بدرخان علي*
“إذا وقعت واقعة كبيرة لا تضحك ولا تبكِ، فقط فكّر” سبينوزا
من المفارقة أن تكون الحركة الكردية في سوريا في أزمة عميقة ومتعددة الأبعاد والمصادر، وتستحق دراسة و نقداً جدّياً بدون تحفظ، وفي الآن ذاته يكون النقد الموجه إليها غير صائبٍ في مجمله وغير منصفٍ أيضاً.
ومردّ هذا التخبط يعود لغلبة الطابع الإنشائيّ والارتجاليّ للكتابة السياسية الكردية (ومن خلفها الفكر السياسيّ الذي نقرّه مجازاً في الحالة الكردية) التي يطغى فيها المدح أو الهجاء أو التفجّع أو الصراخ والندب والنواح على صوت العقل والتحليل.
“إذا وقعت واقعة كبيرة لا تضحك ولا تبكِ، فقط فكّر” سبينوزا
من المفارقة أن تكون الحركة الكردية في سوريا في أزمة عميقة ومتعددة الأبعاد والمصادر، وتستحق دراسة و نقداً جدّياً بدون تحفظ، وفي الآن ذاته يكون النقد الموجه إليها غير صائبٍ في مجمله وغير منصفٍ أيضاً.
ومردّ هذا التخبط يعود لغلبة الطابع الإنشائيّ والارتجاليّ للكتابة السياسية الكردية (ومن خلفها الفكر السياسيّ الذي نقرّه مجازاً في الحالة الكردية) التي يطغى فيها المدح أو الهجاء أو التفجّع أو الصراخ والندب والنواح على صوت العقل والتحليل.
وجميعها لا علاقة لها بإنتاج وعيّ بالواقع كما هو عليه وابتداع منظورات نقدية عقلانية وممكنة.
لا سيما في الحالة المشخّصة التي نحن بصددها.
حيث الحركة الكردية، نظراً لعيوبها وتأخّرها، تحتمل جرعات عالية من النقد القاسي من داخلها وخارجها.
لكن لا يصحّ ، ولأنها ضعيفة، أن يُقال فيها ما هبّ ودبّ من قاموس التجريح والقذف والتسفيه ومن غير ضبطٍ أو إحكام.
هذا لو ضربنا صفحاً عن النوايا (وإن كانت الأعمال بالنيّات).
وكذلك لو تجاهلنا الخلفيات السياسية والحزبية والشخصية لأصحاب الهدم باسم النقد أو ما يُطرح من خيارات سياسية بديلة لا تستقيم و إدّعاء الحرص على القضية الكردية في سوريا ومستقبلها وموقعها الحسّاس على الخارطتين السورية والكردية على حدٍ سواء.
ليست حدّة النقد ونبرته الهجومية الغازية وحدها مؤشراً على ذلك إنما طابعه الدعائيّ المقنّع بإدعاءات كبيرة كالموضوعية وما شابهها كما أسلفنا.
وجهٌ ثانٍ لنقد الحركة يبرز أحياناً، ورواده من “المفكرين” الذين اكتشفوا وجود الحركة الكردية فجأة كمادة سهلة لـ”تطبيق المناهج” البنيوية و التفكيكية والحداثية وما بعد الحداثوية إلى آخر الإدّعاءات المجانية، ويتسمّ هذا النقد بأن يكون راديكالياً وثورياً تجاه الحركة بينما يكون لطيفاً وهادئاً تجاه السلطة السياسيّة أو يتناساها أحياناً (والنسيان نعمةٌ من عند ربّ العالمين، أما التناسي فهو حيلة العباد في ظروفٍ قاهرة)، ومن أبرز السمات الأخرى لهذا التيار النزعة الذاتويّة المَرَضيّة لأصحابه.
ومن باب التحليل السياسي والاجتماعي المتماثل أولاً، وكذلك الانسجام مع النفس ثانياً، يلزم العمل بسويّة واحدة للنقد تجاه المنقودين جميعاً باختلاف مواقعهم وأحكامنا القيميّة المبدئية، ونفضلّه هادئاً وتحليلياً وبلا مسبقات ولا إدّعاءات كبيرة.
فبإمكان المرء أن يكون موضوعياً ومنهجياً دون أن يذكّر القرّاء بخصاله الحميدة تلك في كل سطر أو سطرين.
وقد ذهب بعضٌ وجهة عنيفة واستئصالية بشأن الحركة الكردية وأزمة أحزابها.
كما يفعل زملاءٌ وأصدقاءٌ كتّاب، من جمعٍ لأقاويل متنافرة ومبعثرة، مُعظمها مُلقاة على قارعة الطرقات في “قامشلي” وسواها، من غير تنسيقٍ وتهذيب، وذلك لوجه المعرفة المحضة والنقد الموضوعيّ لا لشيء آخر، ليصنعوا منها تاريخاً بشعاً ومزوّراً.
ويخلصوا في النهاية (والبداية) إلى ضرورة إعدام الحركة الكردية لما اقترفته من آثامٍ وجرائم في حقّ الشعب الكردي.
الشعب الذي يظهر على الدوام، بحسب الرواية الموضوعية وغير المتحيزة أبداً ، كالمتفاجَئ بظهور تلك الحركة من بين ظهرانيه في غفلةٍ من الزمن أو وفق مؤامرة محبوكة في مكانٍ مجهول.
إنها دأب القراءة المغرضة المستغنية عن معاينة الواقع و الوقائع المجتمعيّة وحركيتها المرئية واللامرئية، مهما تدثّرت برداء الموضوعية وهي لا تقوى على إخفاء مراميها الحقيقية الأقل من الموضوعية والحيادية بكثير.
ذاك أن مسيرة نصف قرن لا تختزل في الانشقاقات والمؤامرات وأهواء ونزوات القادة الذين أُسبغ عليهم صفاتٍ شيطانيّة شنيعة.
وأُظهروا كلييّ القدرة في التخريب.
ولا أظنّ أن الإكثار من الأوصاف السيئة والمسيئة ورصفها يعني أننا قبضنا على الشيطان من تلابيبه، وفتح آفاق حقيقية للولوج إلى أزمة الحركة الكردية أو يزيد الباحث عن مكامن الخلل قدرة في الاستقراء والخلوص إلى مقترحات مفيدة بصدد المشكلة الكردية.
قد يمكن إيراد سلسلة عيوب ومثالب لقادة هذه الحركة.
من ضعف النفوس لدى بعضهم وقصر النظر وسوء التقدير وأوهام الزعامة الفقيرة لدى كثيرين و قلّة الحيلة لدى جميعهم تجاه معطيات الواقع الكردي السوري الموضوعية.
غير أننا نرى الأمر أبعد من ذلك.
