الأيديولوجيا هل هي رؤية أم منهج *

محمد قاسم “ابن الجزيرة “
m.qibnjezire@hotmail.com

لا أود الدخول في تفاصيل فلسفية عن الأيديولوجيا،  فهي متاحة لكل من يرغب؛ في كتب عديدة، وفي مواقع عديدة- ولكنني -كما ذهب بعض الفلاسفة، أجد البساطة في البحث في الاحتياجات المباشرة للناس-الآن- وقد يكون خيرا من بحث في عمق فلسفي يخص النخبة البشرية، بل ونخبة النخبة.

ولا يعني هذا؛ تجاهلا أو محاولة تعطيل الجهد في الأبحاث الفلسفية واتجاهاتها –أيا كانت – كما فعل الأيديولوجيون الماركسيون، فحاولوا إلغاء كل جهد فلسفي؛ تحت عناوين عدة ، البرجوازية ،الامبريالية…الـخ،
 ومختلف المصطلحات التي تفننوا في ابتكارها، وتعقيدها (لتطرق أسماع الذين ينساقون نحو المصالح الخاصة – أو شرائح من الناس تتكاسل –أو تعجز لسبب ما- عن المتابعة والتحليل والاستيعاب) تحت مسميات ذات صلة بالثقافة السياسية؛ وبعيدا عن البعد القيمي الإنساني الذي يتوخى الحقيقة والعدل فيها، وتستهويهم …او على الأقل- انسياقا مع اتجاه خاص لا يخدم السياق المفاهيمي العالمي في تطوره وتبلوره…

أو حاولوا التفلسف بتصورات مسبقة سياسيا، لكي تترتب عليها نتائج يتوخونها –أو يرغبون في الوصول إليها –وهي سياسية في انطلاقتها، ونتائجها على الأغلب… ولعل هذا المعنى هو الذي نقصده من معنى الأيديولوجيا هنا.
وعلى الرغم من مختلف الشعارات والأحاديث والنصوص في إهاب الفلسفة، وتلك السياسية… والتي حاولت أن تدغدغ أعماق البائسين، والمحرومين؛ بطريقة محترفة – منها مثلا بيان الحزب الشيوعي السوري -الأيديولوجي- الأخير بشأن الأحداث في سوريا –  ومواقفهم عموما، فقد كانوا هم الأكثر خطورة-غالبا- من البورجوازيين والامبرياليين([i] )على مصالح هؤلاء الذين يزعمون أنهم يعملون من اجلهم، الخطورة ليست على المصالح الاقتصادية فحسب، بل على تلك الجوهرية روحيا وبنيويا- نفسيا وعقليا.
ومن هذه المصالح الجوهرية والبنيوية …الشعور بالذات بروح خلاقة، وكرامة يستمدون منها حضورهم، وفعاليتهم الخاصة والمستقلة –الحرة- بدلا من التصفيق، وتكرار الهتافات المقدِّسة للأشخاص – قياديون سياسيون – الذين لا يكادون يعتلون المركز حتى يظلون يكرّسون كل التهافت الأيديولوجي من اجل بقائهم في هذه المراكز، و بمختلف الوسائل والأساليب –والمشروعة،هي آخرها غالبا –.
ولا أدل من ذلك ،أن أحدا من هؤلاء الأيديولوجيين لم يترك مركزه إلا بوفاته، وبعد التمهيد لأبنائه وربما أحفاده –
نلاحظ هذا في الاتحاد السوفييتي السابق، وفي روسيا –امتداد الثقافة السوفيتية على الرغم من بعض التحولات بعد الثورة فيها([ii] ) وفي الصين وفي كوبا وفي مختلف الأنظمة التي تحكم تحت شعار الأيديولوجيا السياسية ومنها النظم العربية المستبدة باسم الأيديولوجيا .
إن دل هذا على شيء، فهو يدل على اتجاه سلوكي لخدمة أجندات خاصة –أيا كانت تسميتها، ولمن كانت؛ أفرادا أو جماعات -0ايا كانت أيضا- تجليها الأنانية والمصلحة الخاصة.
وإذا حاولنا أن نتعمق في مثل هذه الأيديولوجيات نتلمس بوضوح هذه الحقيقة في الحياة الميدانية.
و ينبغي –هنا- أن نتنبه إلى أن الأيديولوجيا -كفكرة وفلسفة- ليست جميعا ابتذالا … لكنها –ربما- جميعا تتجه نحو انغلاق من نوع ما، وبدرجة ما، وخطرة بدرجة أخرى؛ على نمو الطاقة الخلاقة في الكينونة والصيرورة البشريتين.


