بدرخان علي
أضواءٌ على السياسة اليوميّة الكرديّة
وبعض “النظريات” السياسيّة
…لأسبابٍ متعددة،تجيءُ السياسةُ القائلةُ بـ”تجسيد نبض الشارع الكردي”و “استنهاض طاقات الشعب الخلاقة” و”تفجير مكامن القوة لدى أبناء الأمة الكردية العظيمة” ومُشتقاتها، المُصاغة على إيقاع أناشيد ميشيل عفلق وخُطب جمال عبد الناصر،تجيءُ نافرةً وثقيلةً على الأسماعِ والذّوق السليم.
والحقيقة أن قلّة من المثقفين والسياسيين الكرد، تكترثُ لوقعِ مقالة التهييج والتحريض، المالئة حياتنا، على الفكر والوعيّ ، وتنتبه للمفعول الضار لمقالة السياسة اليومية الكردية السائدة، فضلاً عن أنها استغلالٌ رخيص لمشاعر الآدمييّن على سبيل الاستحواذ على شعبية فقيرة عارضة وشرعية “قومية” لا أساس راسخ لها.
أضواءٌ على السياسة اليوميّة الكرديّة
وبعض “النظريات” السياسيّة
…لأسبابٍ متعددة،تجيءُ السياسةُ القائلةُ بـ”تجسيد نبض الشارع الكردي”و “استنهاض طاقات الشعب الخلاقة” و”تفجير مكامن القوة لدى أبناء الأمة الكردية العظيمة” ومُشتقاتها، المُصاغة على إيقاع أناشيد ميشيل عفلق وخُطب جمال عبد الناصر،تجيءُ نافرةً وثقيلةً على الأسماعِ والذّوق السليم.
والحقيقة أن قلّة من المثقفين والسياسيين الكرد، تكترثُ لوقعِ مقالة التهييج والتحريض، المالئة حياتنا، على الفكر والوعيّ ، وتنتبه للمفعول الضار لمقالة السياسة اليومية الكردية السائدة، فضلاً عن أنها استغلالٌ رخيص لمشاعر الآدمييّن على سبيل الاستحواذ على شعبية فقيرة عارضة وشرعية “قومية” لا أساس راسخ لها.
هكذا ترسّخت لدينا “نظرية” كردية تقول بأن كلّما كانت الكلمة مفخّمة وحربيّة في النبرة كلّما تقدّمنا أشواطاً في حلّ المشكلة,والسبب هو ..
أن ذلك يزعجُ النظام (والعرب)..يا للاكتشاف!.
ولَنَا في ظاهرة مستجدّة في حياتنا السياسية مثالاً ممتازاً لِما أسميناه “الانشقاق عن السياسة” والخروج عنها والقيامِ عليها.أعني الظاهرة الشعبويّة الكردية النّاشئةِ على إيقاع الوضع الكرديّ العراقيّ والتي زادت من حمولتها العاطفيّة أحداث قامشلي “آذار2004” وأعقابها وغداة مقتل الشيخ الخزنوي.
و الشعبوية السياسية،المتفاقمة على أرضية الاستبداد السياسيّ المديد والأزمة المعيشيّة العامة والاغتراب الروحيّ، الظاهرةُ هذه جديرةٌ بأن تستوقف المثقفين الكرد والسياسيين النبيهين، لأكثر من سببٍ وسبب، لا الاحتفاء بها كما يجري اليوم في أوساطنا الكردية.مع تقديرنا التّام لظروف صعودها (باجتماع مسببات عدّة لا الاضطهاد القومي لوحده) وكأننا عثرنا على ضالّتنا المنشودة: إنه الجمهور والشارع! كلا،مع الأسف، ليس اكتشافاً مطمئناً كثيراً ولا هو بالجديد كلياً.
ولم نُصب هنا أيضاً.
ونَستبقُ القارئ المنفعل جرّاء هذه الصراحة السياسية، غير المألوفة كردياً، بالقول أن الجماهير متأهّبة ومتحفّزة للقيام بأيّ عملٍ ونشاطٍ احتجاجيّ عندما تجدُ نفسها وسطَ حدثٍ ضاغط ومهول.
