جان كورد
قال عبد الباري عطوان، الصحافي الفلسطيني الشهير بمواقفه المتطرفة في الإعلام، منذ أيامٍ قلائل، بصدد طرح الروس مشروعاً جديداً لسوريا على المعارضة السورية: “يعيد الروس، بطرحهم مسودة دستور جديدة لسورية، تجربة بول بريمر الحاكم العسكري الأمريكي للعراق، التي بذرت بذور الطائفية في البلد، وقسمته الى أقاليم، في إطار صيغة الفيدرالية، واسست لحكم ذاتي كردي بصلاحيات رئاسية توفر كل أسس ركائز “الاستقلال” والانفصال لاحقا.” ويطالب هذا الصحافي بتعديل المشروع الذي من شأنه “نسف عروبة سوريا وإثارة الفتنة الطائفية!” كما حدث في العراق!!!
بالتأكيد بعض القراء لا يأخذون أقوال هذا الصحافي الذي هو فلسطيني وليس سوري مأخذ الجد، إذ لا أحد له الحق في قبول مقترح دستور سوري أو رفضه سوى السوريين، ومن القراء من يتذكر جيداً أن السيد عطوان كان ولربما لا يزال يصف الملياردير الإرهابي الذي قتلته الإدارة الأمريكية في الباكستان، أسامة بن لادن، ب”الشيخ”، ومعلوم أن ذلك الشيخ كان يرفض كل الدساتيرالديموقراطية وغير الديموقراطية، والتابع يكون على مذهب شيخه كما هي العادة، ثم إن السيد عطوان ظل وفياً ولربما لا يزال لمدمر العراق وقاتل شعبه (في أقل تقدير قتل في العراق منذ اغتصاب البعث للسلطة بحدود ال800.000 إنسان)، من المدنيين والجنود الذين هم أيضاً أبناء مدنيين. ونظام الأسد كاد يقتل أكثر مما قتلهم صدام حسين، الذي يعتبر في نظر السيد عطوان وأمثاله أعظم قائدٍ عربي، رغم الحروب العديد التي فشل في إحراز أي نصرٍ فيها. و كان الدستور لكلا الطاغيتين “حبراً على ورق”.
وكل من يقرأ تصريح السيد عطوان أعلاه، يجده واضعاً اللوم على الأمريكان في العراق والروس في سوريا، وفي هذا إجحاف ظاهر.
ففي العراق لم يجلب دستور بريمر”الطائفية” إلى العراق، وإنما هي معشعشة فيه منذ أن خان أهل العراق ابن عم الرسول الأكرم (ص) وابن ابن عمه الحسين (رض)، وتأججت في العراق طائفية ممقوتة منذ أن استولى آية الله الخميني على دفة الثورة الشعبية في إيران، وأعلن هو وأتباعه بأنه يجب تصدير “الثورة الإسلامية المظفرة” إلى العالم الإسلامي بأسره والكفاح تحت شعار (مه رد به ر آمريكا) حتى القضاء على كل أعداء البيت العلوي في الدنيا والتمهيد لظهور الإمام المهدي المنتظر. أفلا يتذكر السيد عطوان مآسي العراقيين الشيعة والكورد في ظل صدام حسين أم أنه يغمض عينيه عن تلك الجرائم ضد الإنسانية؟ ومن الذي أسس للفتنة القومية والطائفية بين المكونات العراقية، يول بريمر أم عملاء الخميني، ومن أشدهم طائفية نوري الهالكي أم يول بريمر؟ وهل كان العراق طائفياً مقسماً حتى نخاع العظام أم أن كل الطوائف كانت تعيش في بحبوحة العيش المشترك في ظل “حارس البوابة الشرقية!”، فلو كان الشعب العراقي متضامناً ومؤيداً لصدام حسين وغير منشق على نفسه طائفياً، لتمكن من القتال ضد بريمر وآبائه تحت أمرة “المجاهد الأكبر!”، ولما احتاج القائد العام لقوات البوابة الشرقية إلى الاختفاء في جحر ضب أو ثعلب. أفلم يكن إعدام صدام حسين بسبب حملاته الطائفية على قرى ومزارع الشيعة العراقيين؟
يزعم السيد عبد الباري بأن وضع الدستور من قبل يول بريمر، المندوب السامي الأمريكي في العراق بعد سقوط نظام التكارتة والبعثيين، قد أسس للحكم الذاتي للكورد، وهذا تجاهل لتاريخ العراق الحديث، فالذي وقّع على وثيقة “اتفاقية الحكم الذاتي لكوردستان العراق” في آذار عام 1970 م كان صاحبك يا سيد عطوان: صدام حسين، وحينما رفض الكورد الاستمرار معه لعدم تقيده بالقانون، رمى صاحبك البعثي الاتفاقية جانباً وأعلنها “حرب الأنفال” على الشعب الكوردي، وفاجعة مدينة حلبجة التي ضربت بالسلاح الكيميائي في عام 1988 ، حيث راح فيها ضحية القصف أكثر من 5000 في يومٍ واحد، مع تعاقب آثار جسدية ونفسية لعقودٍ من الزمن. فلماذا اتهام يول بريمر بجريمة “الحكم الذاتي” للكورد وقد ارتكبها نظام أبي الجحور صدام حسين المقبور؟
لماذا يتهم هذا الصحافي بأن يول بريمر قد بذر بذور الطائفية في العراق ونسف عروبتها؟ والعراق لم يكن عربياً إلا تحت ظلال السيوف البعثية، في حين أن اسمه وتكوينه الحضاري تعددي، أثنياً ودينياً، منذ فجر التاريخ وإلى اليوم، ولم يكتب أحد اسم العراق (الجمهورية العربية العراقية)، كما فعل البعثيون في سوريا، حيث غيروا اسمها التاريخي العريق (سوريانا، سوريا) ومن ثم (الدولة السورية) و(الجمهورية السورية) إلى (الجمهورية العربية السورية) وسوريا إلى (سورية) بهدف التعريب لا أكثر، فأحدثوا فيها التناحر والبغضاء بين المكونات العريقة، لأن البعثيين مؤمنون بسياسة (فرق تسد).
