عمر كوجري
الموت هو أن تكون في كامل ورودك وأزاهيرك، وبغتة يمتقع وجه السماء، وتتحول الغيوم البيضاء الناعسة كندف القطن إلى غيوم كالحة متجهمة غضباء، وبدلاً من رذاذ المطر قد يأتيك البَرَد الضخم القاسي الذي يدمي القلوب، ويدمع العيون.
الموت هو أن تكون في كامل ورودك وأزاهيرك، وبغتة يمتقع وجه السماء، وتتحول الغيوم البيضاء الناعسة كندف القطن إلى غيوم كالحة متجهمة غضباء، وبدلاً من رذاذ المطر قد يأتيك البَرَد الضخم القاسي الذي يدمي القلوب، ويدمع العيون.
الموت هو أن تكون الشجرة مرتدية أبهى ثيابها، ويتعطر النهر بأجمل طيبه ليغمز للعشاق، ويدعوهم للتنزه في مائه، وفجأة تهرب أوراق الشجر من الشجر، ويخاف ماء النهر من النهر، فتتحول الشجرة العمراء اليانعة إلى خشب يصلح أن يكون حطباً لكانون الزمهرير، ويصبح قلب النهر قاعاً صفصفاً معصوفاً مجروداً من كل ماء.
نعم، إنه الموت الذي لا يملك غير كأس مترعة بزعاف السم، وإن شئنا أم أبينا علينا تجرعه دفعة واحدة أو على مراحل.
ولأن الموت لا يعرف كبيراً أو صغيراً ، ولا أميراً ولا فقيراً، فقد قرر أن يبكر في زيارته المشؤومة صديقنا وحبيبنا، وقبلهما جاراً في جغرافيا المكان والزمان والألم صلاح رشيد.
كان على الموت أن يغيّر وجهته، أن يفترس، ويتلذذ بلفظ الروح عن جسد شخص ملَّ هذه الحياة، لكنه لم يفعل!! دق باب قلب صلاح، قلبه الحزين لم يكن مهيأً لهذا ” العرس”، وقد نازع طيلة أيام عصيبة لنا نحن رفاقه وأصدقاؤه ومحبوه، وعائلته الكريمة وأولاده الستة، لكنه رفع أخيراً راية الاستسلام، وخرًّ أمام جبروت الموت.
يا إلهي، هل سأظل أصرخ كلما أرثي صديقاً أو حبيباً أن الموت..
الدنيء لا يختار إلا صفوة أحبابنا، يبطش بالورود الحالمة في غفلة منا دون أن يمنحنا فرصة حتى ارتداء ما تبقى لنا من أرواح، لا يمهل الأعزة الرائعين، لم يمهل ولو للحظة، ليعيش صلاح بيننا وقتاً آخر أطول، ويرى زنابقه الست: ميداس، سيروان، مهيار، مايا، ميانا، خجي، وفوقهم أمهم العزيزة شهناز.، ليراهم وقد أصبحت هذه الزنابق حدائق وساحات خضراء.
لقد اندغم صلاح في حب زوجته، وذابت هي في تلافيف روحه حتى كنا نقول: صلاحي شهنازي، واشتهر بهذا الاسم بين محبيه وأصدقائه، ولم يتأفف يوماً حينما كنا نناديه ” بصلاحي شهنازي، بل كان يبتسم، ويتطلع إلى أيام أجمل يرغب بقضائها معنا ومع عائلته، لكنه رحل..
رحل بعيداً إلى ذلك العالم السرمدي.
رغم ظروف صلاح القاهرة، لم يبدِ غيظاً ولا مقتاً من هذي الحياة يوماً، فقد عاش فقيراً معدماً في القرية، ومارس أقسى الأعمال، وحين قرر ترك مرابع طفولته وصباه مثلنا جميعاً لم يبصر اللقمة إلا بين أنياب الذئاب.
نحن الذين ضاقت دنيا بلدنا في عيوننا، ولم تعد القرية أو حتى المدينة الكبيرة هناك تتكرم علينا، وأبت أن تطعمنا كفاف يومنا، فقررنا التوجه نحو العاصمة علّنا نحيا بكرامة لم نلقها بعد.
عانى هنا في العاصمة كثيراً، واختار له بسطة ليبيع ما خف من أغراض في سوق ” الثورة” وقد زرته هناك مرات كثيرة لأبتاع منه بنطالاً أو قميصاً بسعر زهيد.
كنت أبدي له تعجبي من تحمُّله لأصوات وزعيق الباعة والبشر، والموسيقا الصاخبة التي كانت تنبعث من أربعة جنبات السوق، وكان يقول: أبا لافا، وهل رأيت مهنة أخرى أفضل من هذه، ورفضت.