والمشكلة أعمق من إرادة قيادات هنا وهناك حتى لو سلّمنا جدلاً بنوايا هؤلاء القادة في تخريب الحركة عن سابق إصرار وتصميم!كما يذهب “النقاد” الجدد أو الشعبويين القدامى والجدد.
ذاك أن الابتداء بالهدم والشطب منطلقاً للنقد لن يجدي نفعاً ولا فتوحاتٍ على سبيل اجتراح مخارج واقعية وممكنة للأزمة المستفحلة.
بيد أنّ الأمراض تلك، أمراض الحركة والسياسيين والمثقفين، أعراض لأزمة تطور المجتمع نفسه وقد لازمته بحميميّة لا يمكن تبرئة المجتمع منها بأيّ حال من الأحوال.
فلم تهبط تلك القيم على مجتمع سويّ ومندمج ومكتمل إن في مجاله الاجتماعيّ المهشّم أو طابع علاقاته الاجتماعية-الاقتصادية المتأخّرة أو في ضعف التراكم الثقافيّ وقلّة الخبرة بالسياسّة المدنية.
الأمر الذي يضعف من حيلة تجاوز العتبة التاريخية التي احتُجِز فيها الأكراد والتي لا نراها بمثابة قدرٍ أو عاهة دائمة بالتأكيد.
وفي السياق نفسه يمكن أن نصف الوجود القوميّ الكرديّ في سوريا بالمجتمع المنقوص و المتقطع والمستقطع، لو استندنا إلى حقائق استواء هذا المجتمع كأقلية إثنية-قومية في البلاد متوزعة على ثلاث مناطق منفصلة جغرافياً ومتمايزة اجتماعياً بدرجات متفاوتة، وليست كردية صرفة.
وكان هذا الاستقطاع الجغرافيّ والديمغرافي للمناطق ذات الأغلبية الكردية على الشريط الحدودي (السوري- التركي) عن مراكزه الحيوية والحياتيّة والاجتماعيّة، الواقعة في تركيا بعد ارتسام الحدود بصورة نهائية بين سوريا وتركيا، كان هذا الاستقطاع أشبه بفطامٍ قاسٍ وظالم لن يصدّقه الوليد بسرعة ولا يعرف كيف ينقلب انتماءه بهذه السهولة أو كيف يتآلف مع هذه الحقيقة الصّعبة.
وهذه ليست نقيصة ولا تعني عائقاً أمام ضرورة طلب وإحراز حقوق إنسانية ومواطنية وجماعية عادلة ومشروعة.
وفي هذه النقطة تحديداً ينبغي الاكتراث جدّياً لدور الحركة الكردية في توحيد المناطق المنفصلة والمتباعدة تلك (الجزيرة-عفرين-كوباني) خلف مطالبٍ سياسية مشتركة وبالتالي بثّ ثقافة سياسية “كردية سورية” في أوساط الكرد في سوريا والحدّ من تشتت الجهود الكردية بين أقاليم مختلفة أو تجذّر نزعات مناطقية، في المجال السياسي على الأقل، بينما سوية الوعي الاجتماعيّ مؤهلّة لانتماءات ضيقة عديدة لا تخطئها عين المراقب.
وهنا نرى للحركة الكردية دوراً تثقيفياً تعبوياً وسياسياً بالوقت ذاته.
ولم تنشط الحركة الثقافية الكردية في سوريا،الفقيرة بدورها، لا سيما “الثقافة القومية” وتعليم وتعلّم اللغة الأم، إلا من داخل الحركة نفسها أو على ضفافها.
ولا يمكن أن ننسى في ذلك دور الرعيل الكردي الأول، النهضوي قياساً لزمنه وبيئته، وكذلك في نشر الثقافة الحديثة، وإن بطابعٍ تبشيريّ محضّ، كالحضّ على التحصيل العلميّ والوقوف على الأمراض الاجتماعية الكابحة للنهوض والتطور ونشر ثقافة المساواة بين الشعوب والأفراد وتحرير المرأة.
وليست هذه بنوافل السياسة أو يجب ألا تكون كذلك بنظر المثقف.
لأن المجتمعات المهمّشة والمحرومة من مؤسسات وتنمية حقيقية، و من أية مدن تاريخية و تطور مديني وتراكم ثقافي وفكري وعلاقات اجتماعية حاضنة لذلك، لا تنجو من تلقاء نفسها من نزعات التطرف والتعصب القومي أو الديني ولا يمكن أن تتمتع بالحيوية السياسية العالية والتسييس النشِط البارز على نحو مثابر و غير عنفيّ ومُسالم.
وينبغي أن يسجّل للدينامية السياسية الكردية، على علاّتها، دوراً أكيداً في ذلك إلى جانب عوامل عديدة أخرى.
كما ويستحيل قراءة الواقع الكردي في سوريا من دون التنبّه الشديد لموقع المشكلة الكردية على صعيد الخارطة السورية وحجمها المتواضع، لا عدالتها بالطبع، بالمقارنة مع شقيقاتها في تركيا والعراق وإيران، وإعمال السياسات المتعاقبة، منذ نصف قرن تقريباً، تهميشاً وإقصاءً في الجماعة الكردية (والسورية بأكملها).
وكذلك ما نعتبره حقيقة موضوعية، أبعدَ من النظام الحاكم والسياسات المعمولة وغير قابلة للتغيير بالشعارات والهتافات والمظاهرات،من حيث هامشية الضغط السياسيّ الكرديّ على المركز بسبب ذات الموقع، لا بسبب ضعف الحركة هذه المرة.
وكذلك الارتباط المكين للمشكلة الكردية بمجمل الوضع العام في البلاد ووجهته وتطور النظام السياسي والدستوري والمجتمعي وذلك أكثر بما لا يقارن بالنسبة لأكراد تركيا والعراق وإيران.
هذا ما يحدّ من الرهان على الحركة الكردية بمفردها،الصحيحة والمُعافاة بالطبع، للقيام بدور تغييريّ حازم في هذا المضمار.
وللسبب ذاته لا أوهام لديّ ولا هواجس انتظار لقائدٍ مقدام ومغوار أو حزبٍ ثوريّ يحقّق اختراقاً في هذا المجال.
وحسناً فعلت الحركة الكردية، وإن بسبب ضعفها، عندما تجنبت توريط الأكراد في سياسات تجريبية ومُغامرة تعود بكلفتها على عموم الأكراد كلّهم لا الأحزاب وحدها، سواء توصل السياسيون الكرد إلى هذه القناعة وأقرّوا بذلك أم لم يفعلوا.
الوضع الكردي في سوريا لا يحتمل مغامرات! (بالعذر من الثوريين القُدامى والجدد).
ويجب ألا نمل ّمن تكرار القول بعدم جواز إسقاط تجارب كردية أخرى في العراق أو تركيا أو إيران (بافتراضها خياراً ناجعاً و مثالاً ناصعاً هناك) على واقع الكرد في سوريا ومطالبة الحركة الكردية بالحذو حذوها.
