إنها الثورة أيها الدكتاتور..

حسين جلبي

هل أتاك نبأ الثورة السورية أيها الدكتاتور؟ أعتقد جازماً نعم، و إلا ما كان مصيرك اليوم أشبهَ بريشةٍ وسط ريح.

أعلم علم اليقين أن ثورة الحرية قد قضَّت مضجعك، قرأت ذلك في تفاصيل خوفك و أنت تحاول جهدك تصنع التجاهل و الشجاعة و اللامبالاة، و لكن عبثاً، فقد كشفت بجهودك تلك جهلك و لا شجاعتك و لا مبالاتك بدماء السوريين، و بمصيرك.
أنت قلقٌ أيها الدكتاتور، فيروس القلق نخر في طُمأنينتك، لقد تمكن منك حتى تلبسك، فأصبحت القلق نفسه في رداء دكتاتور، نعم سيادة الرئيس المناضل قلق! دحرجة الرؤوس حطمت خطوط الممانعة لديك، فرئيس نصف مشوي، و آخرُ نصف ميت على سريرٍ متنقل يبحث عن قبرٍ أو زنزانة، و آخر نصف مجنون هائمٌ على وجهه في الصحارى باحثاً عن جُحرٍ يأويه، و آخرُ نصفُ هاربٍ يبحث عن موته، كانوا معاً في سباقٍ محمومٍ لتحطيم أرقام البقاء، و كنت معهم على ذات المضمار يجمعك و إياهم (وحدة المسار و المصير)، فجأة إختفوا جميعاً و بقيت وحدك، تلهث في صراعٍ ضد الزمن الذي لا يرحم العليل.

  
تمكن القلق من الإلتفاف على الخطوط الدفاعية التي بناها لك من سبقك، تمكن من خداع كل أفرع و أذرع المخابرات و من النفاذ من بينها، تمكن من هزيمة (حماة) و ذكرياتها و من الوصول إليك في عقرِ مجدك، فإتخذك رهينة أبدية، لا مقابل لفك أسرها إلا بأخذك.
أصبحت لا ترى سوى الفراغ، أصبحت مسكوناً به، أو أصبح مسكوناً بك، نعم سيادة الدكتاتور فراغ! كل الوجوه التي تقابلها هي كوجهك، لا تحمل من الملامح سوى الفراغ، و كل القلاع التي تتحصن بها بنيت جدرانها من الفراغ.

ما بالها الوجوه المحيطة بك لا تحمل من ملامح الفراغ سوى الموت، و ما بالها قلاعك تستطيع العيون أن تنفذ منها لترى خوفك، ما بالك أصبحت مخلوقاً نصفه من خوفٍ و نصفه الآخر من قلق يطير في مهب الفراغ، بعد أن كانت بذتك تجمع في داخلها كل الألقاب الأولى في البلاد.
أنت تعيش في دوامة، تحاول عبثاً تجنيب رأسك مصير رأس من سبقك، حتى قدميك لم تعودا تلامسان الأرض، نسمة صغيرة فقط من نسائم الحرية كفيلة بقلبك رأساً على عقب، حينها فقط سيصطدم رأسك بالأرض، و ستصحو مما أنت فيه.
أنت لا تحصي حتماً أعداد الذين تقتلهم، لا تدقق في أسماءهم و لا في وجوههم، أنت محق فالأرقام كبيرة تفوق مقدرتك، و لكن رغم ذلك فأرواحهم تخيم على حياتك، تزورك عندما يخيم الليل في مخدعك، و ترافقك أينما كنت، ليس من الصعب قراءة ذلك في تفاصيل وجهك، وجهك الذي فقد ملامح الوجوه و لم يعد يشبهها، يمكن رؤية ذلك رغم المساحيق التي طليته بها، هل لاحظت كذلك بأنك لم تعد حتى قادراً على الجلوس بهدوء دون أن تتقلقل في مقعدك.
لم تعد المسألة ربيع دمشق لوحدها لتتمكن من سحق أزاهيره مرة أخرى بحذائك، إنها ربيع سوريا كلها: من القامشلي لحوران، بل ربيع الشرق كله الذي أصبح العالم كله يستنشق أريجه.
لم تعد التعويذة تنفع، لم يعد ينفعك الوقوف أمام مرآتك كل صباحٍ، و قبل كل مواجهة و أنت تكرر مئات المرات: لستُ خائفاً، لستُ قلقاً، أنها ليست ثورة، إنهم مجرد عصابات مسلحة.
حتى الرحيل الحُر لم يعد ممكناً، يصبح شيئاً فشيئاً صعباً و مكبلاً بإثقالٍ تزداد فيزداد التحرر منها صعوبةً، فكل يومٍ يمر، لا بل مع كل ساعة إضافية يزداد الثمن الذي ينبغي دفعه، إنها تجعل رسوم الرحيل أصعب من ذي قبل، إذ تضيق الطرق لا بل تنعدم معها الآفاق.
إنها الثورة التي لا ينفع معها مدافع العالم كله، لا طائراته و لا دباباته و لا بوارجه.
إنها الثورة التي لا ينفع معها شبيحة العالم كله و لا بلطجيته و لا مرتزقته و لا مخابراته و لا جيوشه.
و الأهم من ذلك إنها الثورة التي لا يفيدك معها إنكارك.
شئ محير أليس كذلك؟ تنكرها و لكنها موجودة، تُغمض عينيك و لكنها لا تغيب، تصب عليها جام نيرانك و لكنها لا تحترق، تقطع عنها الماء و الهواء فتجف (لتملأ الوادي سنابل).
إنها ثورة سوريا، قف أيها الدكتاتور بإستعدادٍ في حضرتها، ثم لملم نفسك و إرحل.