عاش الفقيد صلاح في ظروف غاية في العسر، فقد ظلَّ لسنوات طوال يسكن هو وأولاده جميعاً في غرفة واحدة ووحيدة في أحد الأحياء العشوائية مثلنا في دمشق” المزة 86 ” ويستقبل الضيوف من هنا، ومن قريته ” سي كرا” وأصدقاءه بقلب أبيض وعيون ضاحكة، وكثيراً ما كنت أنقل صبرَه وصبرَ عائلته العظيم على ضنك العيش لزوجتي عندما تتأفف من وضعنا المادي المتردي، ومن بيتنا الذي كان غاية في الصغر لكنه كان أوسع من منزله قليلاً.
كنا نتعجب: كيف يسكنون معاً، وأحياناً كثيرة مع الضيوف في غرفة واحدة؟؟!!
حاول الأخ صلاح كثيراً أن يحسّن من وضعه، فوسّع أخيراً غرفة لمنزله بعد طول جهاد وتعب وملء فم أحد الجيران نقوداً ليغض الطرف عن بنائه غرفة إضافية، لكنه ويا للأسف لم يهنأ.
في مرضه زرناه مرات عديدة، وكان دائماً يقول: الله تعالى نظر إلى أولادي وزوجتي المسكينة، فقرر ألا يأخذ روحي، وإلا فالجلطة التي أصابت قلبي لا يتحمّلُها أي قلب، قلبي متين يا أصدقائي، لا تخافوا علي.
لكن، صلاح هذه المرة أخلف وعده، ولم يزد قلوبنا إلا ألماً، وفجع أرواحنا برحيله المبكر الفجائعي، وترك الغصة في عيون أولاده الستة وزوجته شهناز، وأمه التي غمَّ على قلبها، ورفضت أن تركب الحافلة التي فيها جسد ابنها مسجى، حتى كذبنا عليها، وقلنا: إن رفات صلاح موجود في الحافلة التي أقلت أهله وأصدقاءه، فجرجرنا رجليها جرجرة ،وحملناها حملاً لترضى الصعود إلى الباص.
كان الله في عونهم وعوننا جميعاً، هل ننشد مع شيخ المرثيين ابن الرومي:
ألا قاتَل اللَّهُ المنايا ورَمْيَــــــها من القَوْمِ حَبَّات القُلوب على عَمْــــــــــــدِ
لقد أنْجَزَتْ فيه المنايا وعيدَها وأخْلَفَتِ الآمالُ ما كان من وعْـــــــــــــــــــــدِ
عجبتُ لقلبي كيف لم ينفَطِرْ لهُ ولوْ أنَّهُ أقْسى من الحجر الصَّلـــــــــــــــــــــد
عليك سلامُ الله مني تحيـــــــةً ومنْ كلِّ غيْثٍ صادِقِ البرْقِ والرَّعْــــــــــــــدِ
فسلام لك وعليك يا أخ صلاح، وأنت في رقادك الأخير، سنفتقدك كثيراً
سنفتقد ضحكاتك المجلجلة، وخفة روحك، وبياض قلبك، ونكاتك الجميلة، وابتساماتك الوضاءة..
الرحمة عليك، ومثواك جنان الله الواسعة.
ولأن الموت لا يعرف كبيراً أو صغيراً ، ولا أميراً ولا فقيراً، فقد قرر أن يبكر في زيارته المشؤومة صديقنا وحبيبنا، وقبلهما جاراً في جغرافيا المكان والزمان والألم صلاح رشيد.
كان على الموت أن يغيّر وجهته، أن يفترس، ويتلذذ بلفظ الروح عن جسد شخص ملَّ هذه الحياة، لكنه لم يفعل!! دق باب قلب صلاح، قلبه الحزين لم يكن مهيأً لهذا ” العرس”، وقد نازع طيلة أيام عصيبة لنا نحن رفاقه وأصدقاؤه ومحبوه، وعائلته الكريمة وأولاده الستة، لكنه رفع أخيراً راية الاستسلام، وخرًّ أمام جبروت الموت.
يا إلهي، هل سأظل أصرخ كلما أرثي صديقاً أو حبيباً أن الموت..
الدنيء لا يختار إلا صفوة أحبابنا، يبطش بالورود الحالمة في غفلة منا دون أن يمنحنا فرصة حتى ارتداء ما تبقى لنا من أرواح، لا يمهل الأعزة الرائعين، لم يمهل ولو للحظة، ليعيش صلاح بيننا وقتاً آخر أطول، ويرى زنابقه الست: ميداس، سيروان، مهيار، مايا، ميانا، خجي، وفوقهم أمهم العزيزة شهناز.، ليراهم وقد أصبحت هذه الزنابق حدائق وساحات خضراء.
