دهام حسن
من المعلوم أن الأنظمة الاستبدادية، المحتكرة للسلطة، ذات اللون الواحد، أو الحزب الواحد؛ يتم التركيز فيها على تعزيز وترسيخ بنية السلطة – الدولة – حيث تهيمن الدولة على مجمل مفاصل الحياة العامة، في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع…إلخ ولكي تحافظ السلطة على هيمنتها، فهي تحارب عدوين في آن معا وعلى جبهتين: الجبهة الداخلية، حيث تحارب السلطة القوى الداخلية أي الشعب بمختلف مكوناته، أي ضد الحراك السياسي لسائر الحركات والتنظيمات التي تنشط وتناضل ضد القمع والاستبداد والتفرد بالسلطة، وبالضد من تحكم فئة قليلة – دون أية شرعية – في شؤون البلاد والعباد، تحارب السلطة ضد دعوة إطلاق الحريات العامة، حرية التعبير والتظاهر وتأسيس أحزاب وتنظيمات،
فقمع السلطة لهذه القوى المناهضة لها – هنا – يأتي لمعرفتها بأنها هي المستهدفة في المحصلة بالإزاحة والإقصاء، لأن هذا الحراك السياسي في أبسط أوجهه يرمي إلى إحداث تغيير في بنية الدولة, وتبديل في سلوك الحاكمين إن لم يكن في شخوصهم، وفي هذي الحال يكون الرابح هوشعب البلد المعني، والخاسر هو حفنة قليلة من المتسلطين أو المتنفذين من ذوي الحظوة لدى السلطة، لكن من البداهة أن الحكام لن يقبلوا بهذه المعادلة، لن يقبلوا بهذه الهزيمة أوالخسارة ما دامت فيهم قوة التحكم والقدرة على الاستمرارية، لهذا تراهم يستميتون في التشبث بالمناصب، ويمارسون شتى أنواع القمع في سبيل الحفاظ على مواقعهم وبالتالي على مصالحهم، ليخلقوا حالة من السكون الظاهري المريب، يتمسكون به، فيعكسون واقعا هادئا راكدا، يوهمون الآخرين بأن كل شيء على ما يرام، نافين عن وجود أي تذمر أواحتقان، ودون أن يقرّوا بجدوى التوسع في المشاركة، الذي يعني تعدد المنابر، وشرعنة لغة الحوار، وأخذ الرأي العام بالحسبان، والتخفيف من الاحتكاك بين الأطراف المتنازعة على الساحة السياسية، والوصول بالتالي إلى حالة من التفاهم والمشاركة في قيادة البلاد…
أما الحرب على الجبهة الخارجية.. فهي أي السلطة، تناضل بقوة ضد هذا العدو، ربما ليس لنهج وطني، لأنها تدرك – أيضا- أنها المستهدفة في المحصلة بالتنحية، وليس لشر مستطير قد يطال البلد، بل أحيانا تبدو الصورة مبعثا للسخرية والازدراء، فعندما تضعف السلطة أمام العدو الخارجي، تقوى شراسة ضد مواطنيها (الأعداء) في الداخل. أجل، كثير من سلطات الدول تراها ذليلة في مواجهة العدو الخارجي، وعنيفة في التعامل مع الشأن الداخلي، لهذا فالسلطة المستبدة تدرأ عن نفسها شرور نارين، نيران الداخل ونيران الخارج..
بعد هذا ترى: هل يحق لنا أن نسم هكذا نظما بنهج وطني مقاوم للعدو الخارجي؟ وهل مثل هذا النهج الوطني المقاوم للخارج، يكفي بالشفاعة لها عن انتهاكات الداخل؟ وهل هناك من وجاهة فكرية بمقايضة السياسة الخارجية بالسياسة الداخلية؟ أي هل نتسامح مع مظالمها، طالما هي تقوى أمام العدو الخارجي؟ أي بعبارة أخرى: هل يمكن لنا أن نكظم تذمرنا، ونغفو على استيائنا، ونتحمل أوزار السلطة في ممارساتها وانتهاكاتها في السياسة الداخلية المجحفة بحق الوطن والمواطن ونثني على السياسة الخارجية فحسب؟ وأخيرا هل يحق لنا أساسا فصل السياسة الداخلية عن السياسة الخارجية؟إن هيمنة الدولة المتمثلة في السلطة السياسية، والتي هي بمثابة شريحة سلطوية مغتنية أواغتنت ماديا واقتصاديا، هي التي تنتج الأفكار والمواقف السياسية التي تعكس مصالحها، وتسعى بالتالي للمحافظة عليها، والحفاظ على القاعدة المادية القائمة، وتدعمها، لهذا نستطيع القول من أن البنية الفوقية المتمثلة بالعقائد والإيديولوجيات، وسلوك السلطة في إصدار المراسيم والقرارات وتوجهاتها بشكل عام، هي في الأخير تعكس رؤية ومصالح الطبقة الحاكمة، وتكون بالتالي كابحا لأي تقدم نهضوي أو تنمية بشرية، على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، سواء ما يتعلق بالداخل أو بالخارج، فمعايير اتخاذ أية مواقف بالنسبة لهكذا سلطات أولا وأخيرا تكون السلطة حيث تكمن مصلحتها..