أربعاء مليء بالتوجس..
رياح خريفية تمزّق الصباح، وتملأ سماء أقدم عاصمة في التاريخ بالغبار، وتكنس أوراق تشرين المصفّرة اليابسة المتناثرة فوق أرصفتها الضيّقة..
ثمة وعود بـ«عواصف» رعدية ستأتي وشيكاً من جهة البحر..
يصحو الناس على أخبار وتحليلات وتحذيرات وتهديدات وتطمينات وتهويلات تختلف تفاصيلها باختلاف نوع وهوية وسائل الإعلام ووجهتها وتخندقها..
يتثاءبون من تعب الجسد والقلب، ويشربون قهوة القلق، ويمضي المرغمون منهم إلى خارج ممالكهم الصفيحية الصغيرة لتحصيل العلم أو لتأمين لقمة العيش..
ويستعد العمال والموظفون لمبارحة المنشآت والتوجه إلى مركز المدينة تلبية لدعوات شاملة أُرسلت عبر «سيرياتل« للمشاركة في مسيرة تأييد بعنوان: «وطني سورية وقائدي بشار..»..
كلهم باستثناء من منحتهم ظروف محددة هوامش محددة، يخرجون من مدارسهم «طواعية»، ويمضون مع كادرهم التعليمي والإداري إلى الاحتفال العظيم..
لم يحذّر أي مدير أو مدرّس أو موجّه أي طالب من مغبة عدم المشاركة في المسيرة، ولم يهدد أحد أحداً بـ«تقرير» عاجل لأجهزة الأمن في حال التقاعس..
(أبداً)..
الساعة العاشرة والنصف صباحاً: تجري اتصالات مليئة بالرموز والإشارات بين بعض المحتجين في ريف دمشق الشرقي، ويجري الاتفاق سريعاً على أمر ما دون أن يستطيع مراقبو الخطوط أن يفكوا الشيفرة «الشعبية»..
* الساعة الحادية عشرة إلا ربعاً صباحاً: مجموعات من «المؤيدين» المتحمسين يتوزعون على غير اتفاق في شوارع مختلفة، وكل بضع عشرات منهم يغلقون أو يكادون جميع الطرق المؤدية إلى أحياء العاصمة المختلفة على غير اتفاق أيضاً..
وهم يصرخون «إلى الأبد… إلى الأبد…»، ولا يعبؤون بأبواق السيارات ولا بتوسلات رجال المرور للسير جانباً أو الصعود إلى الأرصفة..
والكثيرون منهم حضروا في سيارات عسكرية أو مدنية فاخرة ذات لوحات خضراء..
* الساعة الحادية عشرة صباحاً: الآلاف، وكان يفترض مئات الآلاف، يملؤون ساحة «السبع بحرات» هاتفين للسالفين والخالفين وخالفيهم، ومنهالين بالشتائم على البقية الباقية..
بينما المروحيات تحلّق فوقهم لتمدهم بالقوة والحماسة والحماية..
* الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً: تخرج مظاهرة احتجاج حاشدة في حرستا..
يهتف كل من فيها بصوت واحد: «ما في للأبد… ما في للأبد…»..
دون أن يخالجهم أي ارتجاف لإغلاق أي شارع أساسي أو فرعي، بما في ذلك الشارع الذي سيحضر عبره قامعوهم..
* الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً ظهراً: يتسلل خلسة كل من استطاع إلى التسلل سبيلاً خارج مسيرة التأييد، ويعود سيراً على الأقدام إلى بيته، أو يمضي إلى عمله الإضافي، راجياً ألا يكتشف «العواينية» غيابه.
* الساعة الثانية عشر ظهراً: المئات من رجال الأمن والجيش والشبيحة يدخلون إلى حرستا مدججين بالسلاح، ويسدون جميع منافذها، ويفرقون مظاهرتها عنوة، لكن بصعوبة بالغة، مستخدمين أعيرة نارية وقنابل الغاز..
فالهراوات «اللطيفة» أصبحت من الماضي، ولم يعد استخدامها مجدياً مع أجساد وأحلام ما أكثر ما جُلدت..
* الساعة الواحدة ظهراً: تصدح الهتافات في وسط العاصمة تشتم «العرعوريين» و«الغليونيين» وأبناء «القطَريات» المتآمرين..
ويقوم فنانون «ملتزمون» بتقديم عرض مسرحي «ملتزم» يمجّد «محبة الوطن» كما يفهمها فاسدو الوطن وناهبو الوطن والمستبدون بأبناء الوطن، بينما كاميرات التلفزيون الرسمي وأشباهه وحلفاؤه لا تنقطع عن التصوير والنقل الحي وإجراء اللقاءات مع الوطنيين المخلصين.
* الساعة الواحدة والنصف ظهراً: تجوب الدوريات الراجلة والمؤللة شوارع حرستا وأزقتها، وتداهم العديد من البيوت بحثاً عن مطلوبين من مختلف الأعمار..
مطلوبين لم يكفوا منذ سبعة أشهر عن «إثارة الشغب وإحداث الفتنة في البلاد وتنفيذ المؤامرة الخارجية» رغم كل الإصلاحات…
* الساعة الثانية والنصف عصراً: تنفضّ المسيرة من قلب ساحة السبع بحرات بأمان، دون أن يُخدش أحد، أو يُساءل أحد، أو يظهر أحد من أفراد العصابات المسلحة..
ويمضي المؤيدون إلى بيوتهم أفراداً وجماعات ماشين في عرض الشوارع، والويل لمن يتجرأ ويقول لهم: تنحّوا جانباً!
* الساعة الثالثة عصراً: تخرج الوحدات العسكرية من حرستا منتصرة، فقد فرقت المظاهرة، وأوقعت الهلع في نفوس المطلوبين وأهليهم، وتمكنت من اعتقال العديد من الأشخاص، وهنا لا يهم إن كانوا هم المطلوبين أو لا..
فالغنيمة غنيمة!!
* الساعة العاشرة ليلاً: لم يهطل المطر كما وعدت النشرة الجوية الصباحية..
لا فوق رؤوس المؤيدين ولا فوق رؤوس المعارضين..
دمشق..
الساعة الـ…….
خريفاً..
الشعب شعبان..
والاستبداد واحد!!