دمشق 12/10/2011

  جهاد أسعد محمد

أربعاء مليء بالتوجس..

رياح خريفية تمزّق الصباح، وتملأ سماء أقدم عاصمة في التاريخ بالغبار، وتكنس أوراق تشرين المصفّرة اليابسة المتناثرة فوق أرصفتها الضيّقة..

ثمة وعود بـ«عواصف» رعدية ستأتي وشيكاً من جهة البحر..
يصحو الناس على أخبار وتحليلات وتحذيرات وتهديدات وتطمينات وتهويلات تختلف تفاصيلها باختلاف نوع وهوية وسائل الإعلام ووجهتها وتخندقها..

يتثاءبون من تعب الجسد والقلب، ويشربون قهوة القلق، ويمضي المرغمون منهم إلى خارج ممالكهم الصفيحية الصغيرة لتحصيل العلم أو لتأمين لقمة العيش..

* الساعة العاشرة صباحاً: تتوقف الآلات في المعامل، ووُرش الصيانة والبناء، وتُغلق مكاتب الإدارات والمؤسسات والمصارف العامة..

ويستعد العمال والموظفون لمبارحة المنشآت والتوجه إلى مركز المدينة تلبية لدعوات شاملة أُرسلت عبر «سيرياتل« للمشاركة في مسيرة تأييد بعنوان: «وطني سورية وقائدي بشار..»..
* الساعة العاشرة والربع صباحاً: الطلاب الذين تجاوزوا الثانية عشر ربيعاً كلهم..

كلهم باستثناء من منحتهم ظروف محددة هوامش محددة، يخرجون من مدارسهم «طواعية»، ويمضون مع كادرهم التعليمي والإداري إلى الاحتفال العظيم..

لم يحذّر أي مدير أو مدرّس أو موجّه أي طالب من مغبة عدم المشاركة في المسيرة، ولم يهدد أحد أحداً بـ«تقرير» عاجل لأجهزة الأمن في حال التقاعس..

(أبداً)..

الساعة العاشرة والنصف صباحاً: تجري اتصالات مليئة بالرموز والإشارات بين بعض المحتجين في ريف دمشق الشرقي، ويجري الاتفاق سريعاً على أمر ما دون أن يستطيع مراقبو الخطوط أن يفكوا الشيفرة «الشعبية»..
* الساعة الحادية عشرة إلا ربعاً صباحاً: مجموعات من «المؤيدين» المتحمسين يتوزعون على غير اتفاق في شوارع مختلفة، وكل بضع عشرات منهم يغلقون أو يكادون جميع الطرق المؤدية إلى أحياء العاصمة المختلفة على غير اتفاق أيضاً..

وهم يصرخون «إلى الأبد… إلى الأبد…»، ولا يعبؤون بأبواق السيارات ولا بتوسلات رجال المرور للسير جانباً أو الصعود إلى الأرصفة..

والكثيرون منهم حضروا في سيارات عسكرية أو مدنية فاخرة ذات لوحات خضراء..
* الساعة الحادية عشرة صباحاً: الآلاف، وكان يفترض مئات الآلاف، يملؤون ساحة «السبع بحرات» هاتفين للسالفين والخالفين وخالفيهم، ومنهالين بالشتائم على البقية الباقية..

بينما المروحيات تحلّق فوقهم لتمدهم بالقوة والحماسة والحماية..
* الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً: تخرج مظاهرة احتجاج حاشدة في حرستا..

يهتف كل من فيها بصوت واحد: «ما في للأبد… ما في للأبد…»..

دون أن يخالجهم أي ارتجاف لإغلاق أي شارع أساسي أو فرعي، بما في ذلك الشارع الذي سيحضر عبره قامعوهم..
* الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً ظهراً: يتسلل خلسة كل من استطاع إلى التسلل سبيلاً خارج مسيرة التأييد، ويعود سيراً على الأقدام إلى بيته، أو يمضي إلى عمله الإضافي، راجياً ألا يكتشف «العواينية» غيابه.
* الساعة الثانية عشر ظهراً: المئات من رجال الأمن والجيش والشبيحة يدخلون إلى حرستا مدججين بالسلاح، ويسدون جميع منافذها، ويفرقون مظاهرتها عنوة، لكن بصعوبة بالغة، مستخدمين أعيرة نارية وقنابل الغاز..

فالهراوات «اللطيفة» أصبحت من الماضي، ولم يعد استخدامها مجدياً مع أجساد وأحلام ما أكثر ما جُلدت..
* الساعة الواحدة ظهراً: تصدح الهتافات في وسط العاصمة تشتم «العرعوريين» و«الغليونيين» وأبناء «القطَريات» المتآمرين..

