هوشنك أوسي
لا يعطي التاريخ القريب والبعيد أيّ مثال عن شعبٍ أو إقليم سار نحو الاستقلال، وكان سيره هذا محلّ إجماع وترحيب دولي مطلق. كذلك لا يعطي التاريخ مثالاً على أن السعي الاستقلالي او التحرري لشعب ما، حظي بإجماع سياسي وثقافي كامل ومطلق من كل أبناء هذا الشعب. بل كانت هناك دائماً نسبة معيّنة من أبناء أي شعب، على مستوى الساسة والمثقفين والعامّة، لديهم آراء ومواقف مناهضة وأحياناً معادية للسعي الاستقلالي التحرري، عبّرت عن نفسها في أشكال مختلفة ومتعددة، منها ما تدثّر بلبوس الوطنيّة المضللة والمنافقة والحرص على السلم الأهلي ووحدة التراب الوطني، وشيطنة الطرف الاستقلالي على أنهم «انفصالي» ومن «عشّاق الحروب والدمار والويلات». هذا الشكل من الاعتراض المحلّي الداخلي أو «البيني» على حق الاستقلال القومي، وصل في بعض الأحيان إلى الاقتتال الداخلي. والحال الكرديّة، زاخرة بالأمثلة على ذلك، قديماً وحديثاً! ففي مواجهة حركة التحرر الكرديّة، كان هناك دائماً حراك «كردي» مناصر ومعاضد للإنظمة التي تقتسم الجغرافيا الطبيعية والبشرية الكردية.
معطوفاً على ما سلف، ثمة سعي تشويهي وتضليلي لمفهوم الاستقلال (باعتباره حقاً قانونيّاً عادلاً للشعوب في تقرير مصيرها)، وتقديم ذلك على أنه «انفصال». وكل الحركات الاستقلاليّة أو الأفكار والطروحات والمشاريع الاستقلاليّة ذات المنحى والخلفيّة القوميّة، يتم تسويقها في شكل سلبي على أنها «انفصالية»، في إطار شيطنة هذا الحق والمشاريع وأبلسة وتخوين المطالبين بها أو الداعين والمساندين لها، وذلك عبر التهويل من تبعات الاستقلال والتحذير من مآلات تحقيقه على دول المنطقة وشعوبها! وأنه ثمة قوى ظلامية كابوسية دولية تقف وراء هذا السعي الاستقلالي… ألخ لضرب استقرار المنطقة وأمن وسلامة شعوبها!
مناسبة هذا الكلام، هو الاستفتاء المزمع إجراؤه يوم 25 أيلول (سبتمبر) المقبل في كردستان العراق، وحجم التهويل الذي حظي ويحظى به من جانب الممانعين على الصعيد الكردي العراقي، والعربي العراقي، والإقليمي والدولي، لكأنّ حصول إقليم كردستان العراق على الاستقلال هو «من علامات انهيار العالم!
والحق أن كل هذا الطيف الممانع، تجمعه وحدة مصالح تستفيد من بقاء الوضع على ما هو عليه الآن، ليس حبّاً في العراق وسيادته ووحدة أراضيه، بل كرهاً بالكرد، أو كرهاً بالجهة السياسيّة التي تدعو وتسعى إلى استقلال كردستان! على الصعيد الإقليمي، أكثر من ينتهك سيادة العراق ولديه أطماع تاريخيّة إقليميّة في هذا البلد، ومتورّط في الدم العراقي والفوضى العراقيّة، هم أنفسهم المعارضين لاستقلال كردستان العراق بحجّة الحفاظ على سيادة العراق ووحدة أراضيه! وأقصد هنا، إيران وتركيا. كذلك المعارضون للاستقلال، محليّاً كرديّاً وعربيّاً (شيعة وسنّة) أثبتت الوقائع والمعطيات أن هؤلاء «الممانعين» هم أداوت القوى الإقليميّة التي تنتهك سيادة العراق وتعبث بأمنه وتنهب ثرواته! وعليه، استقلال كردستان، سيفقد «الممانعين» الكرد، وغيرهم، امتيازاتهم السياسيّة والاقتصاديّة، وسيفتح دفاترهم القديمة، وسيقلل أو يقطع الدعم الذي يصلهم من القوى الإقليميّة المذكورة.
