فتركيا تبنت العديد من المشاريع الشرق أوسطية في إطار التحالف الغربي ، إنضمت مبكرا إلى حلف الناتو ومن ثم حلف بغداد (السنتو لاحقا) ، وأخذت بمشروع مارشال – مشروع الحزام الشمالي ، لتطويق الدولة السوفياتية وسحق حركات التحرر في المنطقة وبخاصة الكردية والفلسطينية ، وتحجيم قدرات الدول العربية ، وكانت تركيا أول دولة في العالم الإسلامي تعترف بإسرائيل في عام 1949.
ولعل الملف الكردي يحتل الصدارة بين مجموع الملفات التي تخص البلدين وأعقدها ، الذي تحول إلى أكثر الملفات الساخنة في العلاقات الدولية في الشرقين الأوسط والأدنى بتاتا في تسعينات القرن الماضي ، بعد أن إتهمت تركيا الحكومة السورية بإيواء أعضاء حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبدالله أوجلان وإستخدامها “الورقة الكردية ” لزعزعة أمن وإستقرار تركيا .
وقد لجات تركيا إلى إتخاذ سلسلة من الضغوطات ضد سوريا ، مثل قيام حكومتها بمنع تدفق نصيب سوريا من مياه الفرات وحجز مياه نهر الخابور بأكملها لدرجة توقف جريانه كليا في الأراضي السورية ،مما ألحق ضررا كبيرا بالأراضي الزراعية على ضفافي النهرين ، إضافة إلى ذلك قيام الجيش التركي بأعمال إستفزازية على الحدود مع سوريا التي تخللتها إنتقال عناصر من الجيش التركي إلى الطرف السوري أمام مرأى ومسمع الجهات السورية التي إلتزمت الصمت وراء جدران مخافر الشرطة والمراكز الأمنية ، خوفا من تفاقم الأزمة .
ولم تخلو علاقات الدولتين من الحرب الإعلامية والنفسية والتهديدات المباشرة والمبطنة ، وبلغت الحرب الباردة ذروتها بين الجانبين ببروز أزمة 1998، وتلويح قادة أنقرة بعملية عسكرية لإجتياح سوريا لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني .
تزامنت تهديدات جنرالات أنقرة مع إشتداد الأزمة السورية داخليا بسبب أوضاعها الإقتصادية الصعبة ، وخارجيا بسبب تعرضها لعزلة إقليمية وضغوطات أمريكية وأوربية جراء الأزمة اللبنانية والموقف من حل مشكلة الشرق الأوسط .
نجحت تركيا في إرضاخ سورية بفرض شروطها على حكومة دمشق، فقامت حكومتها في خريف عام 1998 بالتوقيع على إتفاقية أمنية مع حكومة أنقرة تضمن ” ملحق سري بتنازل سوريا عن الأسكندرونة مدينة زكي الأرسوزي ((أحد أعمدة الفكر العروبي)) ، إذ أكد الجانب السوري فيه (في الملحق) بعدم وجود مشاكل حدودية مع الجانب التركي ” ، إضافة إلى إلتزامها بالتعاون أمنيا مع االإستخبارات التركية في مكافحة الإرهاب (والمقصود هنا مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين كانوا يحاربون تركيا من اجل الحرية والمعارضين السوريين المتواجدين على الأراضي التركية).
لابل أن إتفاقية أضنة أعطت الحق للجيش التركي بالتوغل حتى عمق 15 كم داخل الأراضي السورية لتعقب الإرهابيين حسب قولهم .
وصرح آنذاك السفير السوري في أنقرة نضال قبلان في مقابلة مع صحيفة ” حرييت – ديلي نيوز ” التركية عن أن بلاده أعدت ملفا متكاملا يتعلق بأعمال الإرهاب والتخريب التي شهدتها سوريا ، مؤكدا في الوقت ذاته أن بلاده سلمت تركيا أعضاء من حزب العمال الكردستاني للجهة التركية ، وكما تضمن الملف أسماء لاجئين سوريين ، تطالب الحكومة السورية تركيا بتسليمهم .
ثم جاءت إتفاقية أضنة 1999 التي بموجبها طردت دمشق زعيم PKK عبدالله أوجلان من سوريا الذي أعتقل على أثره في نيروبي بكينيا على يد عناصر من الميت بدعم الإنتروبول .
ضحت دمشق “بالورقة الكردية ” وبلواء الإسكندرونة مقابل تخفيف تركيا لضغوتاتها على سوريا ، وبالفعل قرر مجلس الأمن القومي التركي إخراج سوريا من قائمة الدول المعادية والقيام بالتطبيع العسكري والأمني معها .
وإثر طرد زعيم الحزب ومطاردة بقية أعضائه ، تعززت العلاقات بين دمشق وأنقرة ، لاسيما بعد زيارة الرئيس التركي آنذاك أحمد نجدت سيزر في حزيران 2000 إلى دمشق ومن ثم زيارة بشار الأسد إلى تركيا 2004 .
أعقب ذلك قيام رئيس الأركان السوري حسن توركماني في بدائية عام 2005 بزيارة أنقرة ، وكانت من نتائج هذه الزيارات التوقيع على 11 إتفاقية ومذكرة تعاون شملت مجالات التعاون الإقتصادي والأمني كإتفاقية التجارة الحرة ومكافحة الإرهاب والتعاون العسكري في مجالات التدريب وتبادل الخبرات والمعلومات ورفع مستوى التبادل التجاري إلى 5 مليارات دولار وإزدياد الإستثمارات التركية في سوريا فبلغت مايقارب 700 مليون دولار لأكثر من 139 شركة تركية وبلغ حجم التبادل التجاري في عام 2010 حوالي 2.5 مليار دولار.
