من كرماشان إلى Girmisîn

ابراهيم محمود 
السؤال يتعلق بقرية ” Girmisîn   ” الواقعة على بعد ” 35 كم ” تقريباً، جنوب غرب قامشلو ، وهي بالمقابل تقع جنوب القرية التي أمضيت فيها طفولتي ” خربة عنز ” بعدة كيلومترات: من أين جاء هذا الاسم؟ هل من صلة بينه وبين اسم ” كرماشان ” في كردستان الشرقية، وليس ” كرمانشاه كما هو محرَّف في التسمية الفارسية ؟ هل من أصول معينة لهذا الاسم ؟
في بحث للبروفيسور محمد موكَري وهو ” كرمانشاه- باختران- كرماشان “، تابعت مسيرة تحريف هذا الاسم وغيره من الأسماء الكوردية الكثيرة من وجهة نظر تاريخية :عربية إسلامية ومن ثم فارسية، لأسباب ذات صلة بالموقف من الآخر.
البروفيسور العلامة الإيراني الكبير، يتحرى حقيقة اسم كرماشان وليس كرمانشاه.، ومنذ عدة عقود من الزمن، إذ يذكر أن ” كرماشان ” هي التلفُّظ الصحيح والقديم والأصلي المحلي، أما ” كرمانشاه ” أو ” كرمانشاهان “، فهي تلفُّظ رجال الدولة والمستوفين والموظفين ومأموري النفوس في القرون الأخيرة..
يضيف عن أن اسم المدينة أصلاً ” كرماجان Kurmaçan” ،” كرماجان : أي مدينة الرعايا، وقد ضبطه المؤرخون المسلمون بصيغتي ” قرماسين ” وقرميسين ” حسب اختلاف التلفظات والنسخ .
ومتابعة عملية التغيير في الحروف لا تقوم على مجرد ممارسات لغوية، وإنما على سياسات لغوية لا تنفصل عن رؤية الناطقين بها وهم في موقع سلطوي ما، ولهم علاقات مع آخرين ومن زوايا ثقافية ومعتقدية مختلفة.
جرّاء التحريف في سردية التعريب السلطوية تاريخياً، ظهرت ” قرمانسين ” وأن صيغة ” قرمينس ” كما يذكر البروفيسور موكري، معرَّبة لـ” كرمانج ” وأمالتها ” كرمينج : أي الكورد، كما يذكر مترجم مقاله “.
لاحقاً، وبعد متابعة لغوية تستغرق مراحل تاريخية، يرى موكري أن ” قرماسين ” و” قرميسين ” معربتان لصيغتي ” كرماجان Kurmaçan ” ، و” Kurmaçin ” و” كرماجين ” ليس إلا، وليستا معربتين من ” كرمانشاه “.
في إشارة لافتة ومهمة من موكري، هذا العلامة الإيراني وهي أنه ” لم يوجد بين أسماء مدن وقرى إيران ولو اسم قديم واحد مركَّب من كلمة ” شاه ” واسم مدينة كما في ” كرمانشاه = كرمان وشاه ” إذ لم توجد قطعاً وأصلاً مدن بأسماء: كيلا نشاه، أصفهانشاه، تبريزشاه، شيرازشاه، همدانشاه ونظيراتها “، ثمة ما ينيرنا.
ويلاحظ فيما بعد أن الصيغة الجديدة ” كرمانشاه ” بفعل الزيادة، ثقيلة وممجوجة وغير مستساغة.
للتأكيد على ” أصالة ” كرماشان ” و” كرماشاني ” يورد أمثلة شعرية، منها:
ريكَه ى كرماشان كَول و، كَولده سه
بو يشنه دووسه كه م غه ريبي به سه
” درب كرماشان ورود وباقات زهر
قولوا لحبيبي كفتْك الغربة “
أو:
كرماشانيكم وه ديل كَريامه
وه حوكم دووسم زه نجير كريامه
” كرما شانيٌّ أنا ، واقع في الأسر
مكبل بالسلاسل بأمر حبيبي “
….الخ.
ما أريد قوله مما تقدَّم، أننا نجد أنفسنا أمام أسماء لمواقع، لمدن، لقرى، نتهجاها، أو نتداولها، أو تطرَح علينا لمعرفة معانيها، فيصعب علينا القطْع في ذلك.
سوى أن ما يقبل المكاشفة النقدية وتعرية مدونات الذين تعاملوا مع أمكنة سواهم، وهي بأسماء يعرفها سكانها الأصليون،  هو أن هناك تاريخاً طويلاً ومريراً في ذاكرة هذه الأسماء ” المعذَّبة ” بتحريفات لغات/ سلطويات أخرى، والقيمين عليها عبر عصور التاريخ المديدة، عربياً وفارسياً، وتركياً في المسار الإيديولوجي المعاصر بمفهومه .
