كيف يكتشف الكردي ذاتَه الحقيقية؟ ليكن القول في الحال:عندما تسمّيه الأشياء في وسطه بأسماء كردية، شأنه في ذلك شأن غيره من المحظوظين بلغات لا ينحيّها التاريخ السلطوي جانباً أو يجعلها في عِداد: ممنوع التفكير فيه.
ثمة شيئان يميزان الكردي، كغيره من البشر: ما يصله بالأرض، وهو محاصَر سلطوياً بأسماء وهيئات تقزّم فيه كيانه البشري المعتبَر، وما يصله بالسماء جهةَ العقيدة، وهذه ذات صلة وطيدة بما هو أرضي، حيث إن معبود العابد الأوحد يُسمَّى بقدر ما يُتوسَّل إليه، كما يؤمَّل منه بلغة لا تخفي ضراوتها في تجريده من إنسانيته الخاصة!
أن يسمي الكردي ” الله” من باب القسم، أو في جانب حياتي ومعرفي..الخ، فإن في ذلك إخراجاً لذات الكردي، من حالة السوية الطبيعية والبيئية والاجتماعية أو الفطرية عموماً، وهي المرتبطة بأبويه حصراً، كما هي أي ذات أخرى لها لغة مغايرة للعربية، حتى إن برز اتقان الكردي لها إلى درجة تجاوزه للعربي عينه تكلماً، ولكن ذلك لا يعني استواءه النفسي، لأن ثمة إرجاعاً لذاته الأولى إلى الوراء ودخولاً قسرياً في معاناة وحده من يعلم بها.
حتى حلف الكردي الآخر، محيلاً الحرف الثالث في كلمة ( قرآن)، أي” الألف” إلى” عين” يغدو محاولة ما منه إلى نوع من تخفيف الضغط على نفسه، وكأني به يؤمّم الاسم لصالحه بتهجئته تلك” bi Qurana Xweda”، يغدو الكتاب الديني( قُرعان)، رغم أنه يَسمع يومياً، مراراً وتكراراً الاسم الصحيح( قرآن).
اسألوا الكردي المواجه لخالقه وهو يعيش الدين الذي يشغله، تجدوا الكردي الكردي، وقد مارس الحد الأقصى من التقنين في المفردات التي تصله بالعربية( ما يخص صلاة المسلم)، وإن كان يظهِر كرديته أو لا عربيته إزاء ألفاظ تتطلب تشديداً ( الطاء- الضاد)، والحرف الثاني بجلاء هنا( السّرات المستقيم- غير المغدوب- ولا الدالين..) وما في التهجئة من تغيير كلي في الدلالة والمعنى، وكأني به في قرارة نفسه، يحاور لغة لها تاريخ قاهر فيه حتى اللحظة، ليكون وضوءه ووقوفه على سجادة الصلاة مرفقين بسلسلة من الدعوات والتوسلات بالكردية، أو بلهجة ذات المنطقة التي ينتمي إليها، لا علاقة لها البتة بلسان الضاد” الذي لا يجمعنا هنا” كما هو تاريخه المديد.
عبرالجامع يحصل نوع من التخريج النفسي والثقافي للكردي في الغالب، حيث لسان الخطبة وما يتردد في الجامع بصوت عال، يكون بالعربية الفصحى، وهي ذات دلالة أخرى على علاقة خاصة بمكانة العربية كسلطة.
وربما من هذا الموقع، كان سعي بعض الفقهاء إلى ترجمة العربية، حتى بدءاً من القرآن مروراً بالفاتحة، وانتهاء بالخطبة الجمعوية وسواها إلى لغات أخرى، وصراع هؤلاء مع المتشددين في إبقاء كل شيء بالعربية( لنتذكر هنا حداثة أبي حنيفة وتشدد الشافعي)، وثمة انشقاق حدث في هذا الخط الصراطي، في اللغات التي ارتبطت بسلطة لها دولتها ومؤسساتها (الفارسية- التركية، مثلاً)، بينما بقي الكردي رحالة آلام بين التعرض لضغوط هذه اللغات في الخطبة وخارج الجامع ما استطاعت إليه يد السلطة الضاربة سبيلاً، ومحاولة التحرر قدر المستطاع من وطأة اللغات هذه، شعوراً منه بتمايزه الخفي أو الجهري ومنطلقاً من المعنى الموحد في الدين ومصحفه.
