يمكن طرح هذا الموضوع الثقافيَّ الطابع من مستويات ثلاثة، وهذه بكاملها، ذات صلة بما هو كردي:
مستوى علاقة المتعامل الانترنتي بما هو كردي- عالمي، تنتفي فيه الحدود، ويتشكل شعورٌ بالعالمية.
مستوى علاقة المتعامل الانترنتي بما هو اجتماعي كردي- كردي، ويتحدد شعورٌ بالانتماء الاجتماعي..
مستوى علاقة المتعامل الانترنتي بما هو ذاتي، ويتكون شعورٌ بهوية الذات وطبيعة الهوية من الداخل.
الكردي في قواه الثلاث
لا فرح يعادل فرح الكردي حين يجد نفسه نزيلاً انترنتياً، إذ إن البياض الانترنتي في سرعة استجابته لطلبه في أن تظهر كتابته وبجوار العنوان صورته” لقطته المختارة”، بياضٌ يلغي التفاوت في المقامات، لأنه من السهل جداً الدخول في رحابته، بمجرد توافر جملة أداءات حركية ومعلومات تقانية، وهو الذي لا يكلّف كثيرَ جهد، وبالمقابل يهبُ المعنيَّ ما يفتقده كثيراً في واقعه بالنسبة للآخرين وللذين يحتك بهم.
واحد هو البياض بدايةً، وواحد هو الدخول بعيداً عن التراتبية المجتمعية أو الكردية، وما أسهل على الكردي المأهول بقهر متعدد النّسب، متنوع المصادر، وهو في مواجهة لما يكتبه وصورته خلال زمن قياسي أن يقول: أنا انترنتي إذاً أنا موجود!!
إن اللحظة المتناهية المدة تلك التي تؤرخ لضغط الإصبع علىsend ، لا تقدَّر قيمةً في عائد متعتها ونشوتها!
ربما، ذلك هو الشعور بالانتماء إلى العالم: القرية العالمية والعالم بين يديه خارج الحدود التي تضيق عليه.
إنه البياض الذي يتقبل أي أثر عليه، وسرعة قابلية ٍهائلة في تلقّي ما يرِدُه من خلال أوامر معينة فقط، لا فرق إن كان الآمر صاحب وجاهة، أو كان مغموراً جدَّاً، رغم تعقد بنية الانترنت باعتباره شبكة بينية، أو شبكة شبكات كما هو معنى” الانترنت”، لكن الكردي هنا مأخوذ بهواه، وهو هوس له تاريخه الذي يشدد عليه، وقد أبان عما في نفسه كثيراً، بالسهولة التي يستغربها هو ذاته إزاء هذه الاستجابة، وبطرق شتى: إرسال مادة معينة، صورة، أو أن يتفسبك، أو يكون نزيل موقع، أو يكون له موقعه الخاص، وبريد الكتروني أو أكثر، وأن يعيش تواصلاً نتياً مع جهات شتى، تبعاً لنوعية مهارته الحركية واللغوية أو الثقافية، وكأني به في حضرة جنّي هو طوع أمره.
لكن الكردي هذا الذي يتباهى في غفلة من نفسه، أو وملء نفسه ثقة بما تحقَّق له، إذ يدرك في قراءة سريعة أن ما استوعبه في درسه الانترنتي وتأرشف انترنتياً في كتابة مشهود لها بالغزارة، يبزُّ كل ما عرفه من مدونات أو صنوف كتابات وصور في تاريخه الكردي، خلال أقل من عقد زمني، ربما، يجهل لعبة الانترنت وتلك القواعد التي تملي عليه شروطها، جهة المنشور وكيف يجري التصرف بها، على صعيد النوع” الكيف”، وانعكاس ذلك على ثقافة كاملة، وتربية الذات، والعلاقات القائمات، لأن الانترنت كما يعلمنا كومبيوتره ليس حيادياً هنا، إنما له عمله هو الآخر، كما أنه يتجاوز ثنائية السواد والبياض وسرعة الانتقال من حالة لأخرى وعطالتها!
ليس من مزايا البياض الانترنتي غير المستقر أو الكومبيوتر ببياضه هو الآخر، أن يلتزم بأي شيء يكتَب عليه، وعليه أن يعرف المتعامل الانترنتي أنه ليس في أمان مما يعد به نفسه، عندما يشعر براحة تغمره جسداً وروحاً.
ربما كان في تعامله مع البياض الذي يفرح كثيراً في سرعة الاستجابة، هو السرعة ذاتها التي قد تقلب الفرح مأساة، من خلال تعريض كل ما يكتبه أو يبذله من جهد للبقاء للتلاشي، وكأن شياً لم يكن.
لعل الكردي المندفع بكامل قوته في رحابة البياض، مفضّلاً إياه على البياض الورقي، يتجاهل خطورة اللعبة، كما هي خطورة نسيانه أنه خلاف ما يعتقد، أنه- ربما- عكس الآخرين، انطلاقاً من القاعدة المتعلقة بكل من السواد والبياض، إذ من السواد يأتي كل شيء، ليختفي في البياض، وبالنسبة للكردي الذي يشغله بياضه عن مأساته وما لا يتوقعه هو استسلامه للبياض، وكأن البياض هو الذي يحل محل السواد، ومنه يأتي كل شيء، ليختفي في لحظة مباغتة في السواد، وهو سواده الذي لا يفرج عن كربه الذي استغرق عليه سنين طوالاً، والاستغراق متجدد .
