عن مصادر الثورات المعاصرة .. سوريا نموذجا

صلاح بدرالدين

في ندوة ” النظم السياسية ودور البرلمانات في الديمقراطيات العربية الناشئة ” التي عقدت قبل أكثر من اسبوع في العاصمة الأردنية أثار المتكلم حول تجربة الثورة المصرية الأستاذ الجامعي – حسن نافعة – الذي يوصف عادة بأحد صقور مثقفي الممانعة انتباه الحضور ممزوجا بنوع من الاستغراب عندما أعلن ” أن أحد الدروس الأولية المستقاة من ثورات ربيع العرب هو عودة العروبة مجددا بعد انحسار طويل واعادة الاعتبار للفكر القومي العربي الذي يخرج الآن من قمقمه في تونس ومصر وليبيا والحبل على الجرار في بلدان أخرى ..

” وبعد أن جاء دور المشاركين للتعقيب على المحاضر توجهت اليه بمايلي :
 ” لقد طرحتم مسائل مثيرة وأتوجه اليكم بالتساؤلات التالية : هل مايجري ثورات عروبية ؟ وعن أية عروبة تتحدثون هل عن عروبة البعث في العراق وسوريا التي لم تخلف سوى المقابر الجماعية و- حلبجة – والأنفال – واضاعة الجولان واثارة العنصرية والطائفية ؟ هل تدلونا الى حزب قومي عربي واحد طرح قبل عشرة أشهر أي برنامج أو خطة عمل لاشعال الانتفاضات والثورات ؟ ألا توافقون معي أن كل الأحزاب والحركات والجماعات التقليدية القومية والاسلامية والشيوعية فوجئت بحراك الشباب الذي تحول انتفاضات وثورات ؟ ثم ألا تعلمون أن هناك بلدانا تشهد الانتفاضة الثورية وهي متعددة القوميات والمكونات وكلها منخرط في الثورة ويقدم التضحيات وليست عربية صرفة مثل سوريا والى حد أقل ليبيا وتونس فكيف يجوز اعتبار مايحصل بثورات عروبية ؟ أرى بعكس ماترونه وأعتبر أن مايجري هو انتفاضات ثورية وطنية شعبية بامتياز تجمع على ازالة الاستبداد ونشدان الحرية وانتزاع الكرامة  ولكل بلد خصوصياته وقضاياه ومشاكله “.

