العد التنازلي للاستفتاء: 1- كوردستان بلا بحر …

د. ولات ح محمد
    ونحن أطفال صغار كنا نسمع الكبار في أحاديثهم يرددون أن مشكلة كوردستان (المحلوم بها) أنها غير مطلة على البحر وأن هذا سيسهل على الأنظمة المقتسمة للجغرافيا الكوردية أن تحاصر الدولة الوليدة بغية خنقها، كما أنها ستكون مقطوعة عن العالم وبطيئة النمو. ثم بعد سنوات صرنا نحن أيضاً نعيد ونكرر الفكرة ذاتها. كانوا يقولون ذلك وكأن كوردستان كانت ستقوم من غدهم وأن مشكلتها (مشكلتهم) الوحيدة أنها بعيدة عن البحر. كانوا يقولون ذلك بحسرة دون أن يدركوا (كحال كثيرين اليوم) أن الأنظمة التي ستقبل بقيام كوردستان لن تعمل على حصارها، وإلا فإنها لن تسمح بقيامها أبداً.
منذ أن أعلن رئيس إقليم كوردستان مسعود بارزاني عن يوم 25/9/2017 موعداً لإجراء الاستفتاء على استقلال الإقليم عن العراق عاد بعض الكورد إلى الحديث ذاته وباتوا يرددونه على طريقة أسلافهم قبل ما يزيد عن نصف قرن. بهذا الخصوص ومن حيث المبدأ يمكن أن نطرح المعادلة الآتية: لن تسمح الأنظمة المقتسمة لكوردستان بقيامها، وإن سمحت فلن تعمل على حصارها. أما إذا تم فرض قيامها على تلك الأنظمة فرضاً ورغماً عن إرادتها فإن القوى الدولية القادرة على فرض مشروع ضخم كهذا (كوردستان مستقلة) قادرة أيضاً على منع الحصار عنه، فهذا أسهل من ذاك بكثير.
   إذا قامت كوردستان مستقلة فلن تكون الدولة الوحيدة في العالم التي لا تطل على البحر؛ فهناك أكثر من أربعين دولة ليس لها حدود بحرية، وتسمى الدول الحبيسة أو المغلقة (16 دولة في أفريقيا و13 في أوربا و13 في آسيا ودولتان في أمريكا الجنوبية). المشكلة الأساسية التي تثار بخصوص تلك الدول تتعلق بالجانب الاقتصادي؛ فهي مضطرة في عمليتي الاستيراد والتصدير إلى الاستعانة بأراضي الجيران وموانئهم من أجل نقل بضائعها، وهذا ما يجعل التكلفة في العمليتين أضعافاً مضاعفة، إذ تصبح وارداتها غالية الثمن في السوق المحلية وتصبح صادراتها قليلة الربح في الأسواق الخارجية. ويزداد الأمر سوءاً إذا كانت علاقة إحدى هذه الدول سيئة مع جيرانها أصحاب أراضي المرور والموانئ.
    أكثر الدول الحبيسة معاناة – حسب الدراسات – هي دول القارة الأفريقية لأنها تعاني من فقر في الأساس بسبب قلة مواردها، ولكثرة عدد سكانها، ولضعف البنية التحتية من طرق حديثة وسكك حديدية مما يسهل الوصول السريع إلى موانئ الدول المجاورة، إضافة إلى بعد المسافة التي تفصلها عن تلك الموانئ؛ إذ تستغرق عملية النقل من العاصمة إلى ميناء الدولة المجاورة ما بين 34 و40 يوماً حسب أحد الباحثين. وهذا ما يجعل التكلفة أضعافاً مضاعفة ويزيد احتمالات إصابة بعض البضائع بالتلف. إضافة إلى أن جيران تلك الدول ضعفاء أيضاً في المجالات المذكورة أعلاه. 
    تأسيساً على ما سبق يمكن القول إن كوردستان مختلفة عن تلك الدول الأفريقية لاعتبارات عدة: فهي أولاً غنية بمواردها وثرواتها من نفط وزراعة وثروة حيوانية تكاد تغطي معظم احتياجاتها المحلية. وربما من خلال إقامة مجموعة من المصانع باستطاعتها أن تقلل احتياجاتها للاستيراد إلى درجة كبيرة. ثانياً ليست كوردستان وحدها بحاجة إلى جيرانها بل هم أيضاً بحاجة إلى نفطها وغازها والاستثمار فيها وجني ضرائب المرور منها. ولذلك ستبقى المنفعة متبادلة والحاجة أيضاً. ثالثاً ليست كل الدول الحبيسة فقيرة ومخنوقة وتعاني، وليست كل الدول الساحلية غنية ومكتفية ومتنامية ومنافسة في السوق؛ فعلى سبيل المثال سويسرا والنمسا ولوكسمبورغ والمجر والتشيك من الدول الحبيسة، بينما تعد الصومال وكينيا وتنزانيا وأنغولا من الدول التي لها حدود طويلة مع البحار والمحيطات، ويمكن للمرء أن يقارن بين المستوى الاقتصادي والصناعي والمعيشي والحضاري لتلك الحبيسة ولهذه الحرة المفتوحة على العالم ..!!!. مثال آخر، حدود هند البحرية أطول من حدودها البرية، ولكن أين التطور الصناعي والتنمية البشرية والاقتصاد القوي للهند العزيزة، وهي التي كانت معظم التجارة العالمية قبل مئات السنين لا تتم إلا بأختام موانئها ؟؟!!. 
    لقد تغيرت المقاييس وتبدلت السبل والطرائق في عصر الآلة والرقم والسرعة. وليس هناك مثال واحد يقاس عليه سلباً أو إيجاباً؛ فلكل تجربة خصوصيتها الذاتية والموضوعية. وفي النتيجة لا خوف على دولة لا تطل على البحر إذا كان أبناؤها يحبون العمل ويحبون الحياة. والشعب الذي يقدر على انتزاع دولة في هكذا ظروف يقدر على بنائها وإدامتها أيضاً.. و بالنسبة إلى الكورد – في كل الأحوال – كوردستان بلا بحر خير من أي شعبستان بلا كورد …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للتذكير: هذه هي الدول الحبيسة في قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية:
أذربيجان – التشيك – النمسا – سان مارينو – سويسرا – الفاتيكان – صربيا – أرمينيا – سلوفاكيا – أندورا – روسيا البيضاء – لوكسمبورغ – ليشتنشتاين – المجر- مقدونيا –  مولدوفا – أوزبكستان – أفغانستان – طاجيكستان – تركمنستان –  قرغيزستان – كازاخستان – بوتان – لاوس – منغوليا، نيبال – بوتسوانا – بوركينا فاسو- بوروندي- أثيوبيا – أفريقيا الوسطى – أوغندا، تشاد – رواندا، زامبيا – زيمبابوي – سوازيلاند – ليسوتو- مالاوي – مالي- النيجر- بوليفيا – باراغواي. 
ـــــــــــــــــــــــ
* المقال منشور في جريدة (بينوسا نو) العدد 63، يوليو/ تموز 2017.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…