آثار الاستعمار وسبل إزالتها

 الدكتور عبد الحكيم بشار

من الحقائق الموضوعية غير القابلة للنقاش أو التأويل أن الخارطة السياسية الموجودة حاليا في المنطقة قد أعد لها في الدوائر الاستعمارية من وراء البحار,وتمت صياغتها وترسيمها بما يوافق مصالحها دون إرادة شعوب المنطقة أو حتى استشارتها , وإنما جاءت فرضا عليها من القوى الاستعمارية بغض النظر عن توافق هذه الحدود مع مصالح شعوب المنطقة أو تعارضها معها , وقد خلفت هذه الحدود المرسومة استعماريا المزيد من المشاكل في المنطقة اتسم البحث عن الحلول لها في معظم الأحيان بالعنف سواء كانت تلك المشاكل المتعلقة بالخلافات الحدودية بين الكيانات السياسية القائمة بموجب اتفاقيات استعمارية أو خلافات أثنية وثقافية ضمن الدولة الواحدة بسبب الجمع القسري بين المكونات المختلفة.
وانطلاقا من هذه الحقيقة التاريخية السياسية فإن معظم الأحزاب العربية الوطنية – إن لم نقل جميعها – خاصة تلك التي لم تصل إلى الحكم , وكذلك الغالبية العظمى من النخب السياسية الثقافية العربية كانت ولاتزال تدعو بشكل أو آخر إلى إزالة الحدود المصطنعة من أجل إقامة دولة عربية موحدة (أي توحيد الوطن العربي) والذي يكاد يكون عملا استراتيجيا ومركزيا لدى معظم القوى الوطنية العربية, إلا أن الحكومات في معظم الدول العربية والتي جاءت إما بإرادة الاستعمارية , أو على الأقل برضى عنها, وان كانت تطرح بين الحين والأخر شعار الوحدة , إلا أن ذلك الشعار كان يتعارض مع مصالحها السلطوية , لذلك لم يكن هناك سعي حقيقي أو جاد من قبل الحكومات العربية المختلفة إلى إزالة الحدود المصطنعة , وفي هذا السياق خاصة فيما يتعلق بمواقف النخب السياسية الثقافية العربية من الحدود المصطنعة , ثمة سؤال كبير يطرح نفسه:
هل إن تلك النخب هي مؤمنة فعلا بأن هذه الحدود  المصطنعة يجب إزالتها وإعادة النظر فيها, وإعادة صياغتها ورسمها بما يتوافق مع مصالح شعوب المنطقة قاطبة وانطلاقا من مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها سواء من حيث رغبتها في العيش داخل كيان مستقل , أو الاتحاد الطوعي مع مكون آخر , إنه سؤال يجب الإجابة عليه بوضوح وصراحة , والإقرار بأن ما تم رسمه فعلا لم يراع فيه الواقع القومي والثقافي وإنما لاعتبارات أخرى خاضعة لمصالح تلك الدول , وتقسيم مناطق النفوذ , إذاً هل ان إزالة آثار الاستعمار تتوقف على إزالة الحواجز السياسية بين الدول العربية, أم تستوجب صياغة جديدة للحدود السياسية للكيانات القائمة؟
أعتقد أن الطرح القائم على السعي إلى إزالة  الحواجز بين الدول العربية هو طرح مشروع بكل المقاييس, ولكن إذا كان هذا الطرح مقرونا بالإقرار للشعوب المتعايشة في كيانات سياسية مع الشعوب العربية في حقها بتقرير مصيرها بنفسها فإن هذا الطرح والموقف يأخذ أبعادا سياسية وديموقراطية وإنسانية وأخلاقية  تنسجم مع الحقائق الموجودة على الأرض ويمنح أصحابها صفة القوى الديمقراطية الحقيقية إلا إذا كان هذا الطرح الفكري يرفض فكرة إن للشعوب المتعايشة مع الشعوب العربية حقها في تقرير مصيرها بنفسها فنحن هنا أمام حالات عدة :
1- أمام فكرعروبي شوفيني تجاوزه الزمن بكل معطياته
2- الدعوة إلى  إزالة آثار الاستعمار يجب أن تكون شاملة
3- اقتصار الدعوة إلى إزالة آثار الاستعمار فيما يتعلق بالشعوب العربية وإهمال حق الشعوب الأخرى فيعني استمرار آثار الاستعمار بكل تركاته وتداعياته , وهذا يتناقض مع الدعوة إلى انتهاء آثار الاستعمار، لذلك إما القبول بكل آثار الاستعمار وتداعياتها ونتائجها أو محاربة كل آثار الاستعمار ونتائجها فيما يخص الحدود السياسية
أعتقد جازما أن التطورات العالمية والإقليمية وتفتح الوعي لدى الجيل الشاب ولدى شعوب المنطقة يتيح إمكانية فتح حوار جدي وهادئ وجريء حول مختلف القضايا التي تهم شعوب المنطقة , ومن بينها قضايا التعايش الاختياري والاتحاد الطوعي , أو حق تقرير مصير للشعوب مع الاحتفاظ بأفضل العلاقات , وهذا ما ينسجم مع المفاهيم الدولية والإقليمية وروح الربيع العربي .
فالشباب في المنطقة عموما والعرب خصوصا الذين نجحوا في تحقيق انجازات ضخمة ونوعية وتحولات جذرية في بلدانهم لابد أن يتجاوزوا القوى السياسية الكلاسيكية التي فشلت في تحقيق ابسط التحولات ليست في أوطانها بل حتى في فكرها وتنظيمها وأدائها , فإن هؤلاء الشباب لابد أن ينجحوا في تحقيق تحولات نوعية في الفكر العربي وإكسابه بعداً ديمقراطيا وإنسانيا قويا لأنها جاءت على النقيض من الفكر الشمولي الاستبدادي الشوفيني.
إنها بداية عهد جديد دشنه شباب العرب , عهد يتسم بالتخلص من الشعارات البراقة والالتفات إلى الواقع والتعامل معه بكل موضوعية وجرأة , واقع يعبر عن نفسه بالتعددية في الكثير من المناطق , تلك التعددية التي لابد من البحث عن حلول ديمقراطية لها بعيداً عن الإكراه والقسر , حلول تعتمد الحوار أساسا , وحق تقرير المصير منطلقا سياسيا , وإزالة آثار الاستعمار , ورؤية استراتيجية قوامها إما التعايش الحر والاتحاد الاختياري وحق تقرير المصير ، وهذا ما تسعى إليه معظم الشعوب المضطهدة ، وإما بقاء الصراعات التي عمل الاستعمار لفترة طويلة على استمراريتها بغية التدخل من خلالها حينما يشاء ، يعني استمرار التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري ، واستمرار للمشكلات التي تعرقل الأمن والاستقرار في المنطقة وتهدر الجهود والمال في غير محله ، وتعرقل الأمن والاستقرار وتكبح التأسيس لتحولات ديمقراطية حقيقية مقرونة ببناء مجتمع مدني متطور يحقق للإنسان هويته الثقافية وخصوصيته القومية وإنسانيته في أقصى مداها.

 

10/9/2011

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…