   لقد أردت من هذا المدخل التعبير عن مدى الحاجة الماسة في هذه الظروف الدقيقة الى التنبه من خطاب أنظمة الاستبداد الاعلامي والثقافي الهادف الى تشويه العملية الانتفاضية الثورية واطلاق التهم الرخيصة بحقها وارجاعها زورا الى دوافع وعوامل وأهداف لاتمت بصلة الى واقع العملية التاريخية النابعة من صلب الارادة الشعبية والهادفة الى التغيير والاصلاح الجذري واعادة البناء والتي يريد البعض من مثقفي الممانعة الذي يصر على أن النظام السوري مقاوم أو أن مايجري يعبر عن أفكار عفى عليها الزمن قوموية كانت أم اسلاموية وأن يحاول في هذه – الزحمة – أن يخلط في موضوعة الانتفاضات – الحابل بالنابل – وكذلك أردت الدعوة الى درجة قصوى من الحذر وضرورة التعمق من جانب المفكرين والمثقفين الملتزمين بقضايا شعوبهم وثورات بلدانهم في تحليلها وتقييمها والاحاطة بها بحسب المنهج العلمي والتشخيص الاجتماعي الطبقي لمصادر الثورة وقواها المحركة والصديقة وأهدافها الاستراتيجية وبرامجها الآنية والمرحلية وتحدياتها الداخلية والخارجية حتى يتم دحض ادعاءات ومزاعم أنظمة الاستبداد ومثقفيها ومروجي آيديولوجيا الممانعة بسبل ونظريات شتى من جهة والكشف في الوقت ذاته عن محاولات التشويه الاعلامي – الثقافي من جانب جماعات الاسلام السياسي التي لاتختلف عن الأنظمة القمعية من حيث الشمولية والنفاق الآيديولوجي والممانعة اللفظية من الجانب الآخر خاصة وأنها تجد بسهولة فضائيات معروفة ووسائل متقدمة للترويج لما يريدونه.
  السبب الآخر الأهم لمقتضى ضرورة تعريف جوهر ثورات الربيع العربي عموما والمضمون الحقيقي للانتفاضة الثورية السورية المندلعة منذ سبعة أشهر خصوصا هو الحؤول من دون نجاح محاولات اختطاف الانتفاضة أو الركوب في موجتها أو التسلق على جسدها وبالتالي اضفاء ألوان مصطنعة على شكلها واجهاضها وافراغها من محتواها النضالي الثوري السلمي كما يحصل الآن جهارا نهارا من جانب قوى وجماعات وأفراد الردة المضادة في الداخل والخارج وحتى في أروقة بعض المؤتمرات وضمن صفوف اجتماعات ومجالس تعقد وتعلن هنا وهناك والهدف هو أولا وآخرا الحلول محل انتفاضة الداخل في تقرير مصير الشعب السوري وعقد صفقات باشراف رأس الأفعى الحاكم وبمباركة اقليمية أساسا وتجاوز سقفها المعلن في اسقاط النظام رئيسا ومؤسسات وقواعد أمنية ومرتكزات عسكرية ميليشياوية ومالية وبنى وآيديولوجيا وهدفها في اعادة بناء الدولة الديموقراطية التعددية.
     هناك القليل حتى الآن من الجهود الفكرية والثقافية المبذولة في سبيل تعريف الظاهرة الثورية الراهنة والولوج في تفاصيل العملية الجارية لأن المسألة أبعد من مظاهرات واحتجاجات ماتلبس أن تنتفي بعد مرور زمن معين كما أنها ثورات من نوع جديد ليست على غرار الثورات البورجوازية الأوروبية ولا تتطابق مع ثورات التحرر الوطني في منطقتنا بالذات وتتناقض شكلا ومحتوى مع الانقلابات العسكرية التي وقعت  أكثرها في بلادنا  بل هي انتفاضات ثورية يشكل الشباب وقودها الأساسي وتتوسع لتستوعب فئات من الطبقات الوسطى ومن فقراء عمال المدن وفلاحي الريف وحتى أوساط من البورجوازية الوطنية المتضررة من المافيات العائلية الحاكمة وهي تقدم التضحيات الجسام ليس من أجل تغيير حكومة أو تبديل قانون بل تستهدف النظام المستبد برمته لتتحول مع مرور الزمن الى ثورات عميقة تصيب كل مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدستورية وقد شهد التاريخ نماذج ثورية في الغرب والشرق غيرت وجه البلدان وبدلت حياة الشعوب وفي سياق البحث عن مواقف اليسار واليمين من الحراك الانتفاضي هناك تغييرات وخاصة على الصعيد السوري حيث مواقف اليسار التقليدي مخزية رغم محاولات زرع عيون في صفوف التنسيقيات لتمدها بالمعلومات التي قد تصل الى أجهزة السلطة – الحليفة – أو تعمل على حرف الثورة عن نهجها في قادم الأيام وكذلك مواقف العديد من التيارات القومية التي تجاهر بالتمسك بأذيال النظام ان كل ذلك يتطلب المزيد من الحذر وقدرا من التقييم المنهجي الشفاف من أجل اظهار الحقائق أمام الشعب والجماهير الواسعة حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود.
المسألة الأخرى التي تحتاج الى المزيد من تسليط الأضواء والبحث والنقاش هي موقف شباب وقادة الانتفاضة الثورية الايجابي من حيث المبدأ من قضية القوميات والمكونات الدينية والمذهبية في البلدان المتعددة الأقوام والأثنيات مثل سوريا خصوصا والى درجة أقل بلدان المغرب العربي التي تضم القومية الأمازيغية وهو أمر جديد في مجال ماتتعرض له القوميات الأقل عددا جراء النزعة الشوفينية العنصرية التي تستشري ضمن صفوف الجماعات الاسلامية السياسية والقومية المتطرفة والسؤال المطروح بالحاح هو الى أي مدى يمكن أن تتقبل الغالبية السائدة من المنتفضين وتيرة ودرجة حقوق القوميات الأخرى في اطار حق تقرير المصير على قاعدة الاتحاد الاختياري والشراكة في السلطة والثروة والتعايش بالرغم من تلمس مؤشرات مشجعة في هذا المجال في هذه المدة القصيرة نسبيا من عمر الانتفاضات والثورات المندلعة في المغرب والمشرق والمرشحةلتتواصل في أماكن أخرى .