وغالب الظنّ أن الممانعين الإقليميين لن يدخلوا في حرب إقليميّة مع كردستان العراق، في حال أعلن الإقليم الاستقلال يوم غد، وليس بعد ظهور نتائج الاستفتاء. بل سيتعاملون مع الأمر على أنه واقع مفروض لا مناص أمامهم من قبوله والاعتراف به. وعليه، ليس ضرباً من المبالغة والتكهّن أن نقرأ في الصحف أو نرى في قنوات التلفزة التركيّة والإيرانيّة والعربيّة، عبارة: «زار رئيس دولة أو جمهورية كردستان، السيد فلان، هذه الدولة أو تلك، وصرّح بكذا وكذا…»، عادية ومتداولة، مثلما الآن عبارة «رئيس إقليم كردستان العراق» عادية ومتداولة في الإعلام العربي والتركي والايراني والعالمي. بالتالي، يمكن من الآن أن يهيّئ القارئ أو المشاهد أو المستمع نفسه على قراءة وسماع عبارة: رئيس دولة أو جمهورية كردستان.
وتمكن مناقشة حجج الممانعين لاستقلال كردستان على ثلاثة مستويات، كردي وعربي وإقليمي، أما المستوى الدولي فجلّ تحفظّاته أو اعتراضه يأتي تماشياً مع التحفّظات والاعتراضات الإقليميّة:
كرديّاً، تطالب حركة «كوران» المنشقة عن «الاتحاد الوطني الكردستاني» (بزعامة) جلال طالباني، بالقضاء على الفساد، وإنعاش الديموقراطية، وإتمام عملية الإصلاح الإداري، وإلغاء الوصاية العائليّة والقبليّة على الحياة السياسيّة في كردستان العراق، قبل إعلان الاستقلال. وكل هذه المطالب، هي محقّة ومشروعة، ولكنها من صنف «كلام حقّ، يُراد به باطل». ذلك أنه ثمة عقدة مستعصية وتاريخيّة لدى بعض الجهات والأطراف والشخصيات السياسيّة الكرديّة العراقيّة، هذه العقدة اسمها «آل بارزاني» أو عشيرة بارزاني. هذه العقدة موجودة منذ أوّل خلاف نشب في الحزب الديموقراطي الكردستاني بين سكرتير المكتب السياسي، ابراهيم أحمد، وزعيم الحزب الملا مصطفى بارزاني، وانشقاق الأوّل من الثاني ودخول الطرفين في صراع عسكري وسياسي وفكري عميق وعويص ومزمن، ما زالت تبعاته مستمرّة. وأغلب المتواجدين في «الاتحاد الوطني» و «حركة كوران» ينتمون إلى تلك البيئة التي أسس لها ابراهيم أحمد وقتذاك. مع وجود استثناءات قليلة، كنائبي جلال طالباني: كوسرت رسول علي وبرهم صالح، اللذين أعلنا جهاراً تأييدهما الاستفتاء واستقلال كردستان، بالضد من مواقف رفاقهما، بخاصة جناح هيرو ابراهيم احمد، عقيلة جلال طالباني، المتحّكمة بـ «الاتحاد الوطني».
جزء من حجج هؤلاء، ترتكز على أن الظروف غير موائمة وغير ناضجة لإعلان الدولة. ولكنهم يجهلون او يتجاهلون أن الظروف الأكثر موائمةً ونضوجاً لإعلان الدول، هي نفسها الظروف المضطربة غير المناسبة أو غير المستقرّة. ذلك أن أغلب الدول الأعضاء حالياً في الأمم المتحدة، نشأت أثناء أو غداة الحروب والقلاقل والاضطرابات التي شهدها العالم. من جهة أخرى، الكثير من الدول المستقلة التي تحكمها عوائل وأسر، هي دولة ناجحة، ولا يمكن الحكم على دولة كردستان بالفشل الاستباقي لأن من يقود عملية الاستقلال هم آل بارزاني! معطوفاً عليه، يوجد دول عمرها عشرات السنوات، ما زال الفساد معششاً فيها بنسب متفاوتة. وبالتالي، لا يمكن وضع مكافحة الفساد والإصلاح الإداري أمام عملية الاستقلال، لأن ذلك يشبه وضع العربة أمام الحصان!