ويقوم فنانون «ملتزمون» بتقديم عرض مسرحي «ملتزم» يمجّد «محبة الوطن» كما يفهمها فاسدو الوطن وناهبو الوطن والمستبدون بأبناء الوطن، بينما كاميرات التلفزيون الرسمي وأشباهه وحلفاؤه لا تنقطع عن التصوير والنقل الحي وإجراء اللقاءات مع الوطنيين المخلصين.
* الساعة الواحدة والنصف ظهراً: تجوب الدوريات الراجلة والمؤللة شوارع حرستا وأزقتها، وتداهم العديد من البيوت بحثاً عن مطلوبين من مختلف الأعمار..

مطلوبين لم يكفوا منذ سبعة أشهر عن «إثارة الشغب وإحداث الفتنة في البلاد وتنفيذ المؤامرة الخارجية» رغم كل الإصلاحات…
* الساعة الثانية والنصف عصراً: تنفضّ المسيرة من قلب ساحة السبع بحرات بأمان، دون أن يُخدش أحد، أو يُساءل أحد، أو يظهر أحد من أفراد العصابات المسلحة..

ويمضي المؤيدون إلى بيوتهم أفراداً وجماعات ماشين في عرض الشوارع، والويل لمن يتجرأ ويقول لهم: تنحّوا جانباً!
* الساعة الثالثة عصراً: تخرج الوحدات العسكرية من حرستا منتصرة، فقد فرقت المظاهرة، وأوقعت الهلع في نفوس المطلوبين وأهليهم، وتمكنت من اعتقال العديد من الأشخاص، وهنا لا يهم إن كانوا هم المطلوبين أو لا..

فالغنيمة غنيمة!!
* الساعة العاشرة ليلاً: لم يهطل المطر كما وعدت النشرة الجوية الصباحية..

لا فوق رؤوس المؤيدين ولا فوق رؤوس المعارضين..
دمشق..

الساعة الـ…….

خريفاً..

الشعب شعبان..

والاستبداد واحد!!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لقد شهدت البشرية تحوُّلاً جذرياً في طرق توثيقها للحياة والأحداث، حيث أصبحت الصورة والفيديو- ولأول وهلة- الوسيلتين الرئيسيتين لنقل الواقع وتخليده، على حساب الكلمة المكتوبة. يبدو أن هذا التحول يحمل في طياته نذر موت تدريجي للتوثيق الكتابي، الذي ظل لقرون طويلة الحاضن الأمين للمعرفة والأحداث والوجدان الإنساني. لكن، هل يمكننا التخلي عن الكتابة تماماً؟ هل يمكننا أن ننعيها،…

ا. د. قاسم المندلاوي الكورد في شمال شرق سوريا يعيشون في مناطقهم ولا يشكلون اي تهديد او خطر لا على تركيا ولا على اي طرف آخر، وليس لديهم نية عدوانية تجاه اي احد ، انهم دعاة للسلام في كوردستان والمنطقة والعالم .. ويزيد نفوسهم في سوريا اكثر من 4 مليون نسمة عاشو في دهاليز الظلم و الاضطهاد ومرارة الاحزان…

د. منصور الشمري لا يُمكن فصل تاريخ التنظيمات المتطرفة عن التحولات الكبرى في أنظمة التواصل، فهي مرتبطة بأدوات هذا النظام، ليس فقط من حيث قدرتها على الانتشار واستقطاب الأتباع، بل كذلك من جهة هويتها وطبيعتها الفكرية. وهذا ما تشهد عليه التحولات الكبرى في تاريخ الآيديولوجيات المتطرفة؛ إذ ارتبطت الأفكار المتطرفة في بداياتها بالجماعات الصغرى والضيقة ذات الطبيعة السرية والتكوين المسلح،…

بوتان زيباري في قلب جبال كردستان الشاهقة، حيث تتشابك القمم مع الغيوم وتعزف الوديان أنشودة الحرية الأبدية، تتصارع القضية الكردية بين أمل يتجدد ويأس يتسلل إلى زوايا الذاكرة الجمعية. ليست القضية الكردية مجرد حكاية عن أرض وهوية، بل هي ملحمة إنسانية مكتوبة بمداد الدماء ودموع الأمهات، وحروفها نُقشت على صخور الزمن بقلم الصمود. ولكن، كما هي عادة الروايات الكبرى،…