هنا، أشير إلى محاولة الكرد الذين خرجوا على سلطة الجامع وطغيان لغته الواحدة أو المركَّبة، إلى الفضاء الواسع، كما جرى في مشهد لافت في مدينة” آمد: دياربكر” يوم الجمعة في(2 أيلول /2011)، إذ مارسوا طقسهم الديني الكردي في ساحة آمدية، وتحت أعين البوليس التركي، وقد فرشوا الساحة بما ينبغي، وكان هناك منصة للإمام بالمعني بالخطبة ، وبشكل غير مسبوق بكردية تسمّي الكردي وتاريخ وجوده وحقيقة هذا الوجود، كأني بهذا الخطيب العتيد، أراد إيصال صوت ملايين الكرد في تركيا، وحتى ملايين الكرد المؤلفة الآخرين في دول الجوار، إلى أنه من العبث التحايل على الجغرافيا باسم تاريخ غاشم، خلاف المكرَّر في المعلَن عنه هنا وهناك إسلامياً، وهي الرسالة التي لم تستغرق إلا زمناً محدوداً، ولكنه الزمن الانفجاري أو الديناميتي الذي ينذر محتكري اللغات والأمم الملعوب بمصائرها، والكرد في الصدارة، بضرورة العودة إلى حكمة الجغرافيا.
ولعل الذي أثبته هنا هو الذي أعني به المتحكمين بمصائر الكرد حتى الآن، وضمناً: النظام السوري، ليس على صعيد السلطة القائمة ومن يمثلها رئاسياً وما دونه حصراً أو وحدها، وإنما انطلاقاً من ثقافة تزييف التاريخ القائم منذ مئات السنين، وهو إلى جانب ذلك يمثّل أحد التحديات الكبرى لكل نظام ينادي بالمساواة أو الديمقراطية.
في الوضع الراهن: هل لدى السلطة القائمة، أو النظام القائم: تصور من هذا النوع؟ أيْ ضرورة تأميم الدين من سيطرة اللغة الواحدة وصورة العبادة الواحدة، وتقاليد الثقافة الواحدة؟
هل ثمة قدرة لدى أولي الأمر، إن أرادوا التأكيد على أنهم ليسوا عتاة الأمس وجناة اليوم، أن يشعروا بوجود الكردي شريكاً للعربي في صناعة تاريخ لا يعنيه وحده ثقافياً، كما هي شراكة الكردي للتركي أو الفارسي كممثل نظام أو سلطة عنصرية بكل معنى الكلمة؟ هل من مسعى للخروج ولو قليلاً من عنق الزجاجة التاريخي راهناً، لجعل الجامع ناطقاً بلغات عدة، حتى بالنسبة لموقع القرآن، إن أريد لهذا الدين أن يكون أكثر حداثةَ تاريخ؟
إنه التحدي الموجه إلى الذين يفكرون في وعد قائم، لمن يخططون لنظام آخر، وما إذا كان لديهم مثل هذا السيناريو الجامع أي المحقق لذات الكردي في لغته وثقافته وتقريره لمصيره كمن يعيش معه جغرافيا؟
لا مفر من مواجهة التحدي القائم، وهو الدرس الأكثر بلاغة لتاريخ متعدد القوى، وليس من قبيل ” إحسان بمعروف” أو” منَّة” أو” حسنة” أو هو الحق الذي تتعدد صوره ولغاته وأقوامه، وتغتني به الحياة في النهاية، حيث يتم وضع الدين في نطاق الأسباب التي أوجدته في الحياة وليس بالمعنى الذي يجعله خادم السلطان فقط، فلا يعود السلطان ممثل الله على الأرض وشعبه رعاياه: قطيعه، وأئمته رعيانَه المستأجرين والمعلَنين من جهته!
الكردي خارج الجامع في صلاته، فيما يشعِره كانتماء وكهوية! وهذا يستوجب من الأئمة الكرد تمثيل الفعليّ في الدين ليكون اسم الله أكثر تداولاً وبلغات أخرى، إذا كان هؤلاء على بينة من أن أعظم الجهاد عند الله كلمة حق في وجه سلطان جائر.
يتحقق ذلك أكثر في ” بيت الله” وبين” يديه”، وهي الترجمة الفعالة لكل قائم وناشد للأبدية خارج محمَّية اللغة الواحدة.
الكُرَة في مرمى النظام، أي نظام، وفي مرمى أئمة الدين، ومن يصرّف الدين حياتياً!