قال الجنرال شارل ديغول يوماً: إذا أردت أن أعرف ماذا يجري في الشرق الأوسط، وضعت أذني على صدر سورية، ففيها شعب حي).
بل أن الحكام الذين توالوا على السلطة بانقلابات عسكرية وخاصة ما جرى منها باسم حزب البعث قد ارتكبوا أولى أخطائهم القاتلة حينما التفوا على جزء كبير من مباديء هذا الحزب نفسه، وخاصة في مرحلة الستينيات تحديداً.
لكن لم يلبث أن بدأت التضحية بهذين الشعارين على مذابح شهوة الحكام، وتم إفراغه من مضمونه ومحتواه تماماً، بل تحول في حراكه وكاريزماته الحزبية إلى حالة من الشوفينية وإلى التسطيح المفاهيمي على الصعيد القومي، وبدا كحزب لايجد سوى نفسه في الساحة السياسية العربية ولايطيق أن يرى إلى جانبه المكون الآخر المختلف، وحتى إن وجد مكونات وتنظيمات أخرى فيجب أن يقودها الحزب في جبهة وطنية تقدمية.
ومن هنا نرى أن قادة الحزب قد ارتكبوا في مسيرتهم السياسية أخطاء قاتلة باعتمادهم القبضة الحديدية في حكم الشعب معتمدين على العناصر الرئيسية الىتية:
1 – شبكة عنكبوتية أمنية متغولة تتحكم في مفاصل الدولة وفي أدق خصوصيات الشعب السوري وتدخل حتى في تطلعاته وثقافته وحتى ما يتمناه ويحلم به.
كما جرى التركيز على السياسة الخارجية وإهمال السياسة الداخلية بشكل مريع، بحيث انقلبت معها المقولة العلمية القائلة أن السياسة الخارجية هو إنعكاس للسياسة الداخلية، لتصبح معها السياسة الداخلية انعكاساً للسياسة الخارجية وكان هذا مرضاً سياسياً خطيراً.
2 – حزب البعث الذي بدأ يتدخل في كل مفاصل الدولة والمجتمع، لكنه – كما قلنا – قد أفرغ من محتواه شعاراتياً لأنه لم يواكب شعاره في الوحدة والحرية والإشتراكية، فلم تتحد سورية مع أي دولة عربية وبدلاً منها تم ترسيخ أركان الدولة القطرية، ولم يتسن معها منح الحرية للشعب، بل كان هناك القمع والمعتقلات والسجون والتهم الجاهزة لتبرير الإعتقالات ومحو الآخر المختلف وهذا يناقض مبدأه في الرسالة الإنسانية الخالدة، وعلى صعيد الإشتراكية لم يتم سوى تم توزيع بعض الأراضي للمنتفعين ولكن بشكل غير منصف وعادل.
وهكذا ومع هذه القيود والتصرفات تحول المواطن غير البعثي إلى مواطن من الدرجة الثانية والأكراد منهم إلى مرتبة أدنى من تلك الدرجة بكثير، كما أن من لم يكن بعثياً فسيأتي دوره في المؤخرة في التوظيف والإستخدام.
رغم ما نعلمه هو أن حزب البعث يقر صراحة بحق الشعوب في الحرية وتقرير مصيرها.
3 – الإحتماء بمقولة الممانعة ومعاداة الصهيونية، وترسيخ ما هو مكرس وقار وهامشي والمسكوت عنه سياسياً واجتماعياً، وقد اعتبرت السلطة أن هذا كاف لتحصينه ضد أي تململ داخلي من أية جهة كانت.
3– تهميش دور الشعب وعدم إتاحة الفرصة له لإدارة نفسه بنفسه بشكل يوافق القوانين الموضوعية ، فحتى المؤسسات الموجودة على الساحة السياسية، كمجلس الشعب والإدارات المحلية بقيت في حدودها الشكلية والصورية دون أن ترقى إلى ممارسة وظيفتها المنوطة بها ولو دون الحد الأدنى المطلوب منها.
4 – دستور نافذ رغم وجود بعض المواد الجيدة والبنود العصرية فيه، ولكنها بقيت في الكثير منها بنوداً للعرض فقط.
5 – تشكيل منظمات مرادفة للحزب ومساندة للحكم، كمنظمة الشبيبة، والطلائع، وإتحاد الطلبة، والسيطرة على أركان ومؤسسات المجتمع المدني كالأحزاب، والنقابات المهنية والجمعيات الخيرية…الخ.
