بعد مرحلة من الهلع والخوف عاشتها الأنظمة الدكتاتورية قلقاً حقيقياً على وجودها وبقائها، تنفست الصعداء بعد التحرك العسكري الروسي في القوقاز، وتدخل قواتها داخل الأراضي الجورجية، وتهديدها أمنَ واستقرارَ هذا البلد (رغم عدالة القضية الأوسيتية والأبخازية)، لترتفع أصوات كانت قد خبت منذ سنوات “خاصة أصوات العروبيين” لتبشر بفصل جديد من الحرب الباردة السيئة الصيت، وأن روسيا بعودتها إلى ساحة الصراع الدولي ستعيد الحيوية إلى المشاريع والسياسات التي كانت قد باتت من الماضي وصارت ميؤوسة منها.
وكأن روسيا، إن عادت إلى الصراع، فهي ستعود لا لاعتباراتها الخاصة، بل لتدعم الأنظمة والعروش المتأرجحة، والتي باتت قاب قوسين أو أدنى من السقوط
أو كأن مشكلة المواطن العربي أو الشرق أوسطي، هي مشكلة وجود أو عدم وجود ثنائية قطبية، وأن لا علاقة لمعاناته بالنظام العربي الفاسد، وأنظمة الحكم الدكتاتورية التي استغلت الفجوة بين المعسكرين طيلة الحرب الباردة، لتتغول على شعوبها، وتمتهن كرامة مواطنيها.
من جانب آخر، هذه الأصوات وهؤلاء الحالمون المراهنون على دور روسي في إعادة إقامة مظلة آمنة لنظام إقليمي تعفن عبر عقود مضت، كأنما هم على قناعة بأن روسيا لا يمكنها أن تتخلص من إرثها القيصري أو السوفيتي في دعم الدكتاتوريات في العالم! وهذا اتهام للشعب الروسي الذي عانى الكثير وعمل الكثير للتخلص من دكتاتورية أنظمته البائدة.
وهؤلاء لا يريدون أن يدركوا أن الشعب الروسي بدأ، منذ إسقاطه النظام السوفيتي البائد، يعيد النظر في ثقافته السياسية، ويعي ترتيب ذاته بما يتلاءم والطبيعة المتجددة للعالم، وهم يصمون آذانهم عن سماع الأصوات القوية التي تصدر عن تيارات ومؤسسات المجتمع المدني الروسي، والتي تعمل على وضع حد لعلاقات بلدهم بالنظم الشمولية والدكتاتورية، والمارقة، والخارجة عن القانون، وهم لا يعلمون أيضاً أن رجال فكر روس كباراً ورجال أعمال ذوي تأثير، يعملون مع البرلمان على تصحيح المسار التاريخي للدور الروسي في العالم، معلنين رفضهم لأية علاقة لبلدهم بأنظمة الحكم الفاسدة عبر العالم، ويعملون من أجل أن تتبوأ روسيا مكاناً لائقاً بشعبها، في مواجهة الاستبداد، ودعم حقوق الإنسان.
إن رهان الأنظمة، على حرب باردة جديدة، مقامرة بمصالح شعوبها، وهدر للوقت والإمكانات، ويكشف حقيقة الأنظمة المستعدة دوماً للتضحية بشعوبها، من أجل بقائها، وتعمل أي شيء سوى احترام شعوبها، وصيانة كرامة مواطنيها.
في هذا السياق جاء الموقف الرسمي السوري من الحرب في القوقاز، حيث أعلنت على لسان رئيسها، ومن العاصمة الروسية، دعمها للعدوان الروسي على جورجيا وفي السياق ذاته تأتي الرحلات المكوكية بين دمشق وطهران وأنقرة، وبالتنسيق مع تيارات عنصرية عراقية (من أيتام صدام) والإصرار على الاتفاقات الأمنية، والتآمر التاريخي على الأمة الكردية وتطلعاتها التحررية، ومحاولات وضع العصي، في عجلة الديمقراطية العراقية الناشئة، والخروج على الدستور والتنصل من تطبيق المادة 140 المتعلقة بتطبيع الأوضاع في محافظة كركوك.
لم يكتف التحالف التركي الإيراني السوري، بالتآمر على الديمقراطية والقضية الكردية في هذه البلدان، بل عملت على احتضان ودعم الدكتاتوريات الإفريقية من خلال مؤتمر اسطنبول للتعاون التركي الأفريقي، الذي حضره الخارج عن القانون، والمطلوب للقضاء الجنائي الدولي <عمر حسن البشير > ليتحدى العلام من هناك، ويعلن رفضه لأي قرار دولي، يتعلق بمحاكمته، أو محاكمة أي مجرم من مجرمي حربه الدارفورية، ومن الممكن أن يتبين فيما بعد، أن الرهانات ذاتها، والحلف ذاته، يقف خلف الانقلاب على الديمقراطية الناشئة في موريتانية.
ولكن الذي غاب عن بال هؤلاء الحالمين المراهنين، هو أن العالم من أقصاه إلى أقصاه، قد مل وسئم الحروب الباردة والساخنة، وهو أكثر مللاً وقرفاًَ من الأنظمة الدكتاتورية الناكرة لحقوق الشعوب، وغاب عنهم أن روسيا فعلت ما فعلت بداعي مصالحها الإقليمية, وهي لا تعدو عن كونها زوبعة تهدف روسيا من ورائها الابتزاز وتحقيق بعض المكاسب, وهي غير قادرة على تغيير مسار التاريخ, الذي بدأ يتكون من جديد, ويكون معه، نظاماًَ عالمياًَ جديداًَ متلائماًَ مع ظاهرة العولمة وإفرازاتها، ولو فرضنا أن روسيا راغبة في سباق تسلح جديد، فلا يمكن أن تكون هذه الرغبة مستمدة من رغبة أنظمة حكم راغبة في إطالة بقائها، والقارئ الحصيف للوضع العالمي والروسي يكتشف بسهولة أن لا إمكانية لعودة الحرب الباردة من جديد، ولكن هناك رغبة روسية في استثمار الفجوة الحاصلة عن السباق إلى البيت الأبيض، وقرب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية لتعزيز بعض المواقع والمصالح.
السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: ماذا حققت هذه الأنظمة في ظل الحرب الباردة السابقة، لتبتهج لحرب باردة جديدة؟ والجواب مكتوب في سجل معاناة شعوبنا وعذاباتهم، محفوظ على جدران المعتقلات وزنزانات السجون!
——