محاولة في فهم الموقف الأمريكي من كردستان العراق (1)

عدنان بدرالدين
شكل الموقف الأمريكي من التطورات الدراماتيكية التي شهدها كردستان العراق بعد الخامس والعشرين من أيلول المنصرم صدمة قوية لكل المتابعين للعلاقات الأمريكية مع الإقليم الكردي في السنوات الخمس والعشرين المنصرمة. فعلى مدى ربع قرن، كانت واشنطن الرسمية، ولاتزال للمفارقة حتى الآن، تؤكد على تحالفها القوي مع الكرد، بإعتبارهم ركنا مهما في السياسة الأمريكية حيال “العراق الجديد” أولا، ومن ثم كحليف موثوق به في المواجهة مع تنظيم داعش الإرهابي ثانيا. وفي هولير عاصمة الإقليم الكردي توجد إحدى أكبر القنصليات الأمريكية في المنطقة. وكانت كردستان العراق في السنوات التي تلت سقوط نظام صدام حسين الدكتاتوري قد أضحت مزارا لكبار الساسة والمشرعين الأمريكيين من وزراء دفاع، وخارجية، وأعضاء بارزين في الكونغرس، بمن فيهم نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي زار العاصمة الكردية أكثر من مرة. 
وقد إستقبل رئيس الإقليم في واشنطن عدة مرات كما يستقبل رؤساء الدول، وحتى بحفاوة أكبر. وكانت الأوساط المعادية للكرد وقضيتهم تكتب بحسد عن شهر العسل في العلاقات بين واشنطن وهولير، وبين أمريكا والكرد عموما، وتطلق بأسى على المئوية الحالية لقب “قرن الكرد”. فما الذي حدث حتى تدير أمريكا ظهرها للكرد بهذه الطريقة المخزية عند أول صدام فعلي لهم مع إيران، الحاكمة الفعلية للعراق، حتى لو أنها مارست حكمها تحت ستار مؤسسات “عراقية” طائفية، وجيش طائفي، ومليشيشات شيعية ذات توجهات فاشية صريحة. والأدهى من ذلك كله أن هناك كلام كثير لايفتقد المصداقية، يؤكد أن الصفقة التي عقدتها مجموعة داخل الإتحاد الوطني الكردستاني مع قاسم سليماني، والتي تم بموجبها تسليم كركوك والمناطق الكردستانية الأخرى الواقعة خارج سيطرة الإقليم إلى إيران وعملاءها في العراق، قد تمت بمباركة أمريكية، أوعلى الأقل بعلم السيد بريت ماكغورك. كما أن الأمريكان صمتوا، ولايزالون، عن محاولات دول الجوار، وكلها معادية للكرد، فرض طوق بري وجوي محكم على شعب كردستان، وإتخذوا “موقف الحياد” في الحرب الشعواء التي شنتها عصابات الفاشية الشيعية ضد الكرد، داعين “الطرفين إلى ضبط النفس واللجوء للحوار لحل الخلافات البينية”، في مساواة بين الظالم والمظلوم، وهو نوع من التواطئ الضمني مع القتلة وجرائمهم.
هل هناك إذن تغير في الإستراتيجية الأمريكية تجاه الكرد؟ هل إستغلت واشنطن القوة القتالية الكردية مجرد أداة في حروبها بالوكالة في المنطقة، وقد حان الآن وقت الإستغناء عن الكرد حفاظا على مصالحها المتشعبة مع تركيا وإيران والدول العربية، كما يذهب إليه بعض الكتاب المعادين للكرد، أم الأمرهو تكتيك أمريكي آخر لجر إيران إلى المستنقع الكردي وإغراقها فيه، كما يقول مراقبون آخرون للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط؟ أو ربما أن الكرد ببساطة وقعوا ضحية صراعات بين مراكز القوى داخل الإدارة الأمريكية بين تيارين: تيارموال للكرد ممثلا بمؤسسة الرئاسة وقسم كبير من وزارتي الدفاع ولأمن القومي من جهة، وبين وزارة الخارجية التي لايزال يسيطر على مراكز إتخاذ القرارت فيها موظفون من إدارة أوباما، وخاصة السيد ماكغورك المعروف بصلاته الوثيقة مع أدوات إيران في العراق وفي المنطقة عموما، من جهة أخرى.
هذه المواضيع وغيرها سنتناولها في هذه الدراسة الموجزة كمساهمة متواضعة في التوصل إلى فهم أولي لخلفية سياسة واشنطن تجاه المحنة الكردية الراهنة.
بصدد إستراتيجية أمريكا المعلنة حيال العراق