عربيّاً، ثمّة تهويل كبير من أن استقلال كردستان على أنه سيشعل المنطقة ويفتتها. وأن الأكراد يستغلّون الفرصة على أن المنطقة مضطربة والدول منشغلة بموضوع الإرهاب… ألخ. هذه الحجج أيضاً، لا تمتلك أدنى درجات الوجاهة والمعقوليّة والانسجام. ذلك أن المنطقة مضطربة ومنقسمة على أساس ديني وطائفي ومذهبي وعائلي…، منذ 1400 سنة تقريباً، ولا علاقة لوجود دولة كرديّة من عدمها بهذه القلاقل والاحترابات والاضطرابات المتناسلة والمتوارثة منذ قرون. وبديهي أن يستغلّ الأكراد الفرصة، اقتداءً بالعرب الذين استغلوا فرصة وهن وضعف السلطنة العثمانيّة للاستنجاد بالأجنبي الإنكليزي. وكل حركات التحرر او الشعوب المضطهدة تستغلّ الظروف. ومع ذلك، لم يستنجد الكرد بالأجنبي إلاّ حين استخدم نظام صدام حسين الكيماوي ضدهم. وأصلاً إذا لم يستغلّ الكرد هذه الظروف، فهذا مؤشر على وجود خلل وعطل كبير لدى القيادات والنخب السياسيّة والثقافيّة الكرديّة. وليس مطلوباً من الكرد أن ينتظروا حتّى يحلّ السنّة والشيعة مشكلاتهم التاريخيّة المزمنة والأبديّة والكارثيّة، حتى يتّجهوا بعد ذلك نحو الاستقلال! بالتالي، استغلال الظروف نقطة تسجّل لمصلحة الكرد وليست عليهم.
من جهة أخرى، جامعة «الدول العربيّة» باعتبارها «هيئة الأمم والدول العربيّة» منذ تأسيسها وحتى هذه اللحظة، فشلت فشلاً ذريعاً في حلّ أي إشكال بين الدول العربيّة. وإذا كان هنالك شيء اسمه «العمل العربي المشترك» الذي يذكر دائماً في بيانات اجتماعات ومؤتمرات «الجامعة» فهو الوقوف مع النظم الاستبداديّة العربيّة ضد إرادة شعوبها. وبالتالي، مثلما كان إقليم كردستان العراق الفيديرالي يمثّل قصة نجاح معقولة في المنطقة، فإن دولة كردستان المستقلّة أيضاً ستكون قصة نجاح. وهذا ما يدركه ويعرفه ويعيه الممانعون لقيام دولة كرديّة في المنطقة. وهو السبب الحقيقي الخفي الذي يقف وراء رفضهم قيام دولة كرديّة في الشرق الأوسط، ولو على مساحة كيلومتر مربّع، وليس على مساحة كردستان العراق!
إيرانيّاً وتركيّاً، الحجج التي تقف وراء رفض قيام الدولة الكرديّة تبدو متطابقة، على أن أيّة دولة من هذا القبيل ستعزز رغبة أكراد هذين البلدين في المطالبة بالمِثل والانفصال عن تركيا وإيران. هذه الحجة، في أصلها وجوهرها، إقرار بأن هنالك حقّ كرديّ أصيل ومهضوم في هذين البلدين، ويتم منعه وحتى اغتصابه بأيّة طريقة كانت. وهذا الرفض الاستباقي لقيام الدولة الكرديّة، على ما فيه من اعتراف بالحق الكردي المهضوم، يفتقد إلى المعطى العملي والمنطقي. ذلك أن إقليم كردستان العراق، يتمتّع بنظام حكم فيديرالي أو حكم ذاتي منذ 1992، وكان وما زال على علاقات جيّدة ومعقولة مع الجارين التركي والإيراني، ولم يخلق الإقليم الكردي أيّة مشكلات داخليّة للأتراك والإيرانيين، ولم يحرّض أو يساهم في تحريض أكراد تركيا وإيران وسورية على المطالبة بأقاليم مماثلة. على العكس تماماً، ساهم إقليم كردستان العراق في ضبط الحراك العسكري الكردي الإيراني ضد طهران، عبر «الاتحاد الوطني الكردستاني». كما ساهم «الديموقراطي الكردستاني» في حلحلة الملف الكردي في تركيا، والتفاوض بين «العمال الكردستاني» وأنقرة. من دون أن نسهو عن أن «العمال الكردستاني»، وطبقاً لأدبيات الحزب وكتب زعيمه الأخيرة ومراجعاته النقدية في سجنه الانفرادي، بات يجنح إلى التسوية داخل تركيا، في إطار الحد الادنى من الحقوق الكرديّة. وصار «الكردستاني» يشيطن الفكر القومي والدولة القومية، ويجاهر برفضه لقيام هكذا دولة أيضاً. وعليه، المبررات والحجج التركيّة والإيرانيّة وما يكتنفها من تهويل وتخويف من قيام دولة كرديّة، هذه الحجج سقطت بالتقادم وبحكم معطيات ومستجدات الواقع.