وكمْ كانت المقارنة هذه ظالمة ومجحفة بحقّها، استُسهلت لدرجة الابتذال، وعايرت الحركة في عدم ثوريتها و”إصلاحيتها”، وقد كابدت الحركة جراء ذلك تُهماً وتسفيهاً من جهات متعددة الخلفيات.
وبات يُنظر إليها باستصغار شديد بسببٍ من المقارنة إياها.
وقد صار بحكم الثابت في الثقافة الشعبية أن النضال السياسيّ السلميّ المتدرّج والتراكميّ لا يستحق الانشغال والتضحية والصبر والجَلَد بخلاف الكفاح المسلّح، الذي قد يكون لوحده سبباً كافياً لخلع المشروعيّة على الحركات الكردية في الأقاليم المجاورة، والذي طالما نُظر إليه على أنه الشكل الوحيد الذي يمنح نضالنا، بل وحياتنا أيضاً، معنىً ومغزىً، فضلاً عن كونه الوسيلة “المضمونة” لتحقيق الأهداف دفعة واحدة! وسيعمل خيار العمل السياسيّ السلميّ المُنتهج على إضعاف الاستجابة الشعبية التلقائيّة التي تحوزها الحركات المسلّحة انطلاقاً من المقارنة ذاتها لا سيما وأن مساهمة السياسيين الكرد ضعيفة بجلاء في الجانب التثقيفي وبسببٍ من تراجع البنية التنظيمية للأحزاب نفسها على وقع التآكل الذاتيّ المتتالي والمُتسارع وثقل السياسات السلطوية الجائرة الدافعة إلى اليأس والإحباط.
ما سيؤدي إلى إضعاف الخيار السياسي نفسه.
وسيغدو من الصعب تبديد التصورات الشعبية الخاطئة والقارّة في اللاوعي، وغير المصرّحة بها دائماً، فيما يخصّ بُطلان جدوى ومردودية العمل السياسي والعودة إلى النموذج النضالي المعياريّ “الخَلاصي”.
المشكلة الكردية هي واحدةٌ من بين مشكلات داخلية عديدة مزمنة و مرشحة لأن تأخذ طابعاً انفجارياً كما حدث ذلك غير مرة.
بل هي الحلقة الأضعف في أزمة الدولة والمجتمع في المدى المنظور، وإن بَدَت لنا أم المسائل في سوريا.
ومن هنا جدل “العام” السوري و”الخاص” الكردي ولا تصوّر لدينا أن تتقدم أية من ملفات المشكلة الكردية باتجاه الحل ، الجزئيّ حتى لكن الرّاسخ، من غير تحوّلات ديمقراطية عميقة في بنية النظام السياسيّ والثقافة المجتمعيّة السائدة أي ديمقراطيةٍ سياسية واجتماعيّة وتنميّة بشرية مُستدامة وحكمٍ صالح بالآن ذاته.
كما ليس “حتميّة تاريخيّة” أن يصدُق القانون اللينيني الشهير في “الحلقة الأضعف” عندنا أيضاً (كما في انتقال روسيا إلى الشيوعية وقد كانت الحلقة الأضعف في النظام الرأسمالي العالمي مقارنة بمراكز صناعية رأسمالية متطورة كان من “المفروض” أن تقلع نحو الشيوعية قبل غيرها…).
أعني أن تكون حلول المشكلة الكردية، الجزئية أيضاً، مفتاح التحوّل الديمقراطي في سوريا كما يردّد متفائلون كرد وعرب.
هذا قولٌ في التمنيّ والرغبات لا السياسة والدولة والاجتماع السوري.
وزادَ بعضنا عليه أن الحراك السياسي الكردي هو الرهان الحاسم للتحويل الديمقراطي نفسه، وهو لا يعدو كونه عنصراً متواضعاً في “العملية السياسية” وبشيءٍ من التردد والارتباك الواضحين، وإنْ صحّ القول بكون النظرة الديمقراطية العادلة للحقوق الكردية اختباراً صعباً لديمقراطية التيارات والنخب السياسية والثقافية العربية وكذلك مشروعية المطالب الكردية العادلة المرتكزة على وجود جماعة قومية ثانية في البلاد يترتب عليه حقوق جماعية وفردية، وهو المبرر الأساس لوجود حركة سياسية كردية في سوريا.
ولـ”سوء الحظ” إن الحلقة الأضعف هذه هي نفسها الحلقة الأضعف في الوضع الكردي الإقليمي (الكردستاني).
هي طرف هناك أيضاً وهامش وملحق ….فما العمل؟
وهنا جوهر الخلاف الأساسي مع القراءات السطحية لمسيرة نصف قرن من الحركة الكردية في سوريا.
القراءات التي لا تقوى على النفاذ إلى البُنى الاجتماعية المولّدة للسياسة والثقافة ليس لأنها “بنية تحتية” وحسب بل لأن الحس العقليّ السليم يوجب على الناقد والمثقف السويّ أن يتأمل في أزمة الحركة الكردية المديدة، بما هي أزمة مجتمع وطبقات وسياسة وتنمية واقتصاد ونخب وفعاليات ثقافية.
فليس المجتمع الكردي السوري بالعقيم من حيث قدرة إنجاب قائدٍ “بطل وشجاع” وقد تعاقب على قيادة الحركة المئات، على مدار أربعة أجيال، من أبناء هذا المجتمع نفسه.
لو كان الأمر بهذه السهولة لكنّا بألف خير وكانت المشكلة قد حلّت أو قاب قوسين أو أدنى من الحل.
والواقع أن الساحة الكردية السورية شهدت، غير مرة، أصوات تنبئ وتبشّر بطريق سهلة لحل المشكلة الكردية ألا وهو مجرد “التفاف الجماهير”(والأحزاب الأخرى)حول “النهج الجديد” والتصدي بـ”قوة وحزم” للنظام و”الشجاعة” في المواقف وبذل التضحيات؟ هكذا جرى، و يجري، اختزال الأمر إلى مسألة شجاعة وجرأة ورجولة وفحولة كما لو أننا في حلبة ملاكمة أو مصارعة ثيران والغَلَبَة للعضلات؟
كما ليس يكفي قراءة أزمة الحركة الكردية من زاوية عدم إحرازها لنتائج مادية “ملموسة” لصالح الكرد والحقوق القومية.
هذا منطلقٌ آخر، خاطئٌ بدوره، ويبدأ منه الناظرين من بعيد أو علٍ إلى الشأن الكردي في سوريا ويهمل ما لا يمكن إهماله.
لكونها -أي القراءة الحسيّة تلك- لا تعترف إلا بالنتائج المحسوسة والنهايات السعيدة و…..تأسيس الدول وتنصيب الزعماء ورفع الأعلام.
كما ويجدر في هذا الصدد الاعتراف بدور الحركة الكردية التي صاغت خطاباً مطلبياً متوازناً خلافاً لصورتها التنظيمية المشتّتة والمشوّهة.
