عبد الباسط سيدا
ومرة أخرى تقتحم دبابات سلطة لم تمتلك الشرعية قط مدينة النواعير.
ومرة أخرى تُستباح المدينة رغبة من سلطة الاستبداد والإفساد في ترويع السوريين، ودفعهم نحو ملاذات الصمت، وإجبارهم على القبول بسلطة الأمر الواقع، سلطة الأسد الابن الوريث؛ سلطة ما زالت تعيش أحلام الماضي، تستخدم الأدوات ذاتها، والشعارات ذاتها، والشخصيات ذاتها؛ سلطة لم تدرك بعد أن الزمن قد تغيّر، لأن المعطيات الدولية والإقليمية ليست هي نفسها، كما أن وهج الشعارات الخاوية قد تلاشى بعد أن بانت العورات كلها، ولم تعد الفصاحات النارية قادرة على تخدير العقول بعد أن تحررت الأفئدة من سمومها.
حماة ليست وحيدة هذه المرة.
السوريون جميعهم، بكل مكوناتهم، بكل اتجاهاتهم وجهاتهم متضامنين متفاعلين معها؛ ولن تتمكن سلطة الاستبداد ثانية من الاستفراد بمدينة أبي الفداء والقاشوش التي هي بمثابة القلب من الجسد السوري المتلاحم؛ هذا الجسد الذي يستعيد عافيته بعد أن أنهكته الزمرة اللامرئية، وعملت على تمزيقه وتفتيته على مدى عقود طويلة حالكة، هي عمر سلطتها الرعناء.
لقد حدد شعبنا الهدف، وأدرك الوسيلة، ولن تستطيع أية قوة عاتية أن تقتل فيه توقه إلى الإنعتاق، ورغبته في بناء مستقبل أجياله القادمة بحرية وكرامة، بعيداً عن شرور الاستبداد، وقيم الإفساد المتهالكة.
حماة ليست وحيدة هذه المرة، فقبلها وبعدها ومعها كانت درعا، وحمص، وبانياس، واللاذقية ،ودمشق – عاصمتنا التي بها نتباهى ونعتز- ودير الزور، والبوكمال، وقامشلي، وعامودة، وكوباني، وتلبيسة، وعربين، والمعضمية، ودوما، وحرستا، وريف حلب، وحلب… سورية بأسرها مشاركة في ثورة الكرامة ، ثورة الشعب السوري الكبرى الثانية؛ هذا الشعب المصمم بعزيمة لا تقهر على القطع مع سلطة الاستبداد بكل رموزها ومفاسدها؛ ثورة لن تتمكن رزمة “الإصلاحات” التضليلية من التعكير على صفوها والحد من عنفوانها.
كما لن تتمكن الصفقات الأمنية التي يروّج لها بعض ضعاف النفوس من بلوغ مراميها، لأنها غريبة على روحية الثورة، متناقضة مع تطلعات الشعب السوري.
ومن هنا لا بد من تذكير كل من يحاول التذاكي على الشعب السوري، وكل من يدّعي البراغماتية، وكل من يلتزم الواقعية الانتهازية، لابد من تذكير هؤلاء جميعاً بأنه لم يعد بيننا وبين هذا النظام سوى الاتفاق على موعد وآلية الرحيل؛ فالثقة باتت معدومة بالمطلق بيننا؛ والنظام الذي لا يثق به شعبه لا يستحق أن يبقى.
النظام الذي يقتل شعبه لا يمتلك أية مشروعية، وكل اتفاق معه باطل، هذا ناهيك عن كونه غير وطني وغير أخلاقي.
الوحدة الوطنية السورية الفعلية تنجز اليوم على أرض الواقع في مواجهة النظام؛ فلأول مرة منذ بداية عهد الدكتاتورية في سورية يشعر السوريون بأنهم بالفعل أبناء وطن واحد، يشعرون بأن مصيرهم واحد في مواجهة سلطة غاشمة تعاديهم جميعاً، تفرّق بينهم، تفبرك الشائعات، تعكّر الأجواء، وتسوّق النزعات العصبوية ما قبل الوطنية بمسمياتها المختلفة.
وبغية القطع مع أحابيل السلطة وألاعيبها، لا بد من الالتزام بالمشروع الوطني السوري الديمقراطي المدني الذي يقر بكون الشعب المصدر الفعلي لكل السلطات، ويلتزم احترام واقع التعددية الدينية والقومية في سورية وفق مبدأ احترام الخصوصيات ضمن إطار وحدة البلاد، والقطع مع سياسة الإقصاء والتهميش.
وانسجاماً مع ما تقدم، نرى أن حالة اللغط التي سادت لبعض الوقت بين بعض المتعصبين من العرب والكرد بعد مؤتمر الإنقاذ الوطني السوري الذي انعقد مؤخرا في استانبول كانت نتيجة أخطاء خاصة بالمؤتمر ذاته، لذلك لابد من تجاوزها، والتأكيد معاً أن سورية المستقبل ستكون بجميع ولجميع أبنائها، وستكون المسألة الكردية في سورية – شأنها في ذلك شأن كل المسائل الأخرى الخاصة بسورية- مسألة سورية تعكس مصداقية وجدية المشروع الوطني الديمقراطي السوري، وستحل ضمن إطار المشروع ذاته، وذلك على أرضية رفع المظالم والإقرار بالحقوق القومية المشروعة.
لقد بدأ السوريون ثورتهم من أجل أن يضعوا الأسس لدولة عصرية، دولة ترتقي إلى مستوى تحديات العصر.
وهي ثورة لن تتوقف في منتصف الطريق لأن ذلك هو الانتحار بعينه؛ بل ستستمر بقوة أكبر وزخم اشد، حتى تتحقق أهداف السوريين جميعاً في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
سورية المستقبل، ستكون عمقاً عربياً، وعمقاً كردياً، ستكون عمقاً إسلامياً، وعمقاً مسيحياً.
سورية المنشودة ستكون جسراً للتصالح والتواصل والتآلف بين الجميع.
الكل في سورية سيسخّر طاقاته في مصلحة سورية لتكون الأخيرة عامل حل ووئام واستقرار للمنطقة بأسرها.
لن تتنازل سورية عن حقوقها، ولن تعتدي على حقوق الآخرين؛ وبدهي أن كل ذلك لن يتحقق من دون إسقاط النظام الأمني القمعي القائم، هذا النظام الذي يدير البلد بذهنية العصابة ومنطق القراصنة.
ليس أمامنا سوى التكاتف والاتحاد، والتعهد المخلص على السير معاً من أجل الربيع المنتظر.