السؤال المطروح هنا، ما الذي يربط ” Girmisîn ” القرية البعيدة بـ” كرماشان ” تحديداً، وهي في كردستان الشرقية بآلاف الكيلومترات؟ ربما كان استدعاء ذاكرة المهجَّرين أو المرحَّلين بالإكراه والتهديد بالتصفية إن لم يتم ذلك، من كردنا في أمكنة مختلفة، وأزمنة مختلفة، كما هو دأب السياسات القامعة لهم، ربما كان ذلك مفيداً، لمعرفة ” سر ؟ ” وما في بنية اسم القرية دلالةً ، ومدى ارتباطها باللفظة العربية ” قرميسين/ قرمسين “، وأن تهجئة أهاليها وهي تبتدىء بحرف غير متداول في العربية ” G “، لا تعني تبرئة الاسم ، إنما اعتبارها تحريفاً من كرماشان “، وهي ” Kurmaçan ” أو ” Kurmaçin ” وصلتها الحميمة بـ” كورمانج / كورمينج ” بالإمالة في الأخير، وكما هي الصيغة المتداولة في جنوب كوردستان .
الحرف الأول مضلّل كثيراً، حيث يذكّر مع الحرف التالي عليه، وبينهما الكسرة، بمعنى ” تل : Gir”، وثمة أسماء قرى كثيرة ينتسب إليها كردنا في كردستان الشمالية، وامتدادها في الجنوب الغربي، وهو ما ينبغي التعمق فيه. 
وللتوضيح، فإن أهالي القرية هذه خليط من العرب والكرد “، إلى جانب أن ثمة قرية مجاورة لها تبتدىء بالحرفين الأولين مع كسر الحرف الأول، أي ” Girzîn  ” الكردية، فكيف حصل هذا التقابل أو التجاور بالطريقة هذه ؟ هل من تنافس ما ؟
تُرى ” مجدداً “، كيف، ومن أين جاء اسم ” Girmisîn “؟ وما صلته بـ” كرماشان ” وليس ” كرمانشاه “؟ أرى أن متحرّي مهجّرين الكرد وهم أجدادنا وأسلافنا، من خلال مسيرة التاريخ الكردي الذي اجتهد خصوم الكرد وأعداؤهم ومن يقتدون بهم في تدوينه كما يريدونه هم ومن يأتمرون بأمرهم، أو تبعاً لغواية الإيديولوجيا المسيطِرة، وكيف أن الهجرات الكردية الطبيعية هي أقل ما يمكن الإشارة إليه، مقاربة بالهجرات القسرية التي كانت تتم إما لأن الكرد كانوا يقاومون الأنظمة التي تستبد بهم، وإثر فشل كل مقاومة/ انتفاضة: ثورة/ مواجهة ما، كانت الأنظمة الطاغية تباشر مهمتها التليدة في التشتيت لعائلات وعشائر وجماعات إلى أماكن متباعدة عن بعضها بعضاً، أو مواطنها الأصلية، أو لأنهم كانوا يعيشون ضغوطاً شتى: اقتصادية واجتماعية وعنصرية ضمناً، فيضطرون إلى البحث عن مناطق أكثر إيفاء بالقوت والأمان النسبي، وهي عملية ما تزال قائمة إلى يومنا هذا، ولو بشكل أكثر حداثية وما بعدها.
ربما كانت قرية ” Girmisîn ” نموذجاً من بين آلاف النماذج التي تتطلب تقصياً دقيقاً وتوثيقياً وعلمياً من خلال توأم التاريخ والجغرافيا، ومعرفة نوعية المسافة الفاصلة بين كل من هذا الاسم وكرماشان.
بمعنى آخر، ربما كان على الساعي إلى معرفة ذلك، أن يجسّد دور مبدع رواية ” الجذور” إلكس هالي، والتي تمت تلفزتها منذ عدة عقود من الزمن، حيث مشهد التكبيل بالسلاسل لأفارقة استعبِدوا وهرّبوا إلى ” أميركا ” ولم ينسوا أنهم أفارقة.
أذكّر بما قلته- أخيراً وليس آخراً- في مكان آخر، أن أحد أعمامي وقد توفي قبل سنوات، قال لي ذات مرة: أتعلم يا ابن أخي أن أصولنا من كرمانشاه ” هكذا قال، تحت تأثير الثقافة المسيطِرة ودون أن ينتبه إلى ذلك، وليس كرماشان “.
هل من عبرة لهذا القول، أم إنه مجرد تلاعب بالألفاظ وخروج عن النص ” المحْكم “، كما يتردَّد هنا وهناك ؟
ملاحظة: استندت في كتابة هذا المقال، إلى مقال البروفيسور ، السالف ذكره، ومن ترجمة الصديق الشاعر والباحث والمترجم المعروف جلال زنكَبادي، في مجلة ” كُولان العربي “، ع” 13 ” 25 حزيران 1997 ، صص98-101 .
دهوك
1-8/ 2017 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…