لكن من يشككّ بصدقيّة مشاعر شعبٍ مغبون ومهمّش؟ ومتى كانت مشكلة السياسة الكردية في غياب التضحيات؟ و هل هذا ما نريده من السياسة المؤثّرة والفاعلة؟ و هل هذا ما نصبوا إليه كساسة ومثقفين؟إنّ مهمّة السياسيين والمثقفين شيء مختلف عن التصفيق و التجييش.إنها ما قبل اللحظة الجماهيرية بكثير وأثناءها وبعدها بكثير.
وليست كل الحركات الجماهيرية مفيدة وفي كل الأمكنة والأزمنة.
لا سيما في الموقع الحسّاس للقضية الكردية في سوريا التي لا تنطبق عليها وصفات جاهزة من أية جهة أتَت.
وللإيضاح نقول أن القصد بالشعبوية هي الحالة الغريزية غير المنضبطة وغير المكترثة لحسابات الربح والخسارة، لا الناس كأفراد وبشر.
أي الحالةُ لا عناصرها.
والناس هؤلاء من “بني جلدتنا” وأهلنا أولاً وأخيراً ودائماً.
ويخطئ من يظنّ أنها قادرة على انتزاع الحقوق والمكاسب من النظام الحاكم للأسباب التي توقفت عليها مراراً في مداخلتي السابقة وهذه.
ويكفي غيابُ الأفقُ السياسيّ لهذه الحالات الطارئة والتي سرعان ما تصعد وسرعان ما تخمد، أن تكون سبباً لعدم الارتهان إليها في خلق دينامية سياسية كردية متوازنة وفاعلة ومستمرّة.
ومن الشهير تلك الآراء التي قدّمها واحدٌ من أعلام علم النفس الاجتماعي “غوستاف لوبون” بصدد الحالة الجماهيرية الغريزية التي يريدها لنا رهطٌ من سياسييننا الأفاضل ومثقفينا الأكارم.
ولولا أنّ “غوستاف لوبون” يمينيٌّ عنصريّ بجلاء كان يمكن الاستشهاد ببعض آرائه المهينة عن سهولة انقياد الشعب وراء زعيمٍ ما أو إثر واقعة ما لكنها جارحة قليلاً و غير مناسبة للسّياق كثيراًً.
(و “لوبون” هذا ذائع الصيت في العالمين العربي والإسلامي بفضل مديحه على رسول الإسلام والحضارة “العربية الإسلامية” وكتبه تباع على أرصفة الشوارع.لكن كتابه الآخر “السنن النفسية في تطور الأمم” كفيلٌ في إجلاء نظريته العنصرية القائمة على المفاضلة بين الأعراق وكذلك “وحشيّة نظريّته في التاريخ”على حدّ تعبير أحدهم).
ولهذه الأسباب وغيرها اكتفي بتسجيل حذريّ المُفرط من ظواهر الانقياد الجماهيريّ العفويّ والعاطفيّ وعدم عقد الرهانات الكبيرة عليها في ظلّ غياب بنيان ورسوخ المجال السياسيّ الكرديّ على صورةٍ واضحة ومستقرّة ومالكة لمقدّرات التحكّم والضبط وكذلك الرضوخ والاستسلام التّام لـ”ما يطلبه الشارع” أو “ما يطلبه الجمهور” من غير تهذيب وتصويب في العديد من التوجهات العفوية الخاطئة أو حتى التجرّؤ على ذلك.وكلّ ذلك بسببٍ من التّنافس الرّخيص على الشرعية الحزبوية في ظلّ الحرب على السلطة الرمزية والمعنوية.زد على ذلك دخول مستجدّاتٍ سياسية أخرى على الخط كتبدّل وجهة أنصار حزب العمال الكردستانيّ في سوريا، وهم قطاعٌ جماهيريّ واسع وكتلة متراصّة ومرصوصة لكنْ متوتّرة ومشوّشة إلى حدٍ بعيد ومن غير برنامج سياسيّ موزون ومعروف، وهم جسداً في سوريا وقلباً وروحاً وفكراً في مكان آخر مجاور.
