الأقليات والقوميات والمكونات بين التداخل والتباين ؟!

    افتتاحية دنكي كورد *

في الثامن والعشرين من شهر تشرين المنصرم, تلقينا دعوة باسم حزبنا, لحضور محاضرة في المركز الثقافي العربي بالحسكة, تحت عنوان ” الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات في سوريا ..”, للكاتب والباحث اللبناني ” الأستاذ كمال نادر ” وهو المسؤول الإعلامي في الحزب السوري القومي الاجتماعي, وقد كان حضورنا إلى قاعة المحاضرات بوفد من كوادر البارتي, وعدد من المثقفين الكرد, في الموعد المقرر, إذ غصت القاعة تماما بالمدعوين من مختلف الأحزاب والاتجاهات والهيئات العربية والكردية والأرمنية والسريانية والآثورية, والمستقلين, وحزب البعث ممثلا بالسيد أمين الفرع , وممثلي أحزاب الجبهة وجمهور من المواطنين من مختلف الشرائح والفئات, والفعاليات الاجتماعية..
والموضوع الذي طرقه الباحث الأستاذ كمال :(الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات) , موضوع بالغ الأهمية في سوريا ، كما أنه يعد في صلب اهتمامات و قناعات القوى والأطراف والهيئات الوطنية من مختلف الاتجاهات و الشرائح والاهتمامات، والتركيبات الاجتماعية والإثنية ، وفضاءاتها الرحبة القومية والدينية والليبرالية والديمقراطية , وبخاصة في هذه الأوقات الدقيقة..

كما أن حساسية و أهمية الموضوع يفترضان اهتماما خاصا ، مما جعل قاعة المركز الثقافي تعج بالحضور ، وهي قلما تقترب من مثل هذا الحشد الضخم الذي لازم القاعة حتى آخر لحظة ..

كما أنَ طرح الأقلية مع ربطها بالإشكال (مشكلة الأقليات ) , دفع الناس إلى التساؤل عن المعنيّ بالأقليات ، هل هي أقلية عددية ؟! أم أنها مقتلعة و مهاجرة و مجتثّة الجذور ؟! أم أن لها تصورا و مقياسا آخر ؟! ..

و المهم في الأمر أن الباحث المتمكن الذي أتقن فكر حزبه وتصوراته وقيمه ، ولازمها زمنا طويلا ، كما أنه أتقن مادة بحثه ، استطاع – ببراعة و إتقان –  أن يعرض وجهته وتصوره و آفاق موضوعه بمنهجية واضحة ، واطلاع جم ، وبلاغة وسلاسة تعبير ، لقضايا ومسائل هامة, تستوجب حلولا وطنية جادة و متجذرة مع أفق فكري, يتماهى مع التطلعات المنتظرة من أحرار الكتاب والمفكرين , بما يغني و يفعم الاتجاهات والنظم والقواعد الفكرية والأخلاقية التي شكلت (عطاء فكريا ثريا ) ، وزادا معرفيا واسعا في الأوساط السياسية و الثقافية و الأكاديمية … وهو ما حرك الموضوع في آفاقه غير المتوقعة في محيط المركز الثقافي وقاعته, التي ضمت مختلف النماذج و الفئات والقوى الفاعلة على الساحة العربية والكردية وسائر الشرائح والقوى والمكونات التي تمثل نموذجا مصغرا للواقع السياسي الحي في سوريا ولبنان ..


لقد طرح الباحث موضوعه بوصف الواقع القومي الاجتماعي لسوريا الطبيعية وما تضم من مكونات و أطياف ، تشكل الأساس الاجتماعي لمجموعة بشرية متجانسة ، متعاضدة ، لبناء قاعدة أساسية تقوم على الوحدة الوطنية كما يرى ، فقد رأى أن مفهوم (الأقلية ) لا مكان له في فكر حزبه وتراثه ،” فالمجموعة الاجتماعية التي تشكل التركيبة السورية هي كلٌٌّ متكامل ، ليس هناك من فارق بينها إلا أن تجمعها قوة عربية هي السائدة وهي التي تحدد الصيغة المعتمدة العليا”، حيث يصاغ مصطلح الجمهورية العربية السورية وفق هذا الاعتبار، دون إلغاء للمكونات الأخرى (كردية وسريانية وآثورية وأرمنية )على النطاق الأثني ، أو( مسلمة و مسيحية و مذاهب واتجاهات ) , بالتوازي مع التركيبة القومية السورية ، في خلط واضح بين ما هو مذهبي و إثني, مما يتنافى علميا مع الفهم السيسيولوجي للنسج والتركيبات الاجتماعية والأنتروبولوجية بيسر وبساطة , وبغير حاجة إلى برهان ( انظر ص18, بيان حول العرق, للباحث أشيلي مونتاجيو)، وهو فوق ذلك  يؤثر التكوينة السائدة “العربية “, ويعطيها الأفضلية غير المعللة إلا بقرار سياسي فوقي لا يخضع للاعتبارات التاريخية والقانونية وحقوق الإنسان والنصوص والتشريعات السماوية التي تسقط جميعا أي تفاضل بين الأسرة الإنسانية إلا بالتقوى والصلاح والتطور في مراقي المدنية والحضارة دون هدر لأي حق أو إلغاء لأي مزية مستحقة ( انظر المصدر المتقدم”بيان حول العرق , ص 19, وص165منه, والمادة 1و2, من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ,والمادة السادسة والعشرين من الدستور السوري حول حق المواطن في الحياة السياسية ومختلف جوانب الحياة على مبدأ تكافؤ الفرص وفق الفقرة 3, من المادة الخامسة والعشرين منه, وانظر الدراسة التفصيلية للنظم والمفاهيم والتصورات الأنتروبولوجية من كتاب الأنتروبولوجيا والتنمية د.

