإرهاب، حيث يرى علم النفس الفرويدي أن لدى الإنسان رغبة غريزية للسلوك العنيف والذي هو جزء مهم من الكيان الغريزي للفرد.
العنف بالمعنى الاصطلاحي للفقه والقانون، هو الاستخدام غير المشروع للقوة المسلحة سواء كان ذلك من قبل فرد أو عصابة أو جماعة، أو من قبل دولة أو دولتين أو أكثر. وقد عرف الاتفاق الدولي المعقود في جنيف عام 1937 أعمال الإرهاب بأنها: ( الأفعال الإجرامية الموجهة ضد دولة من الدول والتي من شأنها بحكم طبيعتها أو هدفها إثارة الرعب في نفوس شخصيات معينة أو جماعات من الأشخاص أو في نفوس العامة ).
والإرهاب وفق التعريف الحديث، والذي يؤيده منظمة الأمم المتحدة، هو: ( كل فعل عنف سياسي موجه حصراً ضد المدنيين والمدنية والمجتمع المدني مهما كانت الشرعية التي يتذرع بها ).
مما سبق نستطيع أن نستنتج بعض الخصائص والسمات التي تميز جرائم الإرهاب، وهي: أن مرتكبيها هم جماعات من الناس أو عصابات، كثيراً ما ينتمون إلى أكثر من دولة وهذا ما يجعل منها ظاهرة شديدة الخطورة، وأن الوسائل المستخدمة في ارتكابها من شأنها نشر الخوف والذعر والرعب، مثل: الانفجارات، وأيضاً من شأنها أن تولد أخطاراً عامة وشاملة.
وإذا كان الإرهاب، كظاهرة جرمية خطيرة ابتدأ سهلاً بسيطاً وغير معقد، محدود الأثر والتأثير، حيث لم يكن ليتعدى تأثيره المكان الذي يظهر فيه، معتمداً من أجل تحقيق أهدافه وغاياته على أدوات ووسائل تقليدية، إلا أنه تطور مع الزمن بالترافق مع التطور التقني والتكنولوجي، فأتسع نطاقه، واختلفت طبيعته، وتنوعت أعداده، وتطورت أساليبه ووسائله، وامتدت تأثيراته متجاوزاً المكان الذي يقع فيه، وغدا يشغل بال الفقهاء وعلماء القانون والاجتماع والفلسفة ورجال السياسة، ويثير هواجسهم وتفكيرهم، خاصة مع بداية القرن العشرين، بعد أن اكتسب الإرهاب صفة التنظيم الدقيق، وأتسع نطاقه، وأصبح يشكل خطراً على الأمن والسلام والاستقرار في العالم.
تاريخياً، لم يرى مصطلح الإرهاب النور إلا في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1789 والنهضة الأوربية الحديثة وتحديداً في عهد روبسبير أعوم ( 1793 – 1794 )، حيث دل المفهوم في حينه على سياسة العنف التي تمارسها الدولة تجاه طبقات المجتمع والفئات الاجتماعية باسم الشرعية القائمة، عندما حضر ممثلو الهيئات السياسية جلسة الجمعية الوطنية الفرنسية المنعقدة آنذاك، حيث خاطب هؤلاء الممثلون أعضاء الجمعية قائلين: ( لقد حان الوقت الذي يجب فيه إخافة المتآمرين على الثورة..، أيها المشرعون ضعوا الإرهاب في جدول أعمالكم )، ومنذ ذلك الحين أصبح الإرهاب نظاماً للحكم في فرنسا، وأنشأت محكمة استثنائية بمرسوم من روبسبير، لها أصول محاكمة خاصة، تمثلت في عدم السماح للمتهمين بتوكيل محامين للدفاع، والتنفيذ الفوري للأحكام دون أي طريق من طرق المراجعة. كما ظهرت في روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر، أبرز حركتين اجتماعيتين اعتنقتا مبدأ ( الإرهاب )، بهدف إحداث تغييرات في المجتمع الروسي، والقضاء على الطبقات الإقطاعية الرأسمالية المسيطرة على مقدرات المجتمع، وكان يشترط في الأعضاء المنتمين إليهما بعض الشروط الخاصة جداً.
ومن خلال العديد من الدراسات الاجتماعية والتجارب العملية، نلاحظ أن الإرهاب ينمو ويترعرع في المجتمعات والدول الفقيرة والمتخلفة، التي تعاني من القهر والاضطهاد والاستغلال، والأزمات الاقتصادية والمعيشية، والتعصب القومي والعرقي والطائفي والديني، حيث تكون بيئة هذه المجتمعات والدول ملائمة أكثر من غيرها لظهور هذا المظهر الخطير من الإجرام، والذي يعتبر من أكبر المشاكل التي تواجه البشرية في العصر الحالي.