ومن دون أرضيّة ما لالتقاط الأنفاس وأخذ استراحة المحارب حتّى أو إدراك معطيات الساحة الجديدة وممارسة العمل السلميّ بعنفوانٍ فائضٍ عن الحاجة والضرورة، وبعقليّة ونفسيّة المحارب والمقاتل العسكريّ و التشوّش الحاصل جرّاء كل هذا.
ومع فارقٍ مهمّ آخر وأساسيّ أن السياسيّ الكرديّ عندنا هو الذي ينقاد لـ”صوت الشعب” لا الجماهير هي التي تنقاد وراءه بسبب غياب كاريزما نضاليّة، لأي قياديّ كرديّ كان، تبعاً لصعوبة إحرازها أصلاً في الأزمة والمسيرة المعروفة التي تمرّ بها الحركة الكردية عندنا.
أضِفْ أن اللوحة الاجتماعية، في المناطق الكردية و ذات الأغلبية الكردية أو المدن الكبيرة حلب-دمشق حيث تجمعات كردية كبيرة، تتضمّن تعقيداتٍ أخرى لا يجوز الإغماض عنها، تَنْضافُ لكل ما سبق.كما أن السّلطة السياسية ليست خصماً سهلَ المنازلة الميدانية بل هي خارجة عن كلّ الأعراف الوضعيّة منها والسماوية كي لا نتحدث عن القوانين.
عليه نقول، ليس من مصلحة الكرد أن تكون مناطقهم ساحة مفتوحة أو ميدان الصراع السياسيّ مع أجهزة السلطة الضاربة كما تشيعُ خطاباتٌ متحمّسةٌ مُنتشيةٌ (بماذا؟).
بـ…….أننا نملك بضعة مواقع انترنت كردية ستنقل الأخبار إلى العالم ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي!! هذا المجتمع الذي ينتظر منّا أيّة شاردة وواردة للضغط على النظام ومطاردته – كما تجسّد مؤخراً في الاحتفال بعيد الثورة الفرنسية في باريس!-؟ (نظرية كردية بليغة وذائعة الصيت في العالم كلّه وتُردّد عندنا بدون أن تستوقف أحداً منّا).
وهناك سببٌ وجيه آخر (أي نظرية كردية أخرى) بنظر هؤلاء، وهو فقط لنؤكّد لبعضنا البعض أننا لسنا جبناء وغير متخاذلين، ومثلنا مثل أكراد العراق وتركيا وإيران، ندفع التضحيات “الضرورية”!.
وإذا كانت التضحيات شيئاً مألوفاً واعتيادياً في العمل السياسيّ المعارض والمستقلّ في سوريا (وحتى الصمت ليس يكفي لاتقاء شرّ السلطة)، لأنها من طبائع السياسة والاستبداد في بلدنا لا لأنها “ضرورة” نضالية بالطبع كما تُفيد النظرية الكردية، فسيكون من أقصى الحكمة و الشعور بالمسؤوليّة إنْ نحنُ تجنّبنا كشف “المجتمع” أمام أجهزة السلطة وضراوتها والتي تعمل بالعقوبات الجماعية في الحالة هذه، وعَمِلنا على اقتصار “المواجهة” على النّشطاء السياسيين المكرّسين (والكتّاب والمثقّفين،لا قدّر الله).”نظرية” كردية أخرى تقول أنه كلّما اعُتقل منا الكثير كان ذلك أفضل لنا،كأننا نتخلّص من عارٍ يلاحقنا، ويعني بالضرورة أننا نتقدّم أشواطاً قدماً باتجاه الحلّ.
فهيّا بنا.