لقد اندغم صلاح في حب زوجته، وذابت هي في تلافيف روحه حتى كنا نقول: صلاحي شهنازي، واشتهر بهذا الاسم بين محبيه وأصدقائه، ولم يتأفف يوماً حينما كنا نناديه ” بصلاحي شهنازي، بل كان يبتسم، ويتطلع إلى أيام أجمل يرغب بقضائها معنا ومع عائلته، لكنه رحل..
رحل بعيداً إلى ذلك العالم السرمدي.
رغم ظروف صلاح القاهرة، لم يبدِ غيظاً ولا مقتاً من هذي الحياة يوماً، فقد عاش فقيراً معدماً في القرية، ومارس أقسى الأعمال، وحين قرر ترك مرابع طفولته وصباه مثلنا جميعاً لم يبصر اللقمة إلا بين أنياب الذئاب.
نحن الذين ضاقت دنيا بلدنا في عيوننا، ولم تعد القرية أو حتى المدينة الكبيرة هناك تتكرم علينا، وأبت أن تطعمنا كفاف يومنا، فقررنا التوجه نحو العاصمة علّنا نحيا بكرامة لم نلقها بعد.
عانى هنا في العاصمة كثيراً، واختار له بسطة ليبيع ما خف من أغراض في سوق ” الثورة” وقد زرته هناك مرات كثيرة لأبتاع منه بنطالاً أو قميصاً بسعر زهيد.
كنت أبدي له تعجبي من تحمُّله لأصوات وزعيق الباعة والبشر، والموسيقا الصاخبة التي كانت تنبعث من أربعة جنبات السوق، وكان يقول: أبا لافا، وهل رأيت مهنة أخرى أفضل من هذه، ورفضت.
عاش الفقيد صلاح في ظروف غاية في العسر، فقد ظلَّ لسنوات طوال يسكن هو وأولاده جميعاً في غرفة واحدة ووحيدة في أحد الأحياء العشوائية مثلنا في دمشق” المزة 86 ” ويستقبل الضيوف من هنا، ومن قريته ” سي كرا” وأصدقاءه بقلب أبيض وعيون ضاحكة، وكثيراً ما كنت أنقل صبرَه وصبرَ عائلته العظيم على ضنك العيش لزوجتي عندما تتأفف من وضعنا المادي المتردي، ومن بيتنا الذي كان غاية في الصغر لكنه كان أوسع من منزله قليلاً.
كنا نتعجب: كيف يسكنون معاً، وأحياناً كثيرة مع الضيوف في غرفة واحدة؟؟!!
حاول الأخ صلاح كثيراً أن يحسّن من وضعه، فوسّع أخيراً غرفة لمنزله بعد طول جهاد وتعب وملء فم أحد الجيران نقوداً ليغض الطرف عن بنائه غرفة إضافية، لكنه ويا للأسف لم يهنأ.
في مرضه زرناه مرات عديدة، وكان دائماً يقول: الله تعالى نظر إلى أولادي وزوجتي المسكينة، فقرر ألا يأخذ روحي، وإلا فالجلطة التي أصابت قلبي لا يتحمّلُها أي قلب، قلبي متين يا أصدقائي، لا تخافوا علي.
لكن، صلاح هذه المرة أخلف وعده، ولم يزد قلوبنا إلا ألماً، وفجع أرواحنا برحيله المبكر الفجائعي، وترك الغصة في عيون أولاده الستة وزوجته شهناز، وأمه التي غمَّ على قلبها، ورفضت أن تركب الحافلة التي فيها جسد ابنها مسجى، حتى كذبنا عليها، وقلنا: إن رفات صلاح موجود في الحافلة التي أقلت أهله وأصدقاءه، فجرجرنا رجليها جرجرة ،وحملناها حملاً لترضى الصعود إلى الباص.
كان الله في عونهم وعوننا جميعاً، هل ننشد مع شيخ المرثيين ابن الرومي:
ألا قاتَل اللَّهُ المنايا ورَمْيَــــــها من القَوْمِ حَبَّات القُلوب على عَمْــــــــــــدِ
لقد أنْجَزَتْ فيه المنايا وعيدَها وأخْلَفَتِ الآمالُ ما كان من وعْـــــــــــــــــــــدِ
عجبتُ لقلبي كيف لم ينفَطِرْ لهُ ولوْ أنَّهُ أقْسى من الحجر الصَّلـــــــــــــــــــــد
عليك سلامُ الله مني تحيـــــــةً ومنْ كلِّ غيْثٍ صادِقِ البرْقِ والرَّعْــــــــــــــدِ
فسلام لك وعليك يا أخ صلاح، وأنت في رقادك الأخير، سنفتقدك كثيراً
سنفتقد ضحكاتك المجلجلة، وخفة روحك، وبياض قلبك، ونكاتك الجميلة، وابتساماتك الوضاءة..
الرحمة عليك، ومثواك جنان الله الواسعة.