ولخطورة الأعمال الإرهابية وتعدد أطرافها وضحاياها وارتباطها بالجرائم ضد السلم والأمن العالميين، فقد تضافرت جهود المجتمعات والمنظمات الدولية لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة ونتائجها الكارئية خاصة بعد تفاقمها واستفحالها، حيث أن آثارها السلبية لم تعد تقتصر على مجتمع بعينه، وإنما تمس الأسرة الدولية برمتها، كان لا بد من وجود طرق ووسائل عالمية لمواجهتها ومكافحتها وقمعها ومعاقبة القائمين عليها، تحقيقاً للأمن والاستقرار في العالم، وذلك عبر إيجاد أسس وضوابط جديدة لتعاون وتنسيق دوليين أكثر فعالية وديناميكية من ذي قبل. وقد تطورت طرق معاجلة هذه الظاهرة وشرعت العديد من الاتفاقيات والقوانين والمواثيق التي تعاقب عليها وتمنعها، فكان أهم الاتفاقيات في هذا المجال، هي: اتفاقية منع معاقبة الإرهاب في جنيف عقب مصرع ملك يوغوسلافيا اسكندر الأول والرئيس الفرنسي بارتو على يد الإرهابيين في مرسيليا عام 1934 وقرار مجلس أوربا بشأن الإرهاب عام 1974 والاتفاقية الأوربية لقمع الإرهاب عام 1974 وهناك اتفاقيات متعلقة بمنع خطف الطائرات: ( اتفاقية الجرائم والأفعال الأخرى التي ترتكب على متن الطائرات الموقعة في طوكيو عام 1963 واتفاقية قمع الاستيلاء غير القانوني على الطائرات الموقعة في لاهاي عام 1970 واتفاقية قمع جرائم الاعتداء على سلامة الطيران المدني في مونتريال عام 1971 )، وهناك أيضاً، مواثيق خاصة بحماية رجال السلك الدبلوماسي: ( اتفاقية معاقبة أعمال الإرهاب التي تأخذ شكل الجرائم ضد الأشخاص العاملين في السلك الدبلوماسي في واشنطن عام 1971 ).
ولا بد من القول: أن المقاومة المشروعة للشعوب ممارسة لحق تقرير المصير، ليس إرهاباً وإنما هو حق دولي شرعي للشعوب، وأيضاً هناك اختلاف كبير بين النضال المشروع لحركات التحرر الوطنية للشعوب من أجل ممارسة حق تقرير المصير، وبين الأعمال الإرهابية. فالنضال المشروع لهذه الحركات، سندها القانوني هو المعاهدات والمواثيق والقوانين والقرارات الدولية، أو ما يسمى بـ ” الشرعية الدولية “، وهي تضفي المشروعية الكاملة على هذا النضال، فقد نصت المادة الأولى من الفقرة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على أن: ( إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتساوي في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها حق تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام ). وأكد ميثاق الأمم المتحدة، أيضاً على مبدأ حق تقرير المصير للشعوب في المادة ( 55 )، حيث نصت على أنه: ( رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضرورية لقيام علاقات سلمية ودية بين الأمم، مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتساوي في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها ). وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم ( 103 / 31 لعام 1979 ) والقرار رقم ( 145 / 34 لعام 1979 ) والقرار رقم ( 109 / 36 لعام 1981 ) بخصوص مكافحة الإرهاب، حيث أكدت جميعها على مبدأ حق تقرير المصير للشعوب، وهناك تأكيد أيضاً على مبدأ حق تقرير المصير وشرعية النضال في سبيله في العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966 إذاً يترتب على الاختلاف بين الإرهاب والمقاومة المشروعة التي تقوم بها الشعوب من أجل حقها في تقرير مصيرها، بان لا يعامل القائمون بالمقاومة المشروعة في سبيل هذا الحق، معاملة من ارتكبوا جرائم الإرهاب، ولذلك فقد دعا بعض المندوبين خلال مناقشات اللجنة الخاصة بموضوع الإرهاب الدولي عام 1977 إلى ضرورة تضييق مفهوم الإرهاب الدولي بحيث لا يشمل حركات التحرر الوطني، وأن لا يستخدم ذريعة لقمع هذه الحركات.
ومنذ أحداث الحادي عشر من أيلول الإرهابية، التي استهدفت برجي التجارة العالمي في نيويورك ومقر وزارة الدفاع ( البنتاغون ) في واشنطن عام 2001 وما نجم عنها من الضحايا بالآلاف، من القتلى والجرحى، وتدمير المنشآت الاقتصادية والحيوية، وما رافقها من شعور بالقلق والخوف والرعب، ليس فقط على صعيد الشارع الأمريكي، وإنما في جميع أنحاء العالم، وظاهرة الإرهاب تتصدر قائمة اهتمامات المجتمع الدولي وأولوياته بشكل لافت وغير مسبوق من ذي قبل، حيث تشكل تحالف دولي لمكافحته والقضاء عليه، وشنت حملة واسعة على كل من يقوم بالأعمال الإرهابية ويدعمها، شملت العديد من الحركات والجماعات والدول والأنظمة.
ونعتقد أنه، ومن أجل أن تتكلل الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب بالنجاح، ويتم القضاء عليه نهائياً، على المجتمع الدولي، وخاصة مراكز القرار فيه ( الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي )، العمل بشكل جدي، على معالجة الأسباب الحقيقية لنشوء هذه الظاهرة وتطورها، وتصحيح الخلل في بنية العلاقات الدولية، باتجاه توفير السلام والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، ومعالجة قضايا الفقر والتفاوت بين أفراد المجتمع، وحل الأزمات الاقتصادية والمعيشية وقضايا التخلف، وتصفية كل أشكال الاضطهاد القومي والعرقي والديني والطائفي، وممارسة الضغوطات على الأنظمة القمعية التي تهدر كرامة مواطنيها، ومعالجة قضية الشعوب المضطهدة، وتأمين حقوقها القومية الديمقراطية والإنسانية، وتحقيق تطلعاتها في العيش بحرية وكرامة، أسوة ببقية شعوب العالم، وفق نص وروح القوانين والمواثيق والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
*كُتبت هذه المقالة قبل حوالي عشر سنوات، في الذكرى السنوية لأحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، بناءاً على دعوة من الزملاء في منظمة حقوق الإنسان في سوريا – ماف. اعتقد أن الأفكار الواردة فيها لا تزال قابلة للحوار والنقاش.