ولا يُعقل أن نرمي الطفل مع غسيله الوسخ، كما يُقال، أي النيل من خطاب الحركة الكردية، الموضوعيّ والواقعيّ في توجهّه العام بسبب واقع تنظيماتها الرديء.
(بدون الدخول في تفاصيل هذا الخطاب السياسي (والثقافي) وهشاشته الفكرية والنظرية وهي سمة “الفكر” القومي الكردي بعامة، قُل التفكير الكردي في تسطّحه الفاقع.
ولولا أن مصطلح العقل الكردي، كما العقل الإسلامي أو العربي أو الشرقي أو الغربي أو اليوناني …، مكروه وخاطئ علمياً لكنّا جازفنا بإطلاق أوصاف نمطية عن شيء مماثل لـ”العقل الكردي”.
يستحسن أن نتحدث عن انسداد آفاق التفكير في البيئة الاجتماعية الكردية ومراوحته في مرحلة الإنشاء والشعر الغنائي حتى لو لم ينظّم شعراً….
حتّى إشعارٍ آخر.
وهذا حديثٌ يطول..).
وما يغفل عنه (الكَتَبَة) من مؤدّى ومحصلة هذا الترابط بين الاستغناء عن دور الحركة ورميها بالعقوق على النحو المشار إليه، الذي سيعني رمي خطابها بالفساد والبُطلان، وما سيعني ذلك من تعبيد الطريق أمام النزعات الغريزية كي تقود الأكراد (إلى أين؟).
ولو كان النقاد منسجمين مع أنفسهم ، حتى النهاية، لما اعتبروا حالَ الحركة الكردية، الباعث على التأمل والتفكّر وقليلٍ أو كثيرٍ من الغضب، مادة للتندّر والضحك وإدعاء العنتريات بدل تسجيل مواقف موزونة ومتناسقة في وجه السلطة أو على الأقل-كما يقول إدوارد سعيد- “قول الحق في وجه السلطة”.ونقول أية سلطة كانت :حاكمة أو معارضة أو سلطة الوجاهة أو سلطة الثقافة أو المال أو الأنا أو النفس الأمّارة بالسوء….لكن المثقف الكردي يختار سلطة الحركة الكردية وحسب.
الحركة الكردية هي السلطة الوحيدة التي يستطيع الكَتَبة معارضتها بـ”جرأة” لافتة.أية جرأة يدّعيها هؤلاء؟ “ثوّار على مين”؟ (بالاستعارة من “عسكر على مين”).
ليس لدى الحركة سجون ولا أجهزة أمن و لا عَسس ولا رواتب تقطعها لمن تشاء وتحرم منها من تشاء.
فطوبى لمعارضة الحركة هذه الجرأة الفائقة وليتابع الكتَبَة هوايتهم الممتعة والمسليّة؟ لعلّها تشبع رغبة شطرٍ كبير من المثقفين الكرد في نسبِ أدوارٍ تاريخية وفكرية عظيمة لأنفسهم وإشباع نزعة السّادية لديهم وانتحال شخصية نضالية من أزمنةٍ أو أمكنة أخرى..
.
وهنيئاً للمحرومين من حقّ المعارضة في وجه السلطة الجائرة اكتشافهم لخصمٍ سهل وضعيف وقليل الحيلة؟ هم معذورون إذاً.
خلافاً لما يروجه غُلاة النقاد، من قبيل التمثليّة الجماعية القومية وتمثيل “روح الأمة”، عن الافتراق بين تقدّم المجتمع المزعوم وثوريته وتخلّف الحركة وتخاذلها يبدو لي هذا الكلام ممجوجاً و شعبوياً للغاية.
ويدفعني للقول بأن الحركة الكردية دون مجازفةٍ كبيرة، وفي الشروط السياسية والاجتماعية والثقافية المشخّصة، صورة مطابقة عن مجتمعها إن لم تكن متقدمة بقليل!.
ولا أظنّ أن الشعبويين يقبلون بوصم “الجماهير” بصفاتٍ غير لائقة.
والعقلانيون بدورهم يجب ألا يفعلوا ذلك لأسباب منطقية وعقلانية ودوافع مغايرة، غير تلك التي لدى الشعبويين، حيث المجتمعات لا تولد متخلِّفة وقاصرة وبالتأكيد أنها لا تبقى كذلك إلى الأبد.
وهذا ما يقتضي تضافر جهود ضخمة ثقافية وفكرية إلى جانب العمل السياسي المباشر لتحسين أحوال البشر الملموسة المعيشية والاجتماعية والاقتصادية والمعنوية.
تدللّ التجربة بوضوح وجلاء، لمن يهمّه الأمر ويريد أن يرى، أن هناك مساراً موضوعياً للحركة الكردية، يفرض نفسه يوماً بعد يوم بقوّة المنطق ومُحاكاة الواقع، يتمثّل في القدرة على التوفيق الدقيق بين الإمكانات الذاتيّة للمجتمع الكردي والحقائق الموضوعية-غير الذاتية- للدولة والمجتمع في سوريا.
وواضح أن هناك من التقط –دون غيره- هذه العلاقة الجدلية بين السياسة والواقع، بين الشعار والممارسة، كما أدرك الفرق بين الجدوى والعبثية،بين الارتجال وبعد النظر والحسابات الدقيقة..
والأهم من كل هذا، عدم الاتكاء على العاطفة والمشاعر منطلقاً أساسياً لرسم البرامج السياسية وإطلاق الشعارات الحماسيّة من غير حساب.
الشعبويون وحدهم يفخرون بذلك، رغم قابليتهم للتحوّل إلى المقلب الآخر أي العَدَميّة السياسية و إهانة “جماهيرهم” في لحظةٍ انفعالية ما( إنْ لم يستجب التاريخ لرغباتهم!) بُحكم التكوين السياسي والفكري الركيك لهذه “الجماهير” أو بسبب انتهازية كثيرين من ممثليهم والناطقين باسمهم.
لا نرى بديلاً لهذه الحركة غير نسخٍ متطورة ومطوّرة عن الحركة نفسها.
ونقولها بقدرٍ قليلٍ من المحافظة وكثيرٍ من التواضع لكن دونما شعبوية وتناقض وفوضوية على ما نزعم.
وليس لمنصفٍ وعاقل أن يزدري هذه الأداة التي تعكس حصيلة نصف قرن وأكثر من العمل السياسيّ المنظّم ومرآة عاكسة لأحوال مجتمعنا و”نخبته” السياسية والثقافية، ليس لوضعها في متحف التاريخ، بل لأنها بالآن ذاته خبرة متراكمة تصلح خميرة لإقلاع عملية الإصلاح التنظيميّ والسياسيّ ورصيداً معنوياً ممتازاً لطورٍ جديد من الفعالية السياسية الواعية والمتزنة والاضطلاع بدور المحرك والفاعل الأساسي في حياة الجماعة الكردية وتمثيلها بثقة وجدارة على صورة لائقة.