إلا أن النظرية الكردية الأكثر إدهاشاً- وقد أمْسَت بمثابة محرّك السياسة الكردية وقد تُفسّر حركة التاريخ البشريّ كلّه- وهي كالآتي: كلّما رفعنا سقف مطالبنا إلى الحد الأعلى كان ذلك أفضل وأجدى لأننا سنحصل على أقل منها بالتأكيد.
وهذا أفضل من أن نطالب بحدٍ أدنى ولا نحصل على أي شيء! وهذه النظرية -التي لا يُعرفُ واضِعُها بالضبط وهي مثل الأغاني الفلكلورية إبداعٌ جماعي- تردّد في الأوساط الشعبية والسياسية و”النخبوية” الكردية.
وإياك والتشكيك فيها لأنها مُثْبَتة كبعض القواعد العلمية في الرياضيات والفيزياء وإلا ستُرمى بالانتهازيّة والمُساوَمة (والجهل والغباء).
وعمّ نتحدثُ بعد، وعمّنْ؟
عنْ الوَقَار الذي يُذكر به اسم” رفعت الأسد” في بعض الخطابات الكردية “الجادة”.
ويجب أن يسبق، دائماً وأبداً، اسمه بلقب “الدكتور” كي لا نغمط حقّه في الشهادة التي قضى جلّ عمره بحثاً وتنقيباً قي الدراسة والكتب والمجلدات لتحصيلها.
(وأفضل من يروي حكاية دراسة “الرفيق” رفعت الجامعيّة هو وزير دفاعنا الموقّر الأسبق، صاحب المواهب الشعرية والغَزَل وفنّ الطبخ).
كادَ بعضهم أن يلقب رفعت هذا بـ”صديق الشعب الكردي”(أي مثله مثل الراحل هادي العلوي).
وكلّ هذا نكاية بالأحزاب الكردية الأخرى (وتخصيصاً تلك المنخرطة في إعلان دمشق).
ولمن لا يعلم فالعصبية، الحزبوية هنا، تُعمي البصر والبصيرة.
أليس هم أنفسهم من رأوا في لقاءٍ أمنيّ مُفبرك دليلاً على عَظَمَة أحزابهم وسيطرتهم على “الشارع” الكردي؟ ولو أن أطرافاً كردية انزلقت إلى تلك اللعبة الأمنيّة المفضوحة والهفوة غير اللائقة لرأينا كيف تنقلب الشعارات في الاتجاه المعاكس.
واستطيع تقديم سيناريو لذلك، لكن لا نريد إضاعة المزيد من الوقت في ذلك.
وعن ذاك” السائح” الذي استند إلى تحليلات عميقة ومراقبين حياديين ليتوصلّ إلى أن “إعلان دمشق” مدبرٌ في دهاليز أجهزة المخابرات السورية.
وحتّى إن لم كذلك فهو -أي الإعلان- مؤامرة على الشعب الكردي بالتأكيد لأنه لا ينصّ “صراحة” بحق الشعب الكرديّ في تقرير مصيره والاعتراف بكردستان سوريا.
قبل أن يقدّم لنا محاضراتٍ عن مبدأ التوافقات التي قادته إلى الانخراط في جبهة خلاصٍ للشعب الكرديّ والسوريّ كلّه بقيادة ديمقراطيّ معتّق نزيه والذي يستظلُّ بظلّه السياسيّ الكرديّ المُخضرم ذاك.ولحسن حظّنا أن الديمقراطي البعثي النزيه لم يُجامل أحداً منذ اليوم الأول.
فهو يعترض صراحة على كل تعبير من قبيل المناطق الكردية أو القضية الكردية و ما شابه.وهو بذلك أراحنا كثيراً.
لأنه لو لم يفعل لكان من السهل أن يطالبنا رفيقه الكرديّ،والمعجبون بـفلسفته وحكمته في السياسة والحياة وأمور دنيوية أخرى،بحلّ أحزابنا والانضمام إلى جبهة الديمقراطي الجديد.