لا خيار أمام رئيس إقليم كردستان العراق إلاّ المضي في المسعى الاستقلالي وعدم الرضوخ لضغوطات التأجيل التي هي في الأصل، ضغوطات الرفض. ولو بقي بارزاني ينتظر الظروف الداخليّة والإقليميّة والدوليّة مئة سنة أخرى، فلن يحصل على نسبة تأييد وإجماع كردي، مئة في المئة، وسيبقى هنالك من يعترض على استقلال كردستان من بين الكرد والعرب والعجم. فحتى لو كانت نتيجة الاستفتاء المذكور آنفاً 51 في المئة، فهذه النسبة، مثلما كانت كافية لإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكانت كافية لتغيير النظام السياسي في تركيا من برلماني إلى رئاسي، كذلك هي كافية للاستمرار في الخطوة الكردية التاريخية والمصيريّة الاستقلاليّة. وأي تراجع أو تزحزح عن هذه الخطوة هو «انتحار» لمسعود بارزاني، وانتكاسة عميقة ومؤلمة ومخيّبة للشعب الكردي عموماً، تتجاوز في شدّتها وقوّة تأثيرها السياسي والثقافي والنفسي والاخلاقي، إعلان فشل الثورة الكرديّة عام 1975، غداة التوقيع على اتفاقية الجزائر بين شاه إيران وصدام حسين.
على ضوء ما سلف، جرّب الأكراد العيش ضمن دول شموليّة قوميّة تركيّة وإيرانيّة وعربيّة. وحان الوقت لهذا الشعب أن يجرّب العيش في كيان مستقل. وفي حال كان هذا الكيان «فاشلاً وسيّئاً»، فسيعود الكرد إلى كنف الدول القائمة الموجودة. أو أقلّه، سيرفض الكرد في تركيا وإيران وسورية خوض التجربة العراقيّة وتكرارها «فشلها». وعليه، منطق المصالح الإقليميّة العربيّة والتركيّة والإيرانيّة، من المفترض أن ينحاز إلى قيام دولة كرديّة، من باب إبطال مفاعيل القضيّة الكرديّة الدائمة التفجّر، من جهة، وإزالة سحر الدولة القوميّة من الوعي السياسي والثقافي الكردي من جهة ثانية، والتأكيد على أن خيار الدول القائمة الموجودة هو الأفضل والأنجع والأحسن للأكراد ولشعوب المنطقة، من جهة ثالثة. أمّا الرفض والممانعة المستندة على أرضيّة هشّة من الاسباب والحجج والمبررات الواهية، السالفة الذكر، فسيبقي جذوة ضرورة قيام الدولة الكرديّة خالدة ومتقدة في الوجدان والوعي السياسي والثقافي الكردي إلى أبد الآبدين. وسيعمل الكرد على قيام هكذا دولة، مهما طال بهم النضال السلمي أو العسكري.
* كاتب كردي سوري
صحيفة الحياة
http://www.alhayat.com/Articles/23335398/الاعتراض-الكردي-على-استقلال-الإقليم-بصفته-امتداداً-للإنشقاق-الأول-عن-بارزاني