لا سيما في الحالة المشخّصة التي نحن بصددها.
حيث الحركة الكردية، نظراً لعيوبها وتأخّرها، تحتمل جرعات عالية من النقد القاسي من داخلها وخارجها.
لكن لا يصحّ ، ولأنها ضعيفة، أن يُقال فيها ما هبّ ودبّ من قاموس التجريح والقذف والتسفيه ومن غير ضبطٍ أو إحكام.
هذا لو ضربنا صفحاً عن النوايا (وإن كانت الأعمال بالنيّات).
وكذلك لو تجاهلنا الخلفيات السياسية والحزبية والشخصية لأصحاب الهدم باسم النقد أو ما يُطرح من خيارات سياسية بديلة لا تستقيم و إدّعاء الحرص على القضية الكردية في سوريا ومستقبلها وموقعها الحسّاس على الخارطتين السورية والكردية على حدٍ سواء.
ليست حدّة النقد ونبرته الهجومية الغازية وحدها مؤشراً على ذلك إنما طابعه الدعائيّ المقنّع بإدعاءات كبيرة كالموضوعية وما شابهها كما أسلفنا.
وجهٌ ثانٍ لنقد الحركة يبرز أحياناً، ورواده من “المفكرين” الذين اكتشفوا وجود الحركة الكردية فجأة كمادة سهلة لـ”تطبيق المناهج” البنيوية و التفكيكية والحداثية وما بعد الحداثوية إلى آخر الإدّعاءات المجانية، ويتسمّ هذا النقد بأن يكون راديكالياً وثورياً تجاه الحركة بينما يكون لطيفاً وهادئاً تجاه السلطة السياسيّة أو يتناساها أحياناً (والنسيان نعمةٌ من عند ربّ العالمين، أما التناسي فهو حيلة العباد في ظروفٍ قاهرة)، ومن أبرز السمات الأخرى لهذا التيار النزعة الذاتويّة المَرَضيّة لأصحابه.
ومن باب التحليل السياسي والاجتماعي المتماثل أولاً، وكذلك الانسجام مع النفس ثانياً، يلزم العمل بسويّة واحدة للنقد تجاه المنقودين جميعاً باختلاف مواقعهم وأحكامنا القيميّة المبدئية، ونفضلّه هادئاً وتحليلياً وبلا مسبقات ولا إدّعاءات كبيرة.
فبإمكان المرء أن يكون موضوعياً ومنهجياً دون أن يذكّر القرّاء بخصاله الحميدة تلك في كل سطر أو سطرين.
وقد ذهب بعضٌ وجهة عنيفة واستئصالية بشأن الحركة الكردية وأزمة أحزابها.
كما يفعل زملاءٌ وأصدقاءٌ كتّاب، من جمعٍ لأقاويل متنافرة ومبعثرة، مُعظمها مُلقاة على قارعة الطرقات في “قامشلي” وسواها، من غير تنسيقٍ وتهذيب، وذلك لوجه المعرفة المحضة والنقد الموضوعيّ لا لشيء آخر، ليصنعوا منها تاريخاً بشعاً ومزوّراً.
ويخلصوا في النهاية (والبداية) إلى ضرورة إعدام الحركة الكردية لما اقترفته من آثامٍ وجرائم في حقّ الشعب الكردي.
الشعب الذي يظهر على الدوام، بحسب الرواية الموضوعية وغير المتحيزة أبداً ، كالمتفاجَئ بظهور تلك الحركة من بين ظهرانيه في غفلةٍ من الزمن أو وفق مؤامرة محبوكة في مكانٍ مجهول.
إنها دأب القراءة المغرضة المستغنية عن معاينة الواقع و الوقائع المجتمعيّة وحركيتها المرئية واللامرئية، مهما تدثّرت برداء الموضوعية وهي لا تقوى على إخفاء مراميها الحقيقية الأقل من الموضوعية والحيادية بكثير.
ذاك أن مسيرة نصف قرن لا تختزل في الانشقاقات والمؤامرات وأهواء ونزوات القادة الذين أُسبغ عليهم صفاتٍ شيطانيّة شنيعة.
وأُظهروا كلييّ القدرة في التخريب.
ولا أظنّ أن الإكثار من الأوصاف السيئة والمسيئة ورصفها يعني أننا قبضنا على الشيطان من تلابيبه، وفتح آفاق حقيقية للولوج إلى أزمة الحركة الكردية أو يزيد الباحث عن مكامن الخلل قدرة في الاستقراء والخلوص إلى مقترحات مفيدة بصدد المشكلة الكردية.
قد يمكن إيراد سلسلة عيوب ومثالب لقادة هذه الحركة.
من ضعف النفوس لدى بعضهم وقصر النظر وسوء التقدير وأوهام الزعامة الفقيرة لدى كثيرين و قلّة الحيلة لدى جميعهم تجاه معطيات الواقع الكردي السوري الموضوعية.
غير أننا نرى الأمر أبعد من ذلك.
والمشكلة أعمق من إرادة قيادات هنا وهناك حتى لو سلّمنا جدلاً بنوايا هؤلاء القادة في تخريب الحركة عن سابق إصرار وتصميم!كما يذهب “النقاد” الجدد أو الشعبويين القدامى والجدد.
ذاك أن الابتداء بالهدم والشطب منطلقاً للنقد لن يجدي نفعاً ولا فتوحاتٍ على سبيل اجتراح مخارج واقعية وممكنة للأزمة المستفحلة.
بيد أنّ الأمراض تلك، أمراض الحركة والسياسيين والمثقفين، أعراض لأزمة تطور المجتمع نفسه وقد لازمته بحميميّة لا يمكن تبرئة المجتمع منها بأيّ حال من الأحوال.
فلم تهبط تلك القيم على مجتمع سويّ ومندمج ومكتمل إن في مجاله الاجتماعيّ المهشّم أو طابع علاقاته الاجتماعية-الاقتصادية المتأخّرة أو في ضعف التراكم الثقافيّ وقلّة الخبرة بالسياسّة المدنية.
الأمر الذي يضعف من حيلة تجاوز العتبة التاريخية التي احتُجِز فيها الأكراد والتي لا نراها بمثابة قدرٍ أو عاهة دائمة بالتأكيد.
وفي السياق نفسه يمكن أن نصف الوجود القوميّ الكرديّ في سوريا بالمجتمع المنقوص و المتقطع والمستقطع، لو استندنا إلى حقائق استواء هذا المجتمع كأقلية إثنية-قومية في البلاد متوزعة على ثلاث مناطق منفصلة جغرافياً ومتمايزة اجتماعياً بدرجات متفاوتة، وليست كردية صرفة.
