متدينون نحن، غصباً عنا

إبراهيم محمود
 
في الصيغة الشعاراتية المركَّبة: الله- سوريا- بشار وبس، أو: الله- سوريا- حرية وبس، يبقى الحامل الإلهي، وبطابعه الإسلامي هو الموجّه للشعار المرفوع في الشارع السوري كثيراً منذ 15مارس2011، إذ إن” الله” إحالة إلى الإسلام حصراً، والأمر الثاني هو أنه يُظهِر هذا النهر البشري السوري الهادر هنا وهناك..

لكن ثمة ما يرجعنا إلى الغيبي ويشدنا إلى طبعته التليدة في ماض غابر ومذهبي، إلى أن منقذاً: مخلّصاً سماوياً يمثّل العلامة الفارقة لتاريخ طويل، بقدر ما يحدّد الكامن والمحرّك الفاعل في الأحداث، أي الاستهلال الضروري بما يُخفى معرفة على أي منا، تكون مسبحة الشيخ في الواجهة وليس معداد المعلم وسبُّورته..
لنعترف صراحة إذاً، بأن هذا الحامل الديني بمكمّله ضمناً (الله أكبر)، وقد تابعنا مسيرته الصوتية في تونس ومصر، والحال لما يزل قائماً في ليبيا وسوريا وغيرهما، حامل يخفي خللاً ليس علينا إلا أن نعترف به، إسلاميين كنا أم علمانيين أم ما بينهما، إنها صيغة لم تركَّب وتطرَح إلا لتكون أشبه بنفير كوني، يعلَم بإيذان حدوثه من الأعلى تأكيداً منطقياً غير مفكَّر فيه على أن الأرض تدور حول الشمس، رغم أنه في تركيبته وتهجئته وترداده محصّل واقع أرضي بامتياز، وهو يختزل تنوع مذاهبه وقواه سياسياً.
إن تركيز أسماعنا على هدير أصوات المحتجين، لا يجوز أن يغيّب أنظارنا عما يغذّيها دينياً ودلالة الشحنة..
يمكن ملاحظة التغيير في الحالتين.

في الحالة الأولى، عندما يكون”ذو الجلالة” في البداية، ومن ثم تأتي الجغرافيا وفق تصور تاريخي معين، واسم علم شخصي: حاكمي، زعاماتي، يقابل ذا الجلالة، بقدر ما يكون الوحيد الأوحد مقابله في تمثيل المكان، حيث يتم اختزال مريع للعدد السكاني كافة، وإحالة الجميع إلى أكباش فداء، كما هو الجاري في الشارع السوري، من عنف لجعل جغرافيا كاملة رهينة شخص واحد مرئي لكنه نظير قداسة إلهية.
في الحالة الثانية، ثمة إحلال قيمة أخلاقية” حرية” وبإطلاق محل اسم العلم المتنفذ: الحاكم، ليتشكل مفهوم آخر: لله، دون أن يعزلنا هذا التحول عما هو واحد” الله”، الاسم الذي جرى استخدامه منفعياً أو شعبوياً إسلامياً وعربياً لتحويل الشعب جملة وتفصيلاً إلى رعية، بعلامة فارقة” عصا الراعي”، حيث علينا أن نتذكر بداية ذلك النشيد الذي صاغ كلماته الشاعر عبدالله شمس الدين في مصر، ومطلعه:
الله أكبر فوق كيد المعتدي       والله للمظلوم خير مؤيّد
إن التكبير يحيل إلى القادر على كل شيء هنا، في مواجهة المستعمر، ولنجد لاحقاً استثماره داخلياً في عبارته الأولى (الله أكبر)، إنما وقد تغيَّر اتجاهه، عندما صار الاسم علامة فارقة للعلم العراقي بإيعاز صدامي، ليغيب الحاكم وتبقى العبارة، ويُستأنف العمل بها في أكثر من جهة، ثم لنجد (كما هو السيناريو)، كيف أن التعبئة الدينية شعبوياً، أحالت مئات الملايين إلى رعايا مجيَّرة دينياً، في أنشطة وتفعيلات سياسية وإعلامية وأمنية، ولينقلب السحر على  الساحر! إذ من ذات العبارة كان التحويل، وقد وجَّهت الرعية أصواتها الصاخبة باتجاه مهندسي النفوس المروضة بالإيمان، إنما دون أن ننسى أن المزوّد الفعلي لكل ذلك بدأ من الأرض وتراءى أرضياً، وإن كان التحدي الأكبر كامناً في كيفية التعبير عن التحولات الكبرى بمؤثرات شعبية وتاريخية وليس بتعليمات ما ورائية.

