حسين جلبي
و نحن إذ نعيش في غمرة هذا الصراع الدموي الغير متكافئ بين أعتى آلات القمع البشري و المادي التي تفتقت عنها العقول السادية الظلامية من جهة و بين شعبٍ أعزل إلا من قوة الحق من جهةٍ أخرى، فإن ثمة سؤالاً بديهياً لا ينبغي للمرء أن لا يغفل عنه للحظة واحدة ألا و هو: أيهما أقلُ كلفةٍ و أكثرُ جدوىً و أشدُ نفعاً و أسهل منالاً: المطالبة بالحقوق في ظل نظام دكتاتوري دموي يتكون من مجموعة من القتلة و اللصوص و الفاسدين و المرتشين و المنافقين، أم في ظل نظام ديمقراطي ينتمي إلى روح العصر، دعامته مؤسسات مدنية يديرها مجموعة من المثقفين الذين لا يؤمنون بالعنف وسيلةَ لفرض وجهة نظرهم و حل المشاكل التي تعاني منها الدولة التي يطمحون لبناءها؟
المسألة لا تحتاج بطبيعة الحال إلى تعمقٍ في التفكير أو العودة إلى أمهات الكتب و المراجع لمعرفة الإجابة، إذ أن تجربة ستة أشهر من العنف الدموي الماثلة للعيان و التي حولت سوريا إلى مسلخ بشري أبسط ما يحدث فيه ذبح الإنسان و تقطيعه و سلخ جلده و من ثم إطلاق الرصاص على بقاياه، ناهيك عن عقودٍ طويلة من حكم أسرة آل الأسد، كافية للإجابة على أصعب الأسئلة.
لكن هناك عدة طرق للتعاطي مع هذه البديهية، لعل أكثرها خطورةً، بعد الوقوف إلى جانب النظام، هي تلك التي تقوم على الإمساك بالعصا من المنتصف و التي لا تخدم في المحصلة سوى النظام القمعي ذاته، فقد هدف فائض العنف الذي مارسه النظام كما هو معروف إلى غرس الرعب في كل ركنٍ من سوريا، و قد ألغي نتيجة لذلك القانون ليحل بدلاً عنه العرف الذي يقوم على أن المطالبة بالحقوق جريمةً يعاقب عليها بأشد العقوبات الجسدية و النفسية التي نشهد بعض أشكالها اليوم، و تمت كذلك معاملة المواطن السوري بإعتباره مشروع إفساد و في أحسن الأحوال متسولاً و بالتالي طلباته تسولاً يمكن إهانته بسببها و الدوس على كرامته، و نتيجة لذلك إختار البعض لنفسه للحفاظ على نفسه و كرامته من جهة، و جرياً على العادة في عدم إغضاب النظام و إقلاق راحته و تشتيت جهوده في معركته ضد الشعب من جهة أخرى، إختار هؤلاء أسهل الأمور و أقلها كلفةً إلا و هي الإنتظار في كهوف الخوف حتى جلاء غبار المعركة و القيام في أثناء ذلك بإعداد ملفات ضخمة لتفاصيل حقوقهم لمرحلة ما بعد سقوطه دون أن يكون لهم أي دور في الإسقاط و ذلك بإعتبارهم شركاء في المغانم لا المغارم، لدرجة أن (المساهمة) الوحيدة للبعض في الثورة هي أنه عندما يستيقظ من نومه العميق ـ و كذلك قبل عودته للنوم ـ هي المسارعة إلى الإطلاع على الأخبار للأطمئنان على أن جذوة الثورة لا زالت مشتعلة دون مبالاة بالأرواح التي تزهق، أي أن هناك من لا زال يدفع فاتورة الحقوق التي يجري إعدادها على مهل.
المسألة لا تتعلق بأحقية المطالب من عدمها، بل هي في هذه الإنتهازية الفاضحة التي لا يحاول البعض بذل أي جهدٍ لإخفاء مظاهرها بل يجاهر بها عبر حراكٍ سلبي على هامش الثورة لا تفيدها في شئ و لا تضر النظام مقدار ذرة، الثورة تسير في طريقها و النظام يعترضها ليمنعها من بلوغ غاياتها، و البعض ليس له لا في العير و لا في النفير، يشتغل على ملف حقوقه بعيداً عن الضوضاء، مفضلاً تقديمه في مرحلة لاحقة، في الزمان و المكان المناسبين، عندما يسقط النظام حيث تصبح الدعوى مجانية لا تحتاج إلى رسوم.
إذاً رغم وضوح الصورة، لا زال البعض متردداً في الإلتحاق بالمستقبل من خلال إعطاء صوته للثورة، مستسهلاً الإنتظار على قارعة طريق الماضي ريثما يتعثر به أحدهم، متناسياً أن ذلك قد يدفعه إلى إدمان العيش على الهامش.
الرهان على خلود النظام السوري من خلال إعتباره نظاماً عابراً للأزمان، و ترتيب أمور الحياة على هذا الأساس بربط المصير معه و الإستكانة له، هو فضلاً عن كونه رهان غير عقلاني و خاسر، فأنه يشجع النظام ليس على الإستئساد في قمع الثورة، بل على نقل تجربته (الناجحة) مع هؤلاء إلى النطاق الدولي: وعود و رشى و إبتزاز و إرهاب.