د. محمود عباس
يقول ول ديورانت، في كتابه قصة الحضارة المجلد الأول الجزء الثالث عشر، في بداية القرن السادس قبل الميلاد ” أخذ الفرس عن الميديين لغتهم الآرية، وحروفهم الهجائية التي تبلغ عدتها ستة وثلاثين، وهم الذين جعلوا الفرس يستبدلون في الكتابة الرق والأقلام بألواح الطين… أما أدبهم وفنهم فلم يبق منهما لا حرف ولا حجر”كما ويذكر أن كتاب زرادشت (أفيستا) كان مكتوبا على الرّق. تبين لنا هذا أن أسلاف الكرد(كما يقول باسيل نيكتين في كتابه الأكراد) ومنذ بدايات الحضارة الميدية اكتشفوا واخترعوا إحدى أهم المقومات التي ساعدت على انتشار الثقافة بشكل واسع وسريع في حضارتهم والحضارات اللاحقة، ولا شك تطوير هذه الأدوات كانت تفرضها الحاجة والتطور الثقافي، حتى ولو كانت في أروقة القصور الملكية ودواوينها، أو في المكاتب الخاصة بين شريحة معينة من المجتمع، إن كانوا من الكهنة أو رجال البلاط،
وهذه على الأغلب خّرجت مجموعات من الفلاسفة والشعراء والأدباء، وسهلت لهم نسخ ونشر نتاجاتهم، وهو ما لا نجد له ولهم من أثر، إلا ما تم ذكره شفهيا، كالتي يقال عن كتاب الزردشتية آفيستا على سبيل المثال أو ما تم ذكره بين سطور بعض الكتب التي حفظت من الضياع والتلف بطريقة ما، كالكتب التي تم فيها تخليد مآثر ملوك الساسانيين أو الأخمينيين، إلى جانب الاستقراء وقراءة غير مباشرة لأثار اركيولوجية ضمن أنقاض مدن الحضارات التي قامت على جغرافية كردستان الحالية، كالميدية التي دمرتها الأخمينيون الفرس، والتي تحتاج إلى التنقيب، وأخرها الساسانية، التي قضت عليها القبائل العربية الإسلامية.
لا خلاف على ما ذكره أحد الكتاب العرب “أن الشعر عند بادية العرب هو المظهر الحضاري البارز عند البدو” بل وأن المقولة تزيد من التأكيد على أن كل بنية حضارية لا بد من وجود شريحة من الشعراء والأدباء والفلاسفة، وعليه فقد كان هناك شعراء كرد أو من الشعوب الأخرى كانت تعيش الحضارة الساسانية، قبل الاجتياح العربي الإسلامي. ولا بد من وجود أسباب على عدم ذكرهم في التاريخ الذي تم تدوينه بأمر من السلطات الجديدة. ونحن هنا لسنا بصدد تدوين الأسباب فقط، بل العمل على التنقيب عن فتات ربما بقيت تحت ركام التدمير المقصود أو العشوائي.
ولا يهمنا نوعية الشعر أو الأدب أو الفلسفة، بقدر ما يهمنا وجوده من عدمه، ونوعيته هي إشكالية أخرى، في حال إيجاده، رغم أن العديد من الكتاب العرب، يفتخرون أن الشعراء العرب تناولوا معظم جوانب الحياة، في الوقت الذي كان فيه الشعراء المصريون أو اليونانيون القدامى على سبيل المثال لا يتطرقون سوى إلى تمجيد الألهة، ورغم الخطأ الكبير والتحيز الفاضح في هذه المقارنة، يتناسون التطرق إلى شعراء الشعوب الأخرى، كالكرد والفرس والأمازيغ، ولربما يفعلونها لأنهم يدركون ما فعلته الاجتياحات الإسلامية العربية بمناطق هؤلاء الشعوب، وإن وجدت فهي على الأغلب كانت على مراحل أعلى بكثير فكريا وثقافيا، لأنها كانت تتشرب من البيئة الحضارية.