إنه تحدي المثقف والسياسي الآن ممن يفكران في التمهيد لعقد اجتماعي مغاير تماماً لما كان، وما يكونه مفهوم المواطنة في مجتمع مدني مجيَّش إيمانياً.
في قلب المفارقة يمكن تبين الحضور الإلهي واختلافه في كل حالة، والذين يسوسون الرعية، أو يخططون لأكثر الطرق عنفاً ومحاولة ضبط للشارع المنفجر، أي كيفية تطويق إرادات الثائرين، وتلجيم النفوس باعتبار القائم هو النسخة الأصلية في الشأن الإلهي، ولكن الجاري والمتعاظم يري أكثر من نسخة، كما لو أن الصراع على أشده جار على قدم وساق بين أكثر من اسم علم سماوي” الله” والانقسام المريع في المفهوم الواحد.
إنه للافت جداً هذا الإصرار على التقابل الموجَّه بين صاحب ” ملكوت السموات والأرض”، والمعرَّف به سيد البلاد والعباد، وما يمكن متابعته إزاء جموع الضحايا ممن يتوزعون في أمصار وجهات شتى، في سوريا، والطريقة الرهيبة التي يجري فيها تقديم الضحايا في غفلة منهم أو عبر مواقع متحركة، حيث ممثلو السلطة وهم في قمعهم الشعبي وترويعهم الشعبي، لا يسمُّون من قبل المعنيين بالبلاد، كما لو أنهم حقاً يشكلون العناصر الأكثر ترهيباً للناس وتمثيلاً بهم( رموز العنف وسواهم)، ليحمَّل الضحية عبءَ الخلل، ونفقاته ورعب النتيجة دائماً.
وبالمقابل يبرز أكثر المثقفين تميزاً لما هو علماني، ومن أجل هدف مرجو: التغيير للنظام، كما في حال تيزيني أو غليون، وميشيل كيلو، مسيّرين في الرواق الديني: الغيبي، حيث يكون الاعتراف الضمني بالتخلي عما كان يطرَح مدنياً، وما يترتب عليه قيمياً، كرمى المتغيَّر، وصرف النظر عن تاريخ من المقاومة البحثية والفكرية لهم ولغيرهم، دون أي شعور بالمفارقة، كما لو أننا نشهد إخفاقاً لكل ما طرِح باسمهما، أو تنازلاً عما تم تناوله في سياق مجتمع مدني، والاندفاع في جانب لم يُشر إليه، ونبأ هزيمة المثقف المدني كما كان يسوَّق له حتى ” البارحة”، وما في ذلك من دخول في المغامرة الدينية المحددة بمصدرها ولعبة ركوب الأمواج الخطرة فيها.
تلك لعبة إعلامية، بين أجهزة تركّب صورها ومشاهدها في ظل الشعار الأول، والذين يظهرون في أقنية أخرى ويسمون قتلتهم بالصوت والصورة معاً، لتكون صرخة (الله أكبر) نفيراً قياماتياً على ذوي الشعار ذاك، من قبل الذين يحتمون بالله وما يترتب على علاقة كهذه: الحرية، وهي لعبة قوة لا دخل لله فعلياً بها في الواقع، ولكن لا يمكن الإغفال عما هو متوقع أو منشود فيها، في مسيرة العبارة التي جاءت تعبيراً عن شعب مستعمر ومنكوب بقوى أجنبية، وتحويراً للهدف، ليكون رمزاً قومياً مشبعاً بالديني، وقد ألحق شعب كامل بزعيمه عراقياً سابقاً، ليستعاد في سياق مغاير هنا: سورياً، عندما يردد ويجري انقسام في محتواه، وفي “ذي الجلالة” بالذات، وهو تعريب مستجد يلبي تطلعات من ينسون أنهم ليسوا وحدهم في الساحة بوازع قومجي جلي السمات.
إنما الشيء الذي يمكن التشديد عليه مجدداً هو أننا متدينون برغبة منا أو بدون رغبة، ولو بتفاوت، متدينون غصباً عنا، إن تابعنا حشود الهاتفين بما هو سماوي، ومن يتحرك في ركابهم وحتى مؤتمرياً، والمستقبل الذي يتشكل في ضوء هذا التفعيل الديني الشعبوي المؤسلم، والأدوار المرتقبة للسياسي والمثقف اللذين يهيئان نفسيهما لعهد جديد، حتى إن لم يسفر مخاض التحولات القاعية عما هو مأمول.

إننا إزاء ثقب من نوع أوزوني، سمه” ثقباً أسود”، لا يمكن التنكر لثقله النوعي والمتعلق بنسبة أسهم السماء والأرض والثقافة المستولدة  في الحالتين…

========

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد حسو إن مسيرة الشعب الكوردي هي مسيرة نضال طويلة ومستمرة، لم تتوقف يومًا رغم الظروف الصعبة والتحديات المتراكمة، لأنها تنبع من إرادة راسخة ووعي عميق بحقوق مشروعة طال السعي إليها. ولا يمكن لهذه المسيرة أن تبلغ غايتها إلا بتحقيق الحرية الكاملة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التمييز القومي أو الديني…

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…