التجارب قديما وحديثا تعبر عن هذا بلا حاجة للشرح والتفسير؛  اللهم إلا لمن أغلق ذهنه عن استقبال ما يُفترض، بتأثير الأيديولوجيا ذاتها –أيا كانت-  ومن ثم لا يدع  آفاق هذا الذهن للتفاعل الحيوي مع الأفكار، جديدها وقديمها، صحيحها وباطلها وأشكالها….ومن ثم تصنيفها كما يفترض وفقا للمثل البشرية الأسمى .!
لا يُلام الذين اتجه بهم سبيل البحث الفلسفي إلى اعتناق أيديولوجيا- كنتيجة-.
 فالبحث قد يقود إلى أي نتيجة؛ بحسب المقدمات التي انطلقنا منها، مادمنا نبحث فعلا عن الحقيقة.وقد نخطئ في حسن اختيار المقدمات منطقيا….فهي مرحلة ومهارة تحتاج دقة وخبرة كبيرة.والخطأ في السلوك البشري –أيا كان وارد،لكن المهم أن نتقبل التصحيح إذا شعرنا بأننا أخطأنا ولا نكابر ..فليست المكابرة من سلوك العلماء والمثقفين، بل هو من سلوك السياسيين والإداريين والزعماء المغالطين عموما، والذين يستثمرون غالبا المساحات الرمادية في المفاهيم والثقافة عموما…!
 إذا لا نلوم من أوصله البحث إلى نتيجة خاطئة، لكننا نلوم الذين وضعوا نصب أعينهم نتائج تترتب على أيديولوجيا ابتكروها- أو حرفوها- لتكون خادمة لمصالحهم السياسية أو الدينية تحت عنوان الفلسفة والبحث الفكري…–وهي في هذه الحالة أيضا سياسية ” [iii] “-.


الدين في حد ذاته ؛اعتناق عقيدة وفقا لإيمان صادق بالنسبة للمتدين في الحالة الطبيعية..ولكن ما يبدو لي، في كثير من الحالات، أن الدين  -لدى البعض- أصبح أيديولوجيا لخدمة أجندات مصلحيه،  قد تتجلى في صور تعصب من نوع ما.