وكان هذا الاستقطاع الجغرافيّ والديمغرافي للمناطق ذات الأغلبية الكردية على الشريط الحدودي (السوري- التركي) عن مراكزه الحيوية والحياتيّة والاجتماعيّة، الواقعة في تركيا بعد ارتسام الحدود بصورة نهائية بين سوريا وتركيا، كان هذا الاستقطاع أشبه بفطامٍ قاسٍ وظالم لن يصدّقه الوليد بسرعة ولا يعرف كيف ينقلب انتماءه بهذه السهولة أو كيف يتآلف مع هذه الحقيقة الصّعبة.
وهذه ليست نقيصة ولا تعني عائقاً أمام ضرورة طلب وإحراز حقوق إنسانية ومواطنية وجماعية عادلة ومشروعة.
وفي هذه النقطة تحديداً ينبغي الاكتراث جدّياً لدور الحركة الكردية في توحيد المناطق المنفصلة والمتباعدة تلك (الجزيرة-عفرين-كوباني) خلف مطالبٍ سياسية مشتركة وبالتالي بثّ ثقافة سياسية “كردية سورية” في أوساط الكرد في سوريا والحدّ من تشتت الجهود الكردية بين أقاليم مختلفة أو تجذّر نزعات مناطقية، في المجال السياسي على الأقل، بينما سوية الوعي الاجتماعيّ مؤهلّة لانتماءات ضيقة عديدة لا تخطئها عين المراقب.
وهنا نرى للحركة الكردية دوراً تثقيفياً تعبوياً وسياسياً بالوقت ذاته.
ولم تنشط الحركة الثقافية الكردية في سوريا،الفقيرة بدورها، لا سيما “الثقافة القومية” وتعليم وتعلّم اللغة الأم، إلا من داخل الحركة نفسها أو على ضفافها.
ولا يمكن أن ننسى في ذلك دور الرعيل الكردي الأول، النهضوي قياساً لزمنه وبيئته، وكذلك في نشر الثقافة الحديثة، وإن بطابعٍ تبشيريّ محضّ، كالحضّ على التحصيل العلميّ والوقوف على الأمراض الاجتماعية الكابحة للنهوض والتطور ونشر ثقافة المساواة بين الشعوب والأفراد وتحرير المرأة.
وليست هذه بنوافل السياسة أو يجب ألا تكون كذلك بنظر المثقف.
لأن المجتمعات المهمّشة والمحرومة من مؤسسات وتنمية حقيقية، و من أية مدن تاريخية و تطور مديني وتراكم ثقافي وفكري وعلاقات اجتماعية حاضنة لذلك، لا تنجو من تلقاء نفسها من نزعات التطرف والتعصب القومي أو الديني ولا يمكن أن تتمتع بالحيوية السياسية العالية والتسييس النشِط البارز على نحو مثابر و غير عنفيّ ومُسالم.
وينبغي أن يسجّل للدينامية السياسية الكردية، على علاّتها، دوراً أكيداً في ذلك إلى جانب عوامل عديدة أخرى.
كما ويستحيل قراءة الواقع الكردي في سوريا من دون التنبّه الشديد لموقع المشكلة الكردية على صعيد الخارطة السورية وحجمها المتواضع، لا عدالتها بالطبع، بالمقارنة مع شقيقاتها في تركيا والعراق وإيران، وإعمال السياسات المتعاقبة، منذ نصف قرن تقريباً، تهميشاً وإقصاءً في الجماعة الكردية (والسورية بأكملها).
وكذلك ما نعتبره حقيقة موضوعية، أبعدَ من النظام الحاكم والسياسات المعمولة وغير قابلة للتغيير بالشعارات والهتافات والمظاهرات،من حيث هامشية الضغط السياسيّ الكرديّ على المركز بسبب ذات الموقع، لا بسبب ضعف الحركة هذه المرة.
وكذلك الارتباط المكين للمشكلة الكردية بمجمل الوضع العام في البلاد ووجهته وتطور النظام السياسي والدستوري والمجتمعي وذلك أكثر بما لا يقارن بالنسبة لأكراد تركيا والعراق وإيران.
هذا ما يحدّ من الرهان على الحركة الكردية بمفردها،الصحيحة والمُعافاة بالطبع، للقيام بدور تغييريّ حازم في هذا المضمار.
وللسبب ذاته لا أوهام لديّ ولا هواجس انتظار لقائدٍ مقدام ومغوار أو حزبٍ ثوريّ يحقّق اختراقاً في هذا المجال.
وحسناً فعلت الحركة الكردية، وإن بسبب ضعفها، عندما تجنبت توريط الأكراد في سياسات تجريبية ومُغامرة تعود بكلفتها على عموم الأكراد كلّهم لا الأحزاب وحدها، سواء توصل السياسيون الكرد إلى هذه القناعة وأقرّوا بذلك أم لم يفعلوا.
الوضع الكردي في سوريا لا يحتمل مغامرات! (بالعذر من الثوريين القُدامى والجدد).
ويجب ألا نمل ّمن تكرار القول بعدم جواز إسقاط تجارب كردية أخرى في العراق أو تركيا أو إيران (بافتراضها خياراً ناجعاً و مثالاً ناصعاً هناك) على واقع الكرد في سوريا ومطالبة الحركة الكردية بالحذو حذوها.
وكمْ كانت المقارنة هذه ظالمة ومجحفة بحقّها، استُسهلت لدرجة الابتذال، وعايرت الحركة في عدم ثوريتها و”إصلاحيتها”، وقد كابدت الحركة جراء ذلك تُهماً وتسفيهاً من جهات متعددة الخلفيات.
وبات يُنظر إليها باستصغار شديد بسببٍ من المقارنة إياها.
وقد صار بحكم الثابت في الثقافة الشعبية أن النضال السياسيّ السلميّ المتدرّج والتراكميّ لا يستحق الانشغال والتضحية والصبر والجَلَد بخلاف الكفاح المسلّح، الذي قد يكون لوحده سبباً كافياً لخلع المشروعيّة على الحركات الكردية في الأقاليم المجاورة، والذي طالما نُظر إليه على أنه الشكل الوحيد الذي يمنح نضالنا، بل وحياتنا أيضاً، معنىً ومغزىً، فضلاً عن كونه الوسيلة “المضمونة” لتحقيق الأهداف دفعة واحدة! وسيعمل خيار العمل السياسيّ السلميّ المُنتهج على إضعاف الاستجابة الشعبية التلقائيّة التي تحوزها الحركات المسلّحة انطلاقاً من المقارنة ذاتها لا سيما وأن مساهمة السياسيين الكرد ضعيفة بجلاء في الجانب التثقيفي وبسببٍ من تراجع البنية التنظيمية للأحزاب نفسها على وقع التآكل الذاتيّ المتتالي والمُتسارع وثقل السياسات السلطوية الجائرة الدافعة إلى اليأس والإحباط.
