ولدَ وعلى جبينه جذوة النّضال تتّقدُ, فأسموه (مشعل), نما وترعرعَ فلازمه ضياء الجذوة وشعاعها, فقلّدوه وسام (المناضل), ولمّا حاولوا إطفاء الضّياءِ وإخماد حرارة الجذوة استحقّ شرف الشّهادة فصار (الشّهيدَ الحيّ) وإن رحلَ بجسده الذي أبقى على الرّوحِ تشاركُ العالم فرحه وحزنه.
الهيئات العالميّة توزّع جوائزَ سلام وحريّة على رسل السّلام والمحبّة والحرّية في أرجاءِ المعمورة, ألا يستحقّ الشّعب الكرديّ برمّته وفي كلّ بقاع العالم جوائز سلام يوميّة؟ بل لماذا لا ينشؤون جائزة للشّعوب الأكثر اضطهاداَ في العالم, لينالها الكردُ؟ وجائزة للشّعوب الأكثر توقاً للتّآخي ونشرِ المحبّةِ, فتوهبَ للكردِ؟ وجائزة للشّعوب الأشدّ عشقاً للحياة وتشبّثاً بالوجودِ على الرّغم من الظّلم والاضطهادِ الذي يتعرّضون إليه منذ آلافِ السّنين, فتكون من نصيب الشّعبِ الكرديّ؟
مشعل تمّو يعرف الآن تمام المعرفة أنّ مشاعر الفرح لدى شعبه الكرديّ وشعبه السّوريّ في عمومِ الوطنِ تعانقُ مشاعر الحزن على رحيله.
فنحن فرحون لأنّ مشعل نفسه كان قد أنبأنا بقدوم هذا اليوم المشرّفِ عاجلاً كان أم آجلاً وهو الذي وهب كلّيته وماهيته لقضايا شعبه وأمّته والإنسانيّة, ولكنّ عباءة الحزن تلفنا لأنّنا لم نتوقّع أن يكون قدومَ هذا اليوم عاجلاً, ولكنّنا على ثقة أنّ جسدكَ الذي مضغَ تلك الرّصاصات الغادرة كانت توصي روحكَ في تلك الّلحظات ألا تأبه لما يحدث, بل تظلّ مرفرفة حرّة كما كانت, وأنّكَ كنتَ تضحكُ في سرّكَ وتقول:
أيّها الضّعفاء! ما هكذا يُجابَه البطل!
ما هكذا ينطقُ العاقل!
وما هكذا يتعانقُ البشر!
زاهدة رشكيلو, امرأة تعانقُ نسائم السّلام والحرّيةِ التي تهبّ على خصلاتِ أنوثتها, فتحوّلها إلى رياح عاصفةٍ حينما يحاولون تلويثَ صفاءِ النّسائم, فتنقضّ عليهم, وتريهم أنّ القوّة لم تُخلق لجنسٍ دون آخر, تثبت لهم أنّها قويّة حين يتعلّقُ الأمرُ بالرّهان على مسألةِ البقاءِ أو عدم البقاء, ولتؤكّدَ باليقين القاطع أنّ الرّوحَ لن تستسلمَ للغادرين بالسّهولةِ التي يتخيّلونها.
مارسيل تمّو, أثبت لهم أنّ مشعل تمّو قد أنارَ مشاعلَ لا تنطفئ بمحاولةِ إطفاءِ شعاعه, وأنّ جسده أقوى من رصاصاتهم, وروحه التي ما تزالُ تنبضُ بفيض خيراتِ الوالد ستظلّ تنطقُ بالعشقِ والسّلامِ.
لنجعل من دمِ مشعل عطراً نطهّرُ بها النّفوس المتعطّشة إلى دم الآخر.
لنجعل من دمه ومن دمِ كلّ شهداء الوطن المدادَ المقدّسَ الذي نخطّ به عهدَ الأخوّةِ والصّداقةِ والصّدق بين مختلفِ أطيافِ ومذاهبِ وملل الشّعبِ السّوريّ.
ليكن استشهاده واستشهاد كلّ فردٍ منّا رسالة إلى كلّ مَنْ يجرّدُ نفسه من إنسانيّتها, وقلبه من وداده, وفكره من تعقّله قبل إقدامه على فعله المنافي لكلّ القيم والخلق, فيعود إلى إنسانيّته, وينعمَ بودّ قلبه, ويسترشدَ بهدي فكره.
فنحنُ هنا لا نعزّي النّفسَ برحيل مشعل فحسب بل نعزّيها بفقدان كلّ مَن رحلَ منّا من الأحبّةِ, ونحزن على مَنْ يُغْرِقُ نفسه في بحر الظّلماتِ بدل العومَ في كوثرِ الإنسانيّة النّقيّ.
أرادوا أن يطفئوا مشعل الكرد وما علموا أنّ كلّ كرديّ يولد وفي يده مشعل دائم الضّياء, وفي جبينه بصمة إباءٍ لا تُمحى, ومن عينيه تذرفُ ومضة العشق السّرمديّ.