إن البياض الضوئي يعمق الشعور بالفاجعة، جهة هذا الخلط الكبير بين الكتابات، إلى درجة صعوبة التمييز بين أهل المعرفة بين كتابة وأخرى، إلى درجة الشعور بأن صداعاً يشمل الجسد كله، وكأن الرأس هو جسد كامل، وهو صداع يرتبط بداء الانترنت الذي يصيب من يكون القهر دافعه للتعامل معه، ليكون وراء هذا الكثير في الغث الذي يطرحه الانترنت ما يفجع ويفقع، وهو ليس من مسئوليته، إنما هو مجرد حامل أو ناقل، وتكون العودة إلى نقطة الصفر اعترافاً بأن الشعور بالفرح الطاغي صحبة البياض الممتد على مد النظر، ليس أكثر من وهم كبير، كوهْم الكردي أنه كغيره مقاماً من بين أقرانه أو خلانه أو أهله وجيرانه، أو كغيره ممن يسومونه عسفاً وقصفاً وتقريعاً بنظراتهم أو كلماتهم أو طريقة حركاتهم، وليكون الكومبيوتر الذي يظهر أنه يعِدُ بالكثير، كما هو ظنه الأول، يكون خلافه، وقد قلب فيه ظهر المجن، وواجهه بما يعانيه ويعنيه دون أن يتحرر من وطأته.
لعله الفرح بهذا الظهور على الملأ، وكله اعتقاد أن العالمية معدة له، وأنها ستشفع له بين بني جلدته، بقدر ما تزيده حماساً للمضي قدماً متزلج البياض بكامل جسده، دون أي شعور بالنتائج التي تترتب على وعي أحادي الاتجاه one way، وما يمكن أن يكون خارجاً، أو يكون عليه شعوره الفعلي- وهو ناقص الأوكسجين- إن توقف ملياً فيما يقوله أو يقوم به خارج العالم الانترنتي وموقعه الكردي فيه، ومن موقع التنافس مع الآخرين.
نعم، ثم نعم، ثم نعم، لا يمكن أن تخيط أفواه الناس، كما يقول المثل الشعبي الكردي الدارج والبليغ
tu nikare devê xelkê bidrû، لكن من الصعوبة والمؤلم بمكان أيضاً أن تكون في مرمى هذا الفم أو ذاك، وهو مفتوح وقد صار لسانه مقلاعاً يرشق مَن حوله بالحجارة، وهذا يذكرنا بحكاية العجوز التي تباهت بحفيدها الذي شارك غيره من الأولاد لعبهم، وهم يعيّرونه، لتقول: حمداً لله، لقد صار لي ولد أيضاً بين الأولاد..
هذا المشهد والذي قبله يلحَّان على الخلط الحاصل بين الحابل والنابل الكرديين انترنتياً مكايدةً أو عمى روح ٍ…
أتذكر هنا، أيضاً، القانون الاقتصادي الخطير الذي ينص على أن (العملة الرديئة تطرد الجيدة من السوق)، وهو قانون دقيق في الحالة التي يشهد المجتمع فيها تضخماً وانخفاضاً في القيمة الفعلية للعملة السائدة، إذ يبدأ تداول العملة ذات الفئات الصغيرة للتخلص منها، تأكيداً على استفحال أزمة (راهناً تطرح فئات نقدية في السوق وحتى في كوى قبض الرواتب، وهي صغيرة (فئة المائة أو المائتي ليرة)، وهي إشارة جرس إنذار وضرورة شد الحزام الاقتصادي، وما يجري من كثافة في حضور أسماء الكتبة وتزاحم العناوين وتداخلها، شهادة عيان على الجاري بابتذال، ليس من باب الطعن في وعي بعمر معين، وإنما ما يتعلق بنوعية الوعي ومسئولية الكلمة وأفق الرؤية في ذلك، وكأن ثمة إسهالاً مشهودٌ له بعفونة رائحته، كما تعلمنا بذلك بنية المنشور ومن ينشر اعتباطياً!
إنها لعملية حسابية سهلة جداً، تلك اللحظة التي تبرز أننا في أحسن حال ونحن نتلمس فرصة للتعبير عما نشكو منه، ونواجه من نعتقدهم أولي بأس وشأن متقدمين علينا من جبلتنا أو خلافهم، هي اللحظة التي قد لا تطول لتفصح عن وهم المعتقد، إلا بالنسبة للذين أعطوا الكلمة التي واظبوا على معايشتها وكتابتها بطرق شتى، القيمة التي لا تنقسم، لتكون حاملة قوة نفسية ومكاشفة لعالم، يكون فيه الكثير من الحشريين والمعتدّين بأنفسهم، وهم في مواقع متقدمة في مجتمع يختلط فيه أوله بآخره.
نعم، بمقدور آخرين- وهم قلة، والكرام قليل- أن يعيشوا روعة المكتشف ولذة روحية في كشف المزيف، والبياض الانترنتي هنا، يستجيب لهم، كما هو الاستثناء لكل قاعدة.
نعم، ليس كل ما يقذف في سوق الانترنت يبقى، كما هو مصير من يطويه النسيان وقد كان مضرب المثل هنا وهناك، بين ذوي الشأن.
البقاء للأكثر امتلاكَ بياض، وبيده رهان البقاء في حياة لها ميزة الأبدية المتوخَّاة….
ليس المهم ما تصنعه أو تقوله اليوم، المهم أولاً، ما سيكون عليه قولك أو أثر فعلك بعد حين محسوب من الدهر!