السيد عطوان يحذر من الفيدرالية والحكم الذاتي للشعب الكوردي، وهو فلسطيني من المتحمسين لتأسيس دولة مستقلة فلسطينية تضم الضفة الغربية وقطاع غزة المتباعدين عن بعضهما أكثر مما تتباعد منطقة كوباني الكوردية عن منطقة كورداغ في شمال سوريا، ولو أجرينا إحصاءً تقريبياً لوجدنا أن عدد السكان الكورد رغم كل محاولات التعريب يفوق عدد سكان الدولة الفلسطينية التي يريدها السيد عطوان، فهل الدولة المستقلة الفلسطينية لا تثير المشاكل ولا تنسف يهودية الدولة الإسرائيلية، في حين أن “الحكم الذاتي” أو “النظام الفيدرالية” ينسف العروبة والوحدة الوطنية ويثير الطائفية في سوريا، والطائفية هي السبب الأكبر لدخول سوريا بأسرها في هذا النفق المظلم حتى الآن.
هذا الإعلام الفلسطيني الغيور على عروبة سوريا والعراق كما يظهر نفسه، لا يدع مناسبةً إلا ويقحم فيها الكورد، الذين لم يكن أحدهم سبباً في إجبار الروس على صياغة هذا المشروع، فالروس يعلمون جيداً عن التركيبة السكانية في سوريا، ولا يعقل أن يصيغوا مشروع دستورٍ لا يتلاءم مع هذه التركيبة السكانية، ولذا من الأولى والأجدر بهذا الصحافي اللامع أن يقرأ مختلف المشاريع للدستور السوري بإمعان، ومنها المشروع الكوردي أيضاً، ثم ينقل ملخصها بأسلوبه الصحافي الشيق إلى الرأي العام ليبدي الناس من مختلف الأمصار والأقطار رأيهم فيه، وأن يفسح المجال للسوريين ليبدوا هم قبل الكل رأيهم النهائي فيما يجب أن تصبح عليها بلادهم، أي أن يقرروا هم قرارهم قبل الصحافيين، مهما كانت تدفق عنفوانهم القومي عظيماً، لا أن يطالب صحافي غير سوري بشطب هذه المادة وتلك وكأنه خبير قانوني بالشؤون السورية، أو حافظ أسدٍ جديد على رؤوس السوريين بمختلف مكوناتهم القومية والدينية، الذين يكافحون من أجل الأمن والاستقلال والسيادة الوطنية على أرض وطنهم، مثلما يكافح سواهم في هذا العالم.
ثم إن “الاستقلال” الكوردي حق مثبت في شرائع العالم المتحضر، مثلما هو الاتحاد الاختياري حق، والفيدرالية في شتى أنحاء العالم أسلوب للحكم اللامركزي السياسي مأخوذ به في العديد من بلدان العالم الديموقراطي وغير الديموقراطي، والعراقيون يعملون في ظل دستور فيدرالي الآن ويقسمون على الوفاء له لدى انتخابهم نواباً للشعب، فلماذا لا يستطيع السيد عطوان فبول هذه الحقيقة؟ أهو مريض نفسياً أم متخلف عن العصر أم أنه عروبي عنصري من طينة ميشيل عفلق ومحمد طلب هلال والركة البعثية الفاشلة في العالم العربي، فليكن صريحاً في إعلانه الحرب السياسية على الكورد، حتى يأخذ الكورد منه موقفاً يليق بكفاحهم العادل ضد الإرهاب الفكري والحشد العنصري.
وإن مهمة الصحافي هي نقل الحقيقة وليس التلاعب بها كما يشتهي!
01 شباط، 2017