ولا شك أن القضية تتجاوز الشعر، من حيث التنقيب عن الثقافة السائدة بين الكرد (في قضيتنا المطروحة كمثال عن الشعوب الأخرى المجاورة) وهي تمثل الأدب السردي والملاحم، والفلسفة، والموسيقى، والفن وغيرها من المجالات الثقافية الحضارية، ونادراً ما يتطرق إليها المؤرخون العرب المسلمون، لضحالتها عند العرب الجاهلية، إن لم يكن عدمها، وهذا ليس انتقاصا للشعب العربي وتراثه، بقدر ما هو تبيان للحقيقة الغائبة، وتضييعهم لمآثر الشعوب الأخرى، والتي كانت على مستويات حضارية لا تقل عن اليونانيين والمصريين إن لم تكن أعلى في بعض المجالات، كشعوب الحضارة الساسانية الكرد والفرس والسريان النسطوريين خاصة وشعوب أخرى في المنطقة.
وإذا تتبعنا تاريخ مدينتي نصيبين والرها على سبيل المثال، نجدهما أكبر مركزين ازدهرت فيهما المذهب النسطوري في الديانة المسيحية، بدأت بعد المجمع المسكوني الثالث، والمنعقد في مدينة أفسوس عام 431م وحتى نهاية القرن السابع، وقد جعل آخر خلفاء الأمويين محمد بن مروان، (والمسمى بالحمار، أبن الأميرة الكردية من ويران شهر) نصيبين عاصمة له في فترة حروبه الأولى ضد جيوش أبو مسلم الخرساني، ، وهي دلالة على أن هاتين المدينتين كانتا تحتضنان مراكز ثقافية فكرية مهمة، ولا بد وأنه كان فيهما شريحة من الأدباء والشعراء والفلاسفة إلى جانب المجمع الكهنوتي النسطوري، والمدينتان في قلب جغرافية كردستان الحالية. والسؤال هنا: أين هي آثار هذه المراكز الدينية الثقافية العائدة لتلك الحقبة، كيف ومتى زالت؟ علما أنهما كانتا حاضرتين مهمتين حتى عند غزوات عياض بن غنم للمنطقة، وبنود صلحه التي فرضها على عليهم مشابهة للبنود التي وضعها عمر بن الخطاب لمسيحيي القدس، وعلى أساسها دخل الجيش الإسلامي العربي لمجمع نصيبين.
وتأكيدا على ما كانت عليه المدن الكردية من الرقي الثقافي والتطور الحضاري، نورد ما ذكره شوقي ضيف في كتابه (تاريخ الأدب العربي) الصفحة(94) ” كانت تقوم …قبل الإسلام مدارس مختلفة في الإسكندرية وقيسارية وأنطاكية والرها ونصيبين وحران وجنديسابور، فاتصلت العربية بكل هذا التراث وأخذت تعمل على المزج بينه وبين معارف العرب وآدابهم” وخير مثال كتاب (هزار أفسان) أي ألف خرافة، وهي القصص التي ترجمت وحورت إلى ألف ليلة وليلة، وكتاب هزار دستان وغيرهما العديد من الكتب التي ترجمت إلى العربية وضاعت الأصل. والسؤال هنا ثانية: أين هي ذاك التراث وتلك الآثار الأدبية والعلمية والفنية التي أخذت منها العرب ومزجتها في أدبها؟
ولتبيان جانب من احتمالية أن يكون هناك مخطط مدروس وراء عدم معرفتنا للماضي الأدبي الكردي، سنطلع على ماضي الشعوب التي لم تكن لها بنية حضارية وكانت غارقة في الضحالة الثقافية، لكنها تمكنت وبمساندة سلطاتها خلق ثقافة متينة من التراث الشعبي الشفهي الماضي، وتاريخ الأدب عند الشعب التركي خير مثال، فبناءً على نقوش (أورخان) لم يكن الترك يعرفون الكتابة حتى نهاية القرن السابع الميلادي، وبدأ نتاجهم الأدبي الكتابي المطبوع من بدايات القرن التاسع الميلادي، في الوقت الذي كانت فيها منطقة كردستان بشعوبها ومنهم الكرد على سوية عالية من الازدهار الثقافي، شعرا وأدبا وفلسفة، كتابة ونسخاً وترجمة، وجذورها الحضارية تعود إلى ما قبل الميلاد بقرون…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
9/12/2016م