القذّافي معمّر دمّر فدُمِّر

  نارين عمر

يبدو أنّه وحتّى الّلحظة الأخيرة لم يكن معمّر القذافيّ يعرفُ أنّ هذا المصير بانتظاره وربّما كان يدركُ ذلك كلّ الإدراكِ ولكنّه ظلّ يتجاهلُ حيناَ, ويتغابى حيناً آخرَ, ويقومُ بحركاتٍ أقربَ إلى الجنونيّة بإطلاقه عباراتٍ تخلعُ منه صفات القيادة والرّيادة والزّعامة كما كان يدّعيها.

شتّان ما بين شكل معمّر القذّافي وأسلوبه لحظة استلمه الحكم وبرهة تلقيه نبأ محاولة اغتصابِ الحكمِ منه.
قبل أربعين عاماً كان يبدو شابّاً وسيماً, مبتسماً, هادئاً, يرتدي زيّاً عسكريّاً تقليديّاً, يهتفُ مع الجماهير الغفيرة بالحريّة والدّيمقراطيّة والكرامة, يلعنُ العهدَ الملكيّ البائد, ويهجو طغيانهم وإبادتهم للشّعبِ.

يصافحهم, يبادلهم التّحيّة بأحسن منها, وهو الذي اختارته الجماهير المليونيّة  لينقذها من الطّغيان والاستبداد والجوع والفقر.
أمّا معمّر السّنوات الأخيرة فنجده قد تغيّرَ تغيّراً تامّاً حتّى خُيّلَ للكثير أنّه شخصيّة أخرى, أو أنّه أجرى عمليّات تجميلٍ, أو أنّ شخصاً آخرَ انتحلَ شخصيّته, حتّى تحوّل إلى مزيجٍ من التّناقضات والتباينات والأضداد فما الذي جعله على هذه الشّاكلة؟ مَنِ الذي ساهمَ في تكوين هذه الشّخصيّةِ لديه؟
لا شكّ أنّ الكثير منّا يردّ: الذي دفعه إلى ذلك هم الحاشيّة التي اختارها لنفسه, يقدّسونه ويمجّدونه بحكم مصالحهم الشّخصيّة والعائليّة, وللنّيل على المناصب العليا التي لا يستأهلونها كون معظمهم وصل إلى ما وصل إليه ورصيده من البلطجة والجهل والأنانيّة قد بلغ أشدّه,  لكنّنا ننسى أو نتناسى أنّ شرائحَ واسعة من شعبه ومجتمعه ساهموا في ذلك حين طبّلوا له وزمّروا, وهتفوا باسمه, وقبلوا بتناقضاته وتقبّلوا بظلمه وجبروته حتّى صدّق نفسه أنّه بهذه الأفعال إنّما يحسنُ إليهم, ويقلّدهم أوسمة العيش الهانئ والحياةِ الرّغيدة, ووصل إلى قناعةٍ أكيدة أنّه معصوم من الأخطاء وهو الذي قد وصل إلى درجةِ القداسةِ والتّقديس بل الألوهيّة, فصار يأمر ويشير ويومئ ويكتب ويقرّر وينفذ واحداً أحداً لا منافس له في البرّ والبحر والجوّ.
ظلّ يفعلُ ذلك حتّى الّلحظات الأخيرة من عمره, لأنّه بقي يحاولُ الإصغاء إلى الشّقّ المظلم والدّاكن من فكره وقلبه والذي كان يعكسُ له مجتمعاً لم يعد ينتمي إلى مجتمعه الذي ولد من رحم الثّورة, وأرضاً ميتة غير هذه التي تطهّرت بكوثر الثّورة ولبانها, وشعباً خائفاً لم يعد له علاقة بالشّعبِ الذي أذّل الخوف لحظة وضعه الرّوحَ في كفّ وحمامة سلام في الأخرى.
لو أعطى القذّافي لنفسه وعائلته بعض الوقتِ للتّفكير بمصيره ومصيرهم, ومصير الملايين من أبناء شعبه لما حدث ما حدث, لكان وفّرَ عليه وعلى شعبه دماَ أريق في غيرِ وجه الحقّ.


ربّما لنأى بنفسه وجميع أفرادِ عائلته وعشيرته وأفرادِ بلدته بعيداً عن الموتِ والقتل والتّشريِدِ.


وقبل كلّ هذا وذاك كان بإمكانه البقاء في وطنه وقضاء ما تبقّى من عمره في هدوءِ بال وصفاء نفسٍ.
كان عليه أن يتعظ من تجارب مَنْ سبقه من الحكّام والأباطرة, ففيها تكمنُ العبرة والمشورة الحقّة.
السّؤال الذي يخطر في البال والخاطر الآن:

هل سيفي قادة الثّورة الّليبيةّ الآنيون, الحاليّون بوعودهم للشّعبِ الّليبيّ في الحرّية والكرامةِ والعيشِ الإنسانيّ الذي يليقُ به, أم أنّ التّاريخ سيشهدُ بعد ثلاثين أو أربعين عاماً ثوراتٍ شعبيّةٍ وجماهيريّةٍ ضدّ حكّام طغاة, متكبّرين ناكرين للحقّ والحرّيةِ وهم اليوم رموز الثّورةِ والنّضال وهم الشّهداء الأحياء؟؟؟  

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد حسو إن مسيرة الشعب الكوردي هي مسيرة نضال طويلة ومستمرة، لم تتوقف يومًا رغم الظروف الصعبة والتحديات المتراكمة، لأنها تنبع من إرادة راسخة ووعي عميق بحقوق مشروعة طال السعي إليها. ولا يمكن لهذه المسيرة أن تبلغ غايتها إلا بتحقيق الحرية الكاملة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التمييز القومي أو الديني…

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…