وهل مستغرب أن يفعلها؟
وعن ذاك السياسي الذي أفتى أكثر من مرة أن كل من لا يقول بالحرف بـ”الجزء الكردستاني الملحق بسوريا” إنّما يخدم السلطة والنظام (والعرب) في سوريا!.
وهذه نظرية كردية أخرى.
وعندما استغنى السياسي ذاك بنفسه عن خدمات تلك النظرية لم يقدم لنا تفسيراً مقنعاً.ربما يعود إليها ثانية عند الحاجة ورغبة “الشارع”.السياسي الكردي “الشوارعي” ( ونقولها من تمثيل الشارع حسب رغبته هو،لا سبّة ولا تهمة منّا له ورفاقه) لا يستطيع المجاهرة بآرائه حتى لو تبيّن له تهافت مقولاته فيما بعد.
وقد بلغ الخوف لديه من “الشارع” (ومن السياسة) مستويات بليغة.
والسياسي النبيه هذا نفسه عندما اضطر بعد حين لإقرار بمشروعية وجود أحزاب كردية أخرى غير حزبه الجبّار القائد للمجتمع.شرح لنا نظريته عن التعددية الحزبية كالتالي: التعددية ضرورية، كي يعرف الشارع من هم العملاء والجبناء ومن هم المناضلون والرجال الحقيقيون!
وعن خيمة تأبين وعزاء المغدور الشيخ معشوق الخزنوي، التي تحولّت إلى هرجٍ ومرجٍ بالمعنى الدقيق للكلمة لا المجازيّ .
كادَ بعضنا أنْ يرقص من الفرح لأنه رأى في تلك الأيام الأليمة فرصة ثمينة لا تعوّض.
خطابات رثّة ومغازلة رخيصة لعواطف الشبان والمراهقين.
كتاباتٌ في المواقع الكردية تنبذها الذائقة الأدبية قبل الرأي والتحليل لهشاشتها وفرط التصنّع والاستعراض فيها.
مزاوداتٌ على قارعة الطرقات.
“قيادات شابة” و”دماء جديدة” تتصدّر المشهد السياسيّ وتقودنا (إلى أين يا ترى؟).
يكفي القول أن تلك الجملة الضعيفة والسطحية والاستعراضية قيلت أكثر من مرة من قبل “سياسيين مخضرمين” عندما اعتلوا المنبر أكثر من مرة: إذا كان هذا هو التشدّد فنحن متشددّون ومتطرّفون.
ونفتخر بذلك.
وهل من أهان الرجل المغدور أكثر من الذين احتفلوا في مقتله، حين صوّروا الرجل على غير هيئته وتوجّهاته السياسية المُعلنة والواضحة قبل مقتله؟ ماذا تقول في أناسٍ يرون في الاعتدال والتواضع والدعوة الإصلاحيّة عاراً وعيباً ما بعده عيب، كأنّ بهم يعملون على تخليص المغدور من إثمه الإصلاحيّ بإسباغ أوصافٍ لم يردها هو لنفسه ولم يعمل من أجلها؟
وهذه نظرية أخرى -مستجدّة نسبياً لكنها بدورها تحوز إعجاباً خاصاً في “الأوساط” السياسية الكردية- تفيدُ بأن التشدّد الكرديّ ليس مبرر ومفهوم فحسب، بل ضروري أيضاً!.
أمّا لماذا التشدّد ضرورة.
فالتفسير هو بناء على مثلٍ شعبيّ كرديّ – يُردّد في جبل الكرد، عفرين كثيراً- كلّ بيت فيه مجنون، الناس يخافون منه أكثر.
ليكن لدينا متشددون حتى يخاف منّا الناس!.
وليس غريباً أن تسمع بهذا الكلام الرّصين من أناس بسطاء ومن قيادات شابة أو مخضرمة بنفس الوقت.
والنظريات الكردية كلّها على هذه الشاكلة.
وعن تقلّبات ذلك السياسيّ النبيه والصّادق مع نفسه أبداً.
الذي يرمي كل من خارج حزبه بـ”القصور المعرفي” وربما التخلف العقليّ.