ومن جانب آخر فكت تركيا الحصار المائي عن سوريا فرفعت كمية تدفق مياه نهر الفرات لتصل إلى 575 مترا مكعبا في الثانية والموافقة على مرور الغاز الأذري من ماوراء القوقاس إلى سوريا ، ووقوف تركيا إلى جانب دمشق ومساندة حكومتها في أزماتها الإقليمية والدولية مقابل تنازل سوريا عن الأسكندرونة والتعاون الإستخباراتي والأمني مع الميت والجيش التركيين لقمع حركة التحرر الكردية.
تركيا دولة تبحث عن نفسها على خارطة العالم ، تتواجد داخل القيادة التركية عدة إتجاهات ، إتجاه يميل نحو إنشاء حلف من المجموعات العرقية التركية في آسيا، وإتجاه يدفع بعجلة البلاد نحو أوروبا ، والأخير يعمل للعودة بتركيا إلى عالمها الإسلامي حالما بالعودة إلى أيام الإمبراطورية.في الوقت الذي يشهد البلاد من الداخل ضعضعة ومشاكل كثيرة متشابكة، فهناك صراع حاد بين الجيش الذي يتمسك بمبادئ مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك وبين المدنيين ، وصراع بين العلمانيين والإسلاميين .
وتفاقم الوضع المالي بسبب الحرب المستمرة على الشعب الكردي ومسألة حقوق الإنسان والديمقراطية.
وبإستلام حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا ، شهدت العلاقات التركية – السورية تطورا نوعيا على جميع الصعد بما فيها العلاقات الشخصية.
وضعت الثورة السورية التي إنطلقت في 15 آذار 2011 ضد نظام البعث المستبد ، حكومة رجب طيب أردوغان أمام المحك ، فكان عليها كدولة جارة لسورية تربطها معها مجموعة مصالح إقتصادية وأمنية إتخاذ القرار .
فبادرت على الفور إلى تسلم زمام الأمور ، متبنية عقد مجموعة مؤتمرات للمعارضة السورية بقيادة جماعات الإخوان المسلمين ، فتفاءل الثوار رافعين إلى جانب العلم السوري أيضا العلم التركي .
ولكن سرعان ماخيب أردوغان الآمال ، وهو يلعب كما يقول المثل الشعبي على الحبلين ، فمن جهة يعطي تصريحات نارية لصالح الثورة ، ومن جهة ثانية يعطى فرص وراء فرص لنظام بشار الأسد ، وبمختصر الكلام يتناور ، ليرى إلى أين تسير الأوضاع ولصالح من ؟ معطيا الفرصة بهذا الشكل للنظام السوري تصفية الثورة .
لم يحكم سوريا بعد الإستقلال نظام يخدم تركيا كالنظام الحالي إقتصاديا وعسكريا وإستخباراتيا ، وبالتالي من مصلحة تركيا بقاء هذا النظام .
ولكن بالمقابل يعتبر حزب العدالة والتنمية نفسه حامل لواء “الحرية” والدفاع عن حقوق الشعوب الإسلامية ، ويظهر نفسه بمظهر المدافع الأمين جاعلا من أردوغان بطلا إسلاميا ، كل ذلك للعودة بتركيا إلى العالم العربي والإقليمي ، بعد أن فقدت نفوذها في المنطقة وتعرضها لعزلة دولية ، بسبب علاقاتها السيئة مع اليونان وقبرص وأرمينيا وبلغاريا وسوريا وليبيا …إلخ.
وفي الختام تخضع الموقف التركي لعدة إعتبارات دولية وإقليمية ، فعلى تركيا الأخذ بعين الإعتبار الموقف الأمريكي والأوروبي كعضوة في حلف الناتو ، وعليها النظر إلى إيران كقوة إقليمية في عملية التوازن وكشريكة في الملف الكردي المتأزم والمعقد والذي يشكل عاملا مشتركا بين جميع الدول المقسمة لكردستان .
ومن المثير للدهشة أن أردوغان يذرف الدموع على حقوق الشعب الفلسطيني ويهضم في الوقت ذاته حقوق الشعب الكردي ، يتحدى أردوغان إسرائيل – الإبنة المدللة للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وتركيا عضوة في الناتو – وحليف الغرب بإمتياز، ويتعاظف أردوغان مع أطفال الصومال الجياع ، في الوقت الذي أهدى الموت لأطفال كردستان العراق في أول يوم عيد الفطر جراء قصف طيرانه القرى والقصبات الكردية الآمنة ، إن أردوغان يكيل بمكيالين .
تهدف الإستراتيجية التركية من وراء هذه الخطوات إلى إعادة الإعتبار لتركيا والنظرإليها كقوة في المنطقة .
عموما تركيا تعمل وفق مصالحها القومية العليا في إطار الخطوط المتاحة والمرسومة لها من حلفائها في الناتو.
وإن أكثر مايخيفها من الملف السوري المسألة الكردية التي يمكن أن تتحول إلى كيان شبه مستقل ، ليشكل مع إقليم كردستان العراق هلالا يحيط بتركيا .
كما أن سوريا من جانبها تحاول العودة “إلى الورقة الكردية ” ، وإستخدامها كعامل ضغط على الموقف التركي ، تجاه الأحداث في سورية.
على قيادات الحركة الكردية عدم الإنجرار إلى مخططات الحكومات المقسمة لكردستان ، لأن ذلك لن يخدم المصالح العليا للشعب الكردي بل بالعكس يشكل تهديدا لأمنه ومستقبله .