ونظراً لهذه الممارسات والقراءات الخاطئة لسيماءات الحالة السياسية السورية، ولتأخر تنفيذ الوعود الرئاسية في الشفافية والإصلاح، وعدم الإستفادة من مجريات الحالة الجماهيرية التونسية والمصرية، والإنزلاق نحو الشمولية والإنقطاع بين الحاكم والمحكوم، وسيطرة فئة قليلة على مقدرات البلاد، وانتشار الرشوة والفساد والإفساد كما يقول تيزيني، كل هذا وغيرها أدى إلى نوع من عدم الثقة بين الحكومة والشعب الذي بدأ ينفجر في مظاهرات عارمة تنادي بالحرية والتخلص من حالة التقوقع التي مورست عليه طوال عقود من السنيين، كانت الحكومات والأنظمة خلالها تعيش في ابراجها العاجية وفي غفلة عن أوضاع الشعب وأحواله.
ولكن الخطأ الأكبر الذي ارتكبته الأنظمة السورية مؤخراً هو القسوة الزائدة عن الحد في التعامل مع المظاهرات السلمية، وبالإسلوب القمعي والرد العنيف وإسقاط ضحايا بشكل غير مبرر، وذلك أملاً من الجهات المعنية أو الأمنية في حسم الأمور بسرعة لمنع استفحال الموقف، ولكن مثل هذه الأمور قد تعطي نتائج عكسية تماماً، وكان على الجهات الأمنية أن تتعامل مع المظاهرات السلمية بإسلوب أكثر عقلانية وعدم الإنجرار إلى التصادم مع الجماهير، وكان عليها أن تدرك أنه كلما سفكت الدماء ازداد الشعب إصراراً على التضحية والتحدي وعدم نسيان دماء من قتلوا.
واليوم نقولها وباختصار، أنه ورغم المآسي والاحداث المؤسفة والأجواء الحزينة والدماء الزكية التي أريقت على ثرى الوطن السوري الجريح، في سبيل مطالب مشروعة بشهادة أركان الحكومة والنظام نفسه، لا زال هناك عشرة بالمئة فقط من فسحة أمل، يجب استغلالها لحل مشكلة الحريات العامة والتقوقع الحزبي والسياسي الذي فرضته الأنظمة السورية المتعاقبة وفقدانها القدرة على السير حثيثاً نحو الإصلاح والتغيير، أي يجب تدارك الأمر قبل فوات الأوان واليوم قبل غد لمنع الإنزلاق نحو مرحلة قد لايتمناه أحد من السوريين أبداً، وحيث لم يبق أمام الحكومة غير مسارين للحل لا ثالث لهما، الأول الإعتماد على القمع والحسم الأمني كما يجري الآن وهذا طريق خاطيء وخطير وقد لا يتمناه أحد أويرضاه.
والطريق أو المسار الآخر هو تشكيل لجان تحقيق خاصة حول التجاوزات والإنتهاكات التي جرت بحق المتظاهرين سلمياً مؤخراً، وذلك لتحديد المسؤولين عن سفك الدماء وإطلاق الرصاص الحي من أية جهة كانت وتقديمهم بشكل سريع وعاجل إلى المحاكم المختصة لينالوا جزاءهم العادل ولمنع تكرار ما حدث، والأمر الأكثر أهمية هو دعوة رئيس الجمهورية بشكل عاجل وسريع لجهات الحراك الوطني جميعها لجلسة الحوار والصراحة والمكاشفة وهذه الجهات في رأينا تتمثل في الآتي: مختلف أطياف المعارضة السورية وممثلوا إعلان دمشق بما فيهم ممثلوا التنظيمات الكردية والمسيحية أوالأثورية، ووفد يمثل الشباب المتظاهرين، ثم أهالي الضحايا الذين سقطوا برصاص الأمن واعتبارهم شهداء الحرية والوطن.
وما نراه هو أن حوار الرئيس أي رئيس مع مواطنيه ليس عيباً ولا ضعفاً، بل العكس هو الحكمة والعقلانية والمنطق السديد، حتى يصار إلى تدارك الأمور، ومنع إراقة دماء جديدة، والبحث عما فيه خير سورية وشعبها، نابذين في الوقت نفسه العنف والحلول الأمنية والقتل البعيد عن الأخلاق السورية.
وبدون هذا الحل الحواري الأمثل قد تتحول سورية نحو الحل الأول الأمني، وهو أمر لايحمد عقباه وحينها ستحدث – لاسمح الله – مآسي مروعة لا يريد أحد أن يراها أو يسمع بها.