والسياسة الداخلية هي التي تعطي الصورة الحقيقية لأي نظام أوسلطة، لهذا نخلص إلى القول من أن السياسة الخارجية لأية دولة، هي تنبع من سياسة السلطة الداخلية؛ وإذا ما راب أحدنا شك في أي تباين بين الداخل والخارج، فبإمكانه أن يقف على هذا التباين وأسبابه, سيدرك في النهاية من أن الحكم, أوالسلطة في الآخر هي المستهدفة، ومن أن هذا التباين لا يعدو كونه تباينا في الشكل لا مغايرا في سلوك السلطة، وبالتالي ليس أمام السلطة إلا أن تستشرس في الدفاع عن مواقعها ومصالحها كما أسلفنا؛ فهي تقمع أي حراك اجتماعي سياسي في الداخل، وهي تعادي كما يخيل لأحدنا بوطنية ما بعدها وطنية، تعادي عدوا لدودا يتربص بالبلد، وفي الحقيقة هي تدافع عن نفسها، أوفلنقل عن البلد الذي لا يرى فيه سوى مزرعة للطغمة الحاكمة…
إنّ السلطة الحاكمة كثيرا ما تتفاهم مع العدوالخارجي – ليبيا على سبيل المثال -لتتفرغ للعدو الداخلي دون أن تتساهل معه، إلا إذا استشعرت بقوته، وبأنه ليس بمقدورها الحكم والاستمرار على الطريقة السابقة، حينها تتنازل مرغمة، وهذا ما جرى في إسبانيا بعد موت فرانكو، حيث تفاهم الأفرقاء المتخاصمون، والتقوا عندما تنازلوا عن بعض مواقفهم، فخفض كل فريق من سقف مطاليه..
ما عاد بالإمكان إقناع الناس بأن المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والعوز المعيشي سببها العدو الخارجي وبالتالي تبرئة ذمة الأنظمة من أي خلل واعتلال واختناقات حياتية، بل أكثر من ذلك أحيانا يلمس المواطن من أن الاستعمار الخارجي أرحم من الاستعمار الداخلي، أو كما يقول بعضهم: حلت إمبريالية العقائد، وديكتاتوريات الأحزاب، ووحدانية القادة محل الإمبريالية الخارجية…
في سوريا قبل عقدين أوأكثر من السنين، شاعت مقولة أطلقها أحد فقهاء الماركسية في سوريا توصيفا للحالة السياسية فيها، مفادها: لولا السياسة الخارجية للنظام لوقفنا في المعارضة.. وكم ترنم بتردادها الرفاق كلّ الرفاق، ولوأن بعضهم انتقد هذه الترنيمة من منطلق فكري بحجة لا يمكن الفصل بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، لكن للحقيقة نقول أن هذا البعض المستنكف من الترنم بهذه المقولة، أوالمعترض عليها نظريا، ظل بسلوكه أمينا لهذه المقولة واقعيا، لأن هذا الموقف هو الذي أسبغ على قناعاتهم فكرة القبول بما هو قائم…
سبق للماركسيين الأوائل أن اعترضتهم ذات الفكرة، أي الفصل في السياسة بين الداخل والخارج، وقد عدها لينين فكرة خاطئة بالأساس وضارة في قوله :(ليس من فكرة أبعد من الخطأ والضرر من فكرة فصل السياسة الخارجية عن السياسة الداخلية) وتنبه لينين إلى أن هذه المقولة السياسة مخادعة، بل أنها ارتقت إلى مستوى فن يلجأ إليه هؤلاء لمعارضة السياسة الخارجية بالسياسة الداخلية في كثير من القضايا والمسائل المثارة، يقول لينين أيضا: (إن خداع جماهير الشعب بشأن ” قضايا” السياسية الخارجية قد ارتفع إلى مستوى فن)..
وأخيرا إنّ من يعزف على إثارة هذه الفكرة، أي فصل الداخل عن الخارج، يكون منطلقه في الغالب إحدى حالتين يملي عليه بالتالي موقعه، ويتمثل بفريقين، فهو إما أن يكون من رجالات السلطة، عندها من مصلحته صرف الناس عن التفكير في الشؤون الداخلية، وإلهائهم أوإخافتهم بالعدو الخارجي، أي هنا لا تمكن مقايضة الوضع الخارجي بالوضع الداخلي، فالمهمة الوطنية تقتضي من الجميع، إغماض العين عن الصعوبات الداخلية، والتفرغ لمجابهة العدو الخارجي، أما الفريق الثاني، فهو فريق انتهازي إمّعة لا موقف له سوى ممالأة السلطة، أغروه ببعض الفتات، يترنح شمالا ويمينا على قياس ميلان السلطة، ويصح فيه قول الشاعر:
صَعْدة ٌنابتةٌ في حائرٍ أينما الريحُ تُمِلْها تمل
فهويرى كما ترى السلطة، أي التركيز على العدو الخارجي، وابتلاع ارتكابات السلطة وانتهاكاتها حتى لوغصت بالمرارة الحلوق…!