تماما كما الأيديولوجيين القوميين والأمميين وغيرهم؛ ممن على شاكلتهم؛ اكتشفوا الأثر النفسي الفعال في التأثير على طبقات وشرائح معينة، لما فيها من شعارات يتفننون في إخراجها، وصياغتها، وتزويقها …ويصرفون الجهود والأموال الطائلة لمؤسسات تخدم في هذا الاتجاه، فتدرس نفسية هذه الطبقات والشرائح، وتبتكر لها من الأساليب ما يؤثر عليها، ومن لم يتأثر فهناك أساليب أخرى، ربما منها جرّها إلى مواقع؛ تضطر فيها إلى تقبل ما يُملى عليها، وهي لا تعدم  الوسائل لذلك، ما دامت تملك ما يمكنها من فعل ذلك –مال، سلطة، أساليب تعامل، وخاصة تلك التي لا تنضبط بقواعد أخلاقية ايجابية..
في لحظة انشقاق حزبي لأحد الأحزاب اتجه الطرف المنشق إلى الأطفال والمراهقين  لدعم عددهم، وتأثيرهم في شق الشارع ،واتجه الطرف الآخر إلى إذكاء الروح القبلية والعشائرية وبناء علاقات خاصة تجارية أو قرابة …وكلاهما يعملان ضد مبادئهما وقيمهما المعلنة وما يتضمنه مناهجهما.
 واتُّبعت وسائل مختلفة من اجل مصلحة -هي أصلا ثانوية ووسيلة لغاية كبرى- وزاد بعضها- أحزاب أخرى قومية وأممية- فتدخلت في حياة الناس الاجتماعية، وفي خصوصيات حياتهم، وخلطت بين السياسة والحياة الاجتماعية وامتهنت التهويل، والهجوم المستمر على قيم اجتماعية لا تتناسب مع توجهاتهم، فشوّهوها، وجعلوها مرتبكة، لكي يحتار الناس، ويصبحوا فريسة سهلة لمقاصدهم، وتأثيراتهم بشتى السبل.وهذا نهج ثابت في الأيديولوجيا السياسية خاصة، ومختلف الأيديولوجيات عموما.
 واستثمرت ظروف الحالة النفسية لشيوخ محرومين، ونساء محرومات، وشباب لم ينضج بعد..خاصة في ظروف الأمية وانتشار الجهل.بل وفي بعض الحالات اتبعوا أسلوب التوريط بطريقة استخبارية، أو بالاستعانة بها، وأمور أخرى ميدانية أكثر تأثيرا ربما.
وفي حال امتلاك السلطة فكل شيء مسخّر لهذا النمط من السلوك الأيديولوجي للهيمنة .
الأيديولوجيا لدى هؤلاء- بدلا من  أن تكون محاولة وسعي من المثقفين والعلماء لمعرفة الحقائق، واكتشاف أسرار الحياة فلسفيا وعلميا؛ لتوضع نتائجها ومنعكساتها في خدمة البشر وتطورهم، أصبحت لديهم وسيلة نافذة لتطويع العقول الحائرة، والنفوس المرتبكة، ومن لم يحتر أو يرتبك فاللجوء إلى وسائل أخرى -تتضمن قوة ما- للوقوع في فخ الحيرة والارتباك، حتى يسهل اصطياده، والهيمنة عليه، وإلا ربما كانت تصفيته جسديا وعقليا أسهل وأيسر سبيلا ،وتحت أسماء براقة :الوطنية والقومية والدين و..و…الخ.

وكلها يصعب على الحائرين والمرتبكين والجهلاء ….تمييزها بنقاء.للأسف فيصح على هؤلاء القول: ” حاميها حراميها “.

………………………..

*  كلمة رؤية –هنا- توحي بأن الأيديولوجيا رؤية فلسفية عميقة، لكننا قصدنا رؤية الأيديولوجيين المصلحية –لا الفلسفية- أما المنهج فهو النهج –والسلوك- الذي يتبعه الأيديولوجيون، وهو إخضاع كل الثقافة وما فيها من مفاهيم ورؤى وأفكار وتطبيقاتها لهدف خاص، هو التحكم في القيم والمقدرات وحركة الناس…

[i] – لا نود أن يُفهم من نقدنا للأيديولوجيين أننا مغرمون بالنظام الرأسمالي، لكننا نرغب في ليبرالية اقتصادية  متزامنة- ومتفاعلة- مع ديمقراطية سياسية أساسها الحريات الفردية  في سياق ثقافي وقانوني؛ يوضح كل مفهوم ضمن مكانته ومداه وغايته  في القوانين الوطنية التي لا تتناقض مع القيم الإنسانية العامة عموما.
[ii] – بالأمس القريب رشح مدفييف بوتين للرئاسة المرتبة له سلفا وكانت التحليلات قد نبهت إلى أن بوتين هو الذي دفع مدييف إلى عرش الرئاسة كنوع من التمهيد لعودته مرة أخرى إلى الرئاسة..وهذا ما يحصل الآن.

[iii] – من المؤسف ان مفهوم السياسة انتقل من معنى فضيلة الحكم وتحمل المسؤولية بشعور نبيل…الى مفهوم التعبير عن الذاتية وما يتوافق مع اتجاهاتها السلبية غالبا  -ولعل المصلحة غير المشروعة  أهم ميزاتها

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…