اكرم حسين
رحل مام جلال الطالباني كغيره من البشر لأن الموت سنة الحياة وناموسها ، لكن رحيله لم يكن عاديا ! لأن هذا الرحيل قد جاء في مرحلة تاريخية تعيش فيها كردستان ظروفا استثنائية بعد تحدي الارادة الاقليمية والدولية لشعب كردستان ورغبته في الاستقلال عبر اجراء الاستفتاء ، هذا الحدث التاريخي والذي كانت نتيجته متوقعة الا انه اكتسب الصفة الشرعية والقانونية لشعب عاش الظلم والاحتلال من خلال الاحتكام الى الشعب واحترام ارادته الحرة والواعية .
رحل مام جلال وترك هذا الرحيل والغياب فراعا كبيرا في صفوف حزبه وشعبه ، فقد كان وجوده الفيزيائي يمد رفاقه بالقوة واللحمة حتى في فترة مرضه ، بسبب شخصيته القوية والكاريزما التي كان يتمتع بها وهو الذي صنع قدره بنفسه على عكس القادة الاخرين الذين ساهمت الاقدار في صنعهم ، فهو من الهامات الكبيرة التي كانت ولا تزال إلى اليوم موضع تقييم ومثار جدل ، واختلاف رأي فيها ، أو الحكم عليها ، لكن بالنهائية فان رحيل قائد حتى وان كان استثنائيا قد يؤثر في امة ويترك فراغاً ، لكنه لا يوقف مسيرتها واندفاعها الى تحقيق تطلعاتها واهدافها ، حتى وان كان المام قد اكد حضوره بالأدوارالتي اداها سواء في مرحلة الصراع ضد نظام صدام حسين ، او في مجلس الحكم الانتقالي ، اوفي توقيع الاتفاق الاستراتيجي بين الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني والذي انهى مرحلة من الصراع الدموي بين الطرفين ، وفي رئاسته للعراق لدورتين متتاليتين وعدم توقيعه على مرسوم اعدام صدام حسين ، اثبت جلال الطالباني مقولة الفيلسوف الالماني هيغل التي تقول بان التاريخ يقوم على اكتاف رجال عظام ، وكذلك ماكس فيبر الذي أكد هو الاخر على دور القائد التاريخي، المتمتع بقوة جاذبيته، معتبراً ان بسمارك، موحد ألمانيا ، هو أهم صناع التاريخ الحديث
يقال بأن لكل زمن رجالاته، فقد انتج العصر الحديث بعد رحيل الخالد مصطفى ثلاثة قادة عظام اصبحوا يعيشون في الوجدان الجمعي الكردي، المام جلال الذي غادرنا منذ ايام وعبد الله اوجلان الاسير في ايمرالي ومسعود البارزاني قائد كردستان الذي يخوض معارك الشرف والاستقلال على كل الجبهات وتتوجه اليه الانظار اليوم من اجل توحيد الصف الكردي وقيادة الكرد الى بر الامان لما يحظى به من تقدير واحترام لدى خصومه قبل اتباعه ومحبيه ، فطبيعة المرحلة هي التي تحدد خصائص القائد ومبررات وجوده ، لأنه لا يمكن ان نشاهد قادة من نوع استثنائي بعيدا عن الازمات التي تستدعي حضور القادة التاريخين ، ولذلك لا يحتفظ التاريخ الإنساني في ذاكرته إلا بهؤلاء الأشخاص الاستثنائيين
لكن هذا الواقع، لم يلغ السجال، القديم الجديد، حول دور الفرد في التاريخ رغم ان الشعوب هي التي تصنع التاريخ وتنتج القادة ،وهؤلاء القادة يتغيرون بتغير الظروف ، بحضورهم او غيابهم ، فقد يكون شخص ما كالبارزاني قائدا ورمزا عظيماً عندما يقود نضال شعبه ويعبر عن مصالحه وتطلعاته ، لكن عندما يأتي شخص اخر ويستلم دفة القيادة سواء تابع المسير في طريقه او اختط لنفسه طريقا اخر، تنقلب الولاءات وتتغير العواطف باتجاه القائد الجديد ، الذي يكتسب حضوره في الوعي الجمعي انطلاقا من الاهداف والغايات التي يمثلها وطردا مع الزمن، بمعنى كلما استمر حضور القائد الفيزيائي وتراكمت انجازاته كلما اكتسب مشروعيته واحتل مكانه في اللاشعور الجمعي الذي لا يخضع الى قانون او عرف ، فالشعب الكردي الذي يزيد تعداده عن خمسين مليون وفيه المئات من الاحزاب لم ينتج الا قيادات اقل من اصابع اليد الواحدة يمكن استحضار اسمائهم ، كالبرزاني ، مام جلال ،عبد الله اوجلان ومشعل التمو الذي كان مشروع قائد لكردستان سوريا لكن القدر كان له بالمرصاد فاختطفه قبل ان يرى مشروعه النور ولذلك بقي تأثيره محدودا بحدود الجغرافيا لتي كان ينتمي اليها .
رحل المام في وقت يتجه فيه شعب باشور الى الاستقلال وبناء الدولة رغم كل ما يتعرض له من ضغوط داخلية واقليمية ودولية ، لكن ارادة الشعب ستنتصر بالنهاية وسيكون النصر حليفه بكل تأكيد لان ارادة الشعوب لا تقهر .
بعد وفاة جلال طالباني، يبدو أن مسعود بارزاني هو القائد الكردي الذي تتطلع نحوه الانظار في الاجزاء الاربعة من كردستان لتحقيق حلم الكرد التاريخي في دولة مستقلة حتى لو كان على جزء من كردستان لان عبدلله أوجلان، زعيم «حزب العمال الكردستاني» لا يزال مسجونا في جزيرة ايمرالي ، وقد فوض انصاره عام 2013 باختيار مسعود البارزاني رئيسا للمؤتمر القومي الكردستاني لكن المؤتمر لم يكتب له النجاح لأسباب لسنا بصددها الان .
ثمة أسئلة يجدر بنا مواجهتها إزاء النقاش المثار في مسألة القيادة والجماهير ، تتعلق بما تم طرحه في المقدمة فموت المام كان يمكن أن يؤثر على عموم كردستان ، لكن وجود شخصية مناضلة كالبارزاني سوف سيخفف من هذا التاثير وسيجعله محدودا، لأنه يتحلى بصفات تجعله أقدر من الآخرين على الاستجابة للضرورات الاجتماعية التي تتأتى عن الأسباب العامة والخاصة فميدان العمل امام جميع الناس مفتوح لكن الرجال العظام هم من يبدعون فيه .
وبالمحصلة فان البيئة الاجتماعية هي التي تخلق القائد و تنتجه بالصورة التي هو عليها، رغم ان المزايا الشخصية قد تلعب هي الاخرى دورا في ظهور القائد وتميزه عن الآخرين قليلا، لكن هذه المزايا لوحدها لا يمكنها ان تؤدي الى ظهوره بغياب البيئة الاجتماعية المناسبة فظهور القادة مرتبط غالبا مع دعم مجتمعاتها لها .
_______________
نشرت في العدد (67) من صحيفة بوير برس