ما سيؤدي إلى إضعاف الخيار السياسي نفسه.
وسيغدو من الصعب تبديد التصورات الشعبية الخاطئة والقارّة في اللاوعي، وغير المصرّحة بها دائماً، فيما يخصّ بُطلان جدوى ومردودية العمل السياسي والعودة إلى النموذج النضالي المعياريّ “الخَلاصي”.
المشكلة الكردية هي واحدةٌ من بين مشكلات داخلية عديدة مزمنة و مرشحة لأن تأخذ طابعاً انفجارياً كما حدث ذلك غير مرة.
بل هي الحلقة الأضعف في أزمة الدولة والمجتمع في المدى المنظور، وإن بَدَت لنا أم المسائل في سوريا.
ومن هنا جدل “العام” السوري و”الخاص” الكردي ولا تصوّر لدينا أن تتقدم أية من ملفات المشكلة الكردية باتجاه الحل ، الجزئيّ حتى لكن الرّاسخ، من غير تحوّلات ديمقراطية عميقة في بنية النظام السياسيّ والثقافة المجتمعيّة السائدة أي ديمقراطيةٍ سياسية واجتماعيّة وتنميّة بشرية مُستدامة وحكمٍ صالح بالآن ذاته.
كما ليس “حتميّة تاريخيّة” أن يصدُق القانون اللينيني الشهير في “الحلقة الأضعف” عندنا أيضاً (كما في انتقال روسيا إلى الشيوعية وقد كانت الحلقة الأضعف في النظام الرأسمالي العالمي مقارنة بمراكز صناعية رأسمالية متطورة كان من “المفروض” أن تقلع نحو الشيوعية قبل غيرها…).
أعني أن تكون حلول المشكلة الكردية، الجزئية أيضاً، مفتاح التحوّل الديمقراطي في سوريا كما يردّد متفائلون كرد وعرب.
هذا قولٌ في التمنيّ والرغبات لا السياسة والدولة والاجتماع السوري.
وزادَ بعضنا عليه أن الحراك السياسي الكردي هو الرهان الحاسم للتحويل الديمقراطي نفسه، وهو لا يعدو كونه عنصراً متواضعاً في “العملية السياسية” وبشيءٍ من التردد والارتباك الواضحين، وإنْ صحّ القول بكون النظرة الديمقراطية العادلة للحقوق الكردية اختباراً صعباً لديمقراطية التيارات والنخب السياسية والثقافية العربية وكذلك مشروعية المطالب الكردية العادلة المرتكزة على وجود جماعة قومية ثانية في البلاد يترتب عليه حقوق جماعية وفردية، وهو المبرر الأساس لوجود حركة سياسية كردية في سوريا.
ولـ”سوء الحظ” إن الحلقة الأضعف هذه هي نفسها الحلقة الأضعف في الوضع الكردي الإقليمي (الكردستاني).
هي طرف هناك أيضاً وهامش وملحق ….فما العمل؟
وهنا جوهر الخلاف الأساسي مع القراءات السطحية لمسيرة نصف قرن من الحركة الكردية في سوريا.
القراءات التي لا تقوى على النفاذ إلى البُنى الاجتماعية المولّدة للسياسة والثقافة ليس لأنها “بنية تحتية” وحسب بل لأن الحس العقليّ السليم يوجب على الناقد والمثقف السويّ أن يتأمل في أزمة الحركة الكردية المديدة، بما هي أزمة مجتمع وطبقات وسياسة وتنمية واقتصاد ونخب وفعاليات ثقافية.
فليس المجتمع الكردي السوري بالعقيم من حيث قدرة إنجاب قائدٍ “بطل وشجاع” وقد تعاقب على قيادة الحركة المئات، على مدار أربعة أجيال، من أبناء هذا المجتمع نفسه.
لو كان الأمر بهذه السهولة لكنّا بألف خير وكانت المشكلة قد حلّت أو قاب قوسين أو أدنى من الحل.
والواقع أن الساحة الكردية السورية شهدت، غير مرة، أصوات تنبئ وتبشّر بطريق سهلة لحل المشكلة الكردية ألا وهو مجرد “التفاف الجماهير”(والأحزاب الأخرى)حول “النهج الجديد” والتصدي بـ”قوة وحزم” للنظام و”الشجاعة” في المواقف وبذل التضحيات؟ هكذا جرى، و يجري، اختزال الأمر إلى مسألة شجاعة وجرأة ورجولة وفحولة كما لو أننا في حلبة ملاكمة أو مصارعة ثيران والغَلَبَة للعضلات؟
كما ليس يكفي قراءة أزمة الحركة الكردية من زاوية عدم إحرازها لنتائج مادية “ملموسة” لصالح الكرد والحقوق القومية.
هذا منطلقٌ آخر، خاطئٌ بدوره، ويبدأ منه الناظرين من بعيد أو علٍ إلى الشأن الكردي في سوريا ويهمل ما لا يمكن إهماله.
لكونها -أي القراءة الحسيّة تلك- لا تعترف إلا بالنتائج المحسوسة والنهايات السعيدة و…..تأسيس الدول وتنصيب الزعماء ورفع الأعلام.
كما ويجدر في هذا الصدد الاعتراف بدور الحركة الكردية التي صاغت خطاباً مطلبياً متوازناً خلافاً لصورتها التنظيمية المشتّتة والمشوّهة.
ولا يُعقل أن نرمي الطفل مع غسيله الوسخ، كما يُقال، أي النيل من خطاب الحركة الكردية، الموضوعيّ والواقعيّ في توجهّه العام بسبب واقع تنظيماتها الرديء.
(بدون الدخول في تفاصيل هذا الخطاب السياسي (والثقافي) وهشاشته الفكرية والنظرية وهي سمة “الفكر” القومي الكردي بعامة، قُل التفكير الكردي في تسطّحه الفاقع.
ولولا أن مصطلح العقل الكردي، كما العقل الإسلامي أو العربي أو الشرقي أو الغربي أو اليوناني …، مكروه وخاطئ علمياً لكنّا جازفنا بإطلاق أوصاف نمطية عن شيء مماثل لـ”العقل الكردي”.
يستحسن أن نتحدث عن انسداد آفاق التفكير في البيئة الاجتماعية الكردية ومراوحته في مرحلة الإنشاء والشعر الغنائي حتى لو لم ينظّم شعراً….
حتّى إشعارٍ آخر.
وهذا حديثٌ يطول..).
وما يغفل عنه (الكَتَبَة) من مؤدّى ومحصلة هذا الترابط بين الاستغناء عن دور الحركة ورميها بالعقوق على النحو المشار إليه، الذي سيعني رمي خطابها بالفساد والبُطلان، وما سيعني ذلك من تعبيد الطريق أمام النزعات الغريزية كي تقود الأكراد (إلى أين؟).