أحكمت إغلاق الأبواب عليها و نسيت النوافذ، لقد فُتحت على مصراعيها، تتدفق منها الآن نسائم الحرية.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

في الثامن من كانون الأول/ديسمبر، نحتفل مع الشعب السوري بمختلف أطيافه بالذكرى الأولى لتحرير سوريا من نير الاستبداد والديكتاتورية، وانعتاقها من قبضة نظام البعث الأسدي الذي شكّل لعقود طويلة نموذجاً غير مسبوق في القمع والفساد والمحسوبية، وحوّل البلاد إلى مزرعة عائلية، ومقبرة جماعية، وسجن مفتوح، وأخرجها من سياقها التاريخي والجغرافي والسياسي، لتغدو دولة منبوذة إقليمياً ودولياً، وراعية للإرهاب. وبعد مرور…

إبراهيم اليوسف ها هي سنة كاملة قد مرّت، على سقوط نظام البعث والأسد. تماماً، منذ تلك الليلة التي انفجر فيها الفرح السوري دفعة واحدة، الفرح الذي بدا كأنه خرج من قاع صدور أُنهكت حتى آخر شهقة ونبضة، إذ انفتحت الشوارع والبيوت والوجوه على إحساس واحد، إحساس أن لحظة القهر الداخلي الذي دام دهوراً قد تهاوت، وأن جسداً هزيلاً اسمه الاستبداد…

صلاح عمر في الرابع من كانون الأول 2025، لم يكن ما جرى تحت قبّة البرلمان التركي مجرّد جلسة عادية، ولا عرضًا سياسيًا بروتوكوليًا عابرًا. كان يومًا ثقيلاً في الذاكرة الكردية، يومًا قدّمت فيه وثيقة سياسية باردة في ظاهرها، ملتهبة في جوهرها، تُمهّد – بلا مواربة – لمرحلة جديدة عنوانها: تصفية القضية الكردية باسم “السلام”. التقرير الرسمي الذي قدّمه رئيس البرلمان…

م. أحمد زيبار تبدو القضية الكردية في تركيا اليوم كأنها تقف على حافة زمن جديد، لكنها تحمل على كتفيها ثقل قرن كامل من الإقصاء وتكرار الأخطاء ذاتها. بالنسبة للكرد، ليست العلاقة مع الدولة علاقة عابرة بين شعب وحكومة، بل علاقة مع مشروع دولة تأسست من دونهم، وغالباً ضدّهم، فكانت الهوة منذ البداية أعمق من أن تُردم بخطابات أو وعود ظرفية….