    ومن جملة الأمور التي تحتاج الى نقاش هادىء من جانب المفكرين والاتفاق حولها مسألة الحماية الدولية وأشكالها وحدودها بمافي ذلك تجارب المناطق الآمنة والمنزوعة من السلاح التي حدث بعضها بنجاح في منطقتنا وقضية التدخل الخارجي بصورة عامة ودور الجوار والمحيط العربي وموضوعة التضامن من الرأي العام الحر وفي هذا الجانب بالذات تظهر مسألة الجيش الوطني وظاهرة الانشقاق في صفوفه والتجارب الماثلة في تونس ومصر وليبيا واليمن هذه القضايا هي غيض من فيض بمايتعلق بمصير الانتفاضات والثورات المندلعة وقضاياها المتعددة ومسائلها المتشعبة التي تنتظر الاسهام في فك عقدها وتوضيح جوانبها .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لقد شهدت البشرية تحوُّلاً جذرياً في طرق توثيقها للحياة والأحداث، حيث أصبحت الصورة والفيديو- ولأول وهلة- الوسيلتين الرئيسيتين لنقل الواقع وتخليده، على حساب الكلمة المكتوبة. يبدو أن هذا التحول يحمل في طياته نذر موت تدريجي للتوثيق الكتابي، الذي ظل لقرون طويلة الحاضن الأمين للمعرفة والأحداث والوجدان الإنساني. لكن، هل يمكننا التخلي عن الكتابة تماماً؟ هل يمكننا أن ننعيها،…

ا. د. قاسم المندلاوي الكورد في شمال شرق سوريا يعيشون في مناطقهم ولا يشكلون اي تهديد او خطر لا على تركيا ولا على اي طرف آخر، وليس لديهم نية عدوانية تجاه اي احد ، انهم دعاة للسلام في كوردستان والمنطقة والعالم .. ويزيد نفوسهم في سوريا اكثر من 4 مليون نسمة عاشو في دهاليز الظلم و الاضطهاد ومرارة الاحزان…

د. منصور الشمري لا يُمكن فصل تاريخ التنظيمات المتطرفة عن التحولات الكبرى في أنظمة التواصل، فهي مرتبطة بأدوات هذا النظام، ليس فقط من حيث قدرتها على الانتشار واستقطاب الأتباع، بل كذلك من جهة هويتها وطبيعتها الفكرية. وهذا ما تشهد عليه التحولات الكبرى في تاريخ الآيديولوجيات المتطرفة؛ إذ ارتبطت الأفكار المتطرفة في بداياتها بالجماعات الصغرى والضيقة ذات الطبيعة السرية والتكوين المسلح،…

بوتان زيباري في قلب جبال كردستان الشاهقة، حيث تتشابك القمم مع الغيوم وتعزف الوديان أنشودة الحرية الأبدية، تتصارع القضية الكردية بين أمل يتجدد ويأس يتسلل إلى زوايا الذاكرة الجمعية. ليست القضية الكردية مجرد حكاية عن أرض وهوية، بل هي ملحمة إنسانية مكتوبة بمداد الدماء ودموع الأمهات، وحروفها نُقشت على صخور الزمن بقلم الصمود. ولكن، كما هي عادة الروايات الكبرى،…