محمد صفوح الأخرس , ص”36-39”..) , واللافت للنظر أن الباحث يرفض المفهوم “القومي ” ، ويعتبر (المكون أو التكوين الاجتماعي ), هو المميز الوصفي لبقية الأجناس و الفئات التي تشكل “الواقع الاجتماعي ” لسوريا ..

مركزا في عرضه التفصيلي على طرح أي طموح قومي آخر من المعادلة ، إلا  الطموح القومي العربي دون تقديم أي تعليل علمي لذلك , إلا تعليلا يخطر ببال كل متابع أمين وهو الإسقاط السياسي ومنطق الأمر الواقع و اعتبار أي  توجه قومي آخر فكا للارتباط بالمحيط القومي للأمة, وخطرا على وحدتها الوطنية, تغليبا للاتجاه العروبي , وإيثاره على أية نزعة قومية أخرى, ولو كانت حاملا موضوعيا, أقّرّ به, وثبتته قوانين الحياة والشراكة في التركيبة المجتمعية , وهو أمر يبعث على الاستغراب فعلا, ويثير التساؤل حول هذا التميز وتلك الخصوصية النادرة, من منطلق علمي ومنهجي ؟! ..

مؤكدا على أن المفهوم القومي و تطلعاته و طموحاته سواء كان كرديا أم سريانيا أم آثوريا أم أرمنيا يعد بمثابة حرب على الوحدة الوطنية ، و توهين لشأنها ، و إبعاد لها عن أن تمارس الدور الموحد لهذه المكونات و الأطياف ؟!أي مسوغ علمي لهذا الإيثار؟! هل هو عددي , إن كان ذلك فالصين والهند تشكلان ثلث العالم ؟!, وعليه ينبغي أن يسودا البشرية ويقوداها, أم هو يقع ضمن اعتبار عرقي يقوم التفاضل والإيثار عليه لكون العنصر العربي مميزا على أساسه؟!, وعلى ذلك فالنظرية العرقية بإيثار العرق الآري جديرة أن تنال ثقة العلماء والدارسين، وهو ما دحضته حقائق العلم والتاريخ؟!, ولا أظن أن باحثا منصفا عربيا كان أم غير عربي يرضى بمثل هذه النظرية البائدة ,أم أننا نعتبر هذا التميز أصالة وجود , وعليه فالكرد من أعرق شعوب الأرض وأكثرها قدما وأصالة وجود؟!, أم أنه ادعاء آخر, يقنع بجدارة وعدالة هذا التميز الذي يتنافى مع العرض الإيجابي، الذي قدم له الباحث في مقدمته, وما التعليل العلمي والموضوعي لكل ذلك ؟؟! هذا ما دفع الحاضرين بالفعل إلى إدراك النظرة الإلغائية بأسلوب أكثر رصانة و ديبلوماسية من الإلغاء المباشر بل من الإنكار الكامل للكرد في سوريا , لغة وتاريخا وثقافة وبشكل مطلق  في الإعلام والإعداد والثقافة والتربية , بل إشعارهم بأنهم مهاجرون, جردت منهم جنسيتهم, وغير مرغوب فيهم في وطنهم, حتى تمارس بحقهم قوانين وإجراءات استثنائية من أبسطها جلب العرب من محافظتي الرقة وحلب , ومنحهم أراضي الكرد على طول الحزام العربي المحيط بهم حدوديا , إلى جانب حظر التملك والتصرف في العقارات والمباني وفق القانون الجديد رقم /49/ في المناطق الحدودية , التي تستهدف هذا الشعب بالدرجة الأولى وبشكل ميداني ومباشر كما خبرته الدوائر المختصة وما يدركه أبناء محافظة الحسكة خاصة مع تراكمات المرسوم/193/ وآثاره وتطبيقاته المباشرة, مما كان ينبغي أن يثيره الباحث وأن يقف على ظاهرة الإنكار والرفض والإلغاء وسائر مظاهر التمييز والتوجس والحذر من الاعتراف بالوجود الكردي ومقوماته ومستوجبات هذا الوجود دستوريا وقانونيا, مما يعد تجاوزه وعدم الإقرار به مخلا بأبسط مبادئ الشراكة التاريخية والجغرافية والكفاحية للكرد كثاني أكبر قومية في سوريا , وهو ما أغفله الباحث تماما ولم يقف على ملابساته الحياتية  والقانونية كمكون ينبغي التأكيد على تفاعله الوجودي , بعيدا عن اعتبارات الأرجحية غير المعللة علميا , والداعية إلى عملية صهر في البوتقة القومية السائدة , والمحكومة في هذه السيادة بعوامل تاريخية وحضارية ولغوية لها حديث آخر مفصل لاحقا؛ مما استدعى من الباحث جهدا مضنيا في أن يحاول إقناعنا بواقع مأساوي وبائس خدمة للوحدة الوطنية القائمة على هذه الأسس الإلغائية, في جهد لإخفاء النزعة العربية التي كانت السائدة على المحاضرة ، والتي تمثل الطموح القومي العربي السوري الأعلى و الأوسع ,… 
 
  … يتبع في العدد القادم

—–

* الجريدة المركزية للبارتي الديمقراطي الكردي – سوريا – العدد (331)

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…