ولو كان النقاد منسجمين مع أنفسهم ، حتى النهاية، لما اعتبروا حالَ الحركة الكردية، الباعث على التأمل والتفكّر وقليلٍ أو كثيرٍ من الغضب، مادة للتندّر والضحك وإدعاء العنتريات بدل تسجيل مواقف موزونة ومتناسقة في وجه السلطة أو على الأقل-كما يقول إدوارد سعيد- “قول الحق في وجه السلطة”.ونقول أية سلطة كانت :حاكمة أو معارضة أو سلطة الوجاهة أو سلطة الثقافة أو المال أو الأنا أو النفس الأمّارة بالسوء….لكن المثقف الكردي يختار سلطة الحركة الكردية وحسب.
الحركة الكردية هي السلطة الوحيدة التي يستطيع الكَتَبة معارضتها بـ”جرأة” لافتة.أية جرأة يدّعيها هؤلاء؟ “ثوّار على مين”؟ (بالاستعارة من “عسكر على مين”).
ليس لدى الحركة سجون ولا أجهزة أمن و لا عَسس ولا رواتب تقطعها لمن تشاء وتحرم منها من تشاء.
فطوبى لمعارضة الحركة هذه الجرأة الفائقة وليتابع الكتَبَة هوايتهم الممتعة والمسليّة؟ لعلّها تشبع رغبة شطرٍ كبير من المثقفين الكرد في نسبِ أدوارٍ تاريخية وفكرية عظيمة لأنفسهم وإشباع نزعة السّادية لديهم وانتحال شخصية نضالية من أزمنةٍ أو أمكنة أخرى..
.
وهنيئاً للمحرومين من حقّ المعارضة في وجه السلطة الجائرة اكتشافهم لخصمٍ سهل وضعيف وقليل الحيلة؟ هم معذورون إذاً.
خلافاً لما يروجه غُلاة النقاد، من قبيل التمثليّة الجماعية القومية وتمثيل “روح الأمة”، عن الافتراق بين تقدّم المجتمع المزعوم وثوريته وتخلّف الحركة وتخاذلها يبدو لي هذا الكلام ممجوجاً و شعبوياً للغاية.
ويدفعني للقول بأن الحركة الكردية دون مجازفةٍ كبيرة، وفي الشروط السياسية والاجتماعية والثقافية المشخّصة، صورة مطابقة عن مجتمعها إن لم تكن متقدمة بقليل!.
ولا أظنّ أن الشعبويين يقبلون بوصم “الجماهير” بصفاتٍ غير لائقة.
والعقلانيون بدورهم يجب ألا يفعلوا ذلك لأسباب منطقية وعقلانية ودوافع مغايرة، غير تلك التي لدى الشعبويين، حيث المجتمعات لا تولد متخلِّفة وقاصرة وبالتأكيد أنها لا تبقى كذلك إلى الأبد.
وهذا ما يقتضي تضافر جهود ضخمة ثقافية وفكرية إلى جانب العمل السياسي المباشر لتحسين أحوال البشر الملموسة المعيشية والاجتماعية والاقتصادية والمعنوية.
تدللّ التجربة بوضوح وجلاء، لمن يهمّه الأمر ويريد أن يرى، أن هناك مساراً موضوعياً للحركة الكردية، يفرض نفسه يوماً بعد يوم بقوّة المنطق ومُحاكاة الواقع، يتمثّل في القدرة على التوفيق الدقيق بين الإمكانات الذاتيّة للمجتمع الكردي والحقائق الموضوعية-غير الذاتية- للدولة والمجتمع في سوريا.
وواضح أن هناك من التقط –دون غيره- هذه العلاقة الجدلية بين السياسة والواقع، بين الشعار والممارسة، كما أدرك الفرق بين الجدوى والعبثية،بين الارتجال وبعد النظر والحسابات الدقيقة..
والأهم من كل هذا، عدم الاتكاء على العاطفة والمشاعر منطلقاً أساسياً لرسم البرامج السياسية وإطلاق الشعارات الحماسيّة من غير حساب.
الشعبويون وحدهم يفخرون بذلك، رغم قابليتهم للتحوّل إلى المقلب الآخر أي العَدَميّة السياسية و إهانة “جماهيرهم” في لحظةٍ انفعالية ما( إنْ لم يستجب التاريخ لرغباتهم!) بُحكم التكوين السياسي والفكري الركيك لهذه “الجماهير” أو بسبب انتهازية كثيرين من ممثليهم والناطقين باسمهم.
لا نرى بديلاً لهذه الحركة غير نسخٍ متطورة ومطوّرة عن الحركة نفسها.
ونقولها بقدرٍ قليلٍ من المحافظة وكثيرٍ من التواضع لكن دونما شعبوية وتناقض وفوضوية على ما نزعم.
وليس لمنصفٍ وعاقل أن يزدري هذه الأداة التي تعكس حصيلة نصف قرن وأكثر من العمل السياسيّ المنظّم ومرآة عاكسة لأحوال مجتمعنا و”نخبته” السياسية والثقافية، ليس لوضعها في متحف التاريخ، بل لأنها بالآن ذاته خبرة متراكمة تصلح خميرة لإقلاع عملية الإصلاح التنظيميّ والسياسيّ ورصيداً معنوياً ممتازاً لطورٍ جديد من الفعالية السياسية الواعية والمتزنة والاضطلاع بدور المحرك والفاعل الأساسي في حياة الجماعة الكردية وتمثيلها بثقة وجدارة على صورة لائقة.
في السياسة لا يفيد كثيراً “أن تقول كلمتك وتمشي”.
هذه مقولةٌ جميلة وجوهرية في القضايا والمواقف الإنسانية العامة.
أما نصيحة الحكيم “سبينوزا” لنا فهي الأجدى: أنْ نفكّر مليّاً ودائماًً،لا نضحك ولا نبكِ، فنحن أمام واقعة كبيرة بالفعل….
=========================
*تنويه: المقال مخصّص لملف مجلة “الحوار” الفصلية الثقافية القادم عن مسيرة خمسين عاماً من عمر الحركة الكردية في سورية.
ارتأى الكاتب تعميم المقال كمساهمة في النقاش الدائر حالياً على صفحات المواقع الالكترونية عن أزمة الحركة الكردية.
هذه مقولةٌ جميلة وجوهرية في القضايا والمواقف الإنسانية العامة.
أما نصيحة الحكيم “سبينوزا” لنا فهي الأجدى: أنْ نفكّر مليّاً ودائماًً،لا نضحك ولا نبكِ، فنحن أمام واقعة كبيرة بالفعل….
=========================
*تنويه: المقال مخصّص لملف مجلة “الحوار” الفصلية الثقافية القادم عن مسيرة خمسين عاماً من عمر الحركة الكردية في سورية.
ارتأى الكاتب تعميم المقال كمساهمة في النقاش الدائر حالياً على صفحات المواقع الالكترونية عن أزمة الحركة الكردية.