تقوم الإستراتيجية الأمريكية المعلنة حيال العراق على تعهد الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم المساعدة في بناء دولة ديمقراطية فيدرالية موحدة تصان في ربوعها حقوق كافة مكونات العراق القومية والدينية. وقد صرفت الإدارة الأمريكية منذ أن أمر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بسحب قوات بلاده من العراق بدءا من عام 2011 بصرف مئات المليارات من الدولارات على تسليح وتدريب “القوات المحلية العراقية” التي كانت، ومازالت في جلها الأعظم مجرد أذرع عسكرية للنظام الإيراني. ولم تلق تحذيرات القيادة الكردستانية في شخص الرئيس مسعود بارزاني من أن العراق بدأ ينزلق بخطى متسارعة نحو الحكم الدكتاتوري آذانا صاغية في واشنطن، لا بل أن الأمريكان أصروا على ربط تقديم المساعدات لقوات البيشمركة بموافقة السلطات المركزية في بغداد التي صادرت في أغلب الحالات الشحنات المخصصه لكردستان، مما أدى إلى إختلال الميزان العسكري لصالح القوات العراقية التي تنفذ المشروع الإيراني في العراق والمنطقة.
من الواضح تماما أن الإستراتيجية الأمريكية في العراق فشلت فشلا ذريعا. فالعراق يتصدر قائمة الدول الفاشلة بمعايير الفساد، والأمن، والسيادة. وفعليا لم تعد هناك دولة عراقية موحدة، ولا جيش عراقي، بل مجموعات مليشياوية طائفية تقاد من طهران. وقد أدت سياسات نوري المالكي التي كتبت الواشنطن بوست قبل أعوام بأن السيد – بريت ماكغورك –  مبعوث الرئيس الأمريكي لدى دول التحالف المناهض لداعش، هو الذي نصبه رئيسا لوزراء العراق رغم معارضة غالبية القوى السياسية الفاعلة إرضاءا لطهران، نقول أن سياسات المالكي السيئ الصيت أدت إلى قيام تنظيم داعش الإرهابي في العراق وتمدده إلى سورية مع كل ماأدى إليه ذلك من كوارث ونكبات ستدفع شعوب المنطقة كلها فاتورتها لعقود قادمة.
يجب الأخذ بعين الإعتبار بأن إدارة ترمب جديدة، إذ لم يمض على مجيئها سوى تسعة أشهر، وهي مدة غير كافية لصياغة سياساتها الإستراتيجية، خاصة في ظل التحديات الكثيرة التي تواجهها في الداخل الأمريكي. ويبدو أن إيران تحاول  إستغلال المرحلة الإنتقالية هذه لفرض وقائع جديدة على الأرض بغرض تحسين وضعها التفاوضي مع إدارة ترمب التي بات مؤكدا أنها لن تعاملها بنفس الدلال الذي كانت تعامل به في ظل الإدارة السابقة.
وفي هذا الصدد، يجب الإشارة إلى أن الصحافة الأمريكية تحفل بأخبار التباين الواسع في الرؤى بين الرئيس ومساعديه المقربين وبين وزارة الخارجية بشأن ملفات عديدة تشمل كوريا الشمالية، والعلاقات مع روسيا، والوضع في سورية، وأخيرا وليس آخرا، ملف النووي الإيراني وتمدد نفوذ طهران في منطقة الشرق الأوسط على حساب النفوذ الأمريكي. ومن الواضح أن – ماكغورك – وصحبه يحاولون تجميل الأوضاع، خصوصا في العراق وسورية، للتغطية على الفشل الذريع الذي منيت به أمريكا نتيجة سياساتهم الكارثية، لكن الحقيقة باتت واضحة لكل من له عينان، إذ لايمكن حجب الشمس بغربال.
حقوق الكرد في الدستور العراقي
يحاجج الأمريكان بأن الدستور العراقي يكفل للكرد الكثير من حقوقهم، وأنه يمكن حل كافة الخلافات القائمة بين هولير وبغداد عبر الإحتكام إلى الدستور. الكرد أيضا يقرون بذلك إلى حد كبير، لكنهم يقولون أن الحكومة المركزية التي تسيطر عليها الشيعية السياسية لاتحتكم للدستور، بل لإملاءات طهران وفتاوى السيستاني. ومؤخرا قدمت حكومة إقليم كردستان عريضة مفصلة بالخروقات الدستورية التي إرتكبتها بغداد والتي جاوزت الخمسين خرقا، من أبرزها خرق مبدأ التوافق كسبيل لحل إشكاليات العراق، والإهمال المتعمد للمادة 140 حول مايطلق عليه في الدستور ب “المناطق المتنازع عليها”، والمادة المتعلقة بحصة كردستان من ميزانية الدولة البالغة 17٪، ودفع مخصصات البيشمركة بإعتبارها جزءا من المنظومة الدفاعية، وغيرها الكثير. وكان الأمريكان، بالطبع، أول المطلعين على العريضة المذكورة من بين دول ومؤسسات دولية وإقليمية عديدة.
الأمريكان يعتقدون، ربما بصدق، من أن إنفصال الكرد عن العراق سيقضي على كل نفوذ لهم في العراق، وهم يراهنون على أن إنتصار العبادي في الإنتخابات القادمة قد يحجم من النفوذ الأيراني في البلاد، لكن الكرد متأكدون من أن هذا وهم تروج له جماعة – ماكغورك – ، فالعبادي ينتمي لحزب المالكي نفسه، وولاءه لإيران لايقل عن ولاء سلفه، وأن القضية برمتها هي توزيع للإدوار يستهدف تجميل الوجه القبيح للإحتلال الإيراني للعراق.
 
  للبحث صلة
29/10/2017

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…