حزبه الذي يثير مجرد ذكر اسمه الميمون الذُعر والهَلَع في أركان النظام.
وعبارة “السوية المعرفيّة” (التي لا معنى مفيد لها، خاصة عندما يقولها هو.
إلا إذا اعتبرنا أن مقياس “السوية المعرفية” مخبئ في جيوبه.
مثلما يخبئ سليم بركات مفاتيح اللغة العربية في جيوبه على ذمة أدونيس) التي يردّدها هذا السياسي والمثقف والناشط ، بداعٍ ودون داعٍ ولا يعرف معناها على وجهٍ صحيح، كي يغطي بها عجزه المزمن في الفهم والكتابة وعقدة نقص بليغة لديه وشهوة التمايز والإدّعاءات الزائفة واعتلاء المنابر.
وماذا نقول في الوفد رفيع المستوى من المسئولين الأوائل في أحزاب كردية عديدة وهم يتراكضون إلى اجتماع عاديّ في العاصمة للالتقاء بمسؤول (أو مسؤولة) ما في الدولة.
والسياسيّ الكرديّ – يا حرام- يحلمُ بأيّ لقاء كيفما وحيثما اتفق ومعَ مَنْ ومِنْ تدبير أيّ كان.
وماذا نقول في المهازل التي تسبق (وترافق وتتلو) التهافت على الدخول إلى “برلمان الدمى”…… وماذا بعد؟
كم تبدو رثّة وفقيرة تلك الخطابات التي تستقوي بشبّان في مُقتبل العمر لحلّ قضايا إنسانية وسياسية شائكة كقضيتنا الكردية (وفي الواقع لمجابهة أحزاب أخرى).
وجدنا بأمّ عينينا كيف يسير قادة وزعماء سياسيين خلف سائقي دراجات نارية مبتهجين فرحين بإنجازهم “القومي” الكبير في صورة لا تسرّ الأصدقاء أبداً.
و الأنكى أن يعايروا سياسيين آخرين لعدم انقيادهم بالصورة التي انقادوا هم فيها مستسلمين بـ”براءة” تامّة لـ”نبض الشارع الكردي” نبضةً نبضة.
و الحقّ أن “الشارع” كلمةٌ مُهينة للغاية، كما لاحظ مفكرٌ عربي، وقد نزيد أنها غامضة كثيراً وغير متعيّنة.
كاتبٌ آخر يقترح تعبير “رأي عام” احترماً للبشر بدل هذا التعبير المُهين.
لكن الرأي العام لن يتبلور إلا في ظروف الاستقرار السياسي و مناخات الحرية والديمقراطية و تكافؤ الفرص وعبر صحافة حرة ومؤسسات فعلية.
وحتى في هذه الأجواء يخضع الرأي العام لهيمنة وسائل الإعلام والدعاية ومصالح الشركات و و….
وسواء كنّا أمام “رأيّ عام” أم “شارع” فإننا قد وُهبنا عقولاً ينبغي أن لا نوفّر استعمالها في أية لحظة.
والعَقْلُ أَعْدَل الأشياءِ قسمةً بين الناس كما يقول ديكارت.
غير أن استعماله وتمرينه يخضع لشروط واعتبارات عدّة.
فحتّى أشد الإيديولوجيات احتفاءً بالجماهير والشعب نراها لا تتحرّج من ضرورة “نقل الوعي” إلى الجماهير من خارجها على ما قال لينين مُوكلاً المهمة إياها إلى حزب الطبقة العاملة.
وإنْ بدا هذه الكلام هذا نخبويّاً إلى حدٍ بعيد، وهو كذلك فعلاً، فلا ضيرَ ولا حَرَج.
فكل مفكّري الطبقة العاملة- كما يبيّن جورج طرابيشي- لم يكونوا عمالاً قطّ بل برجوازيين وأنصاف ارستقراطيين من سان سيمون إلى كارل ماركس وغيرهم.
(ينظر كتاب طرابيشي: هرطقات 2 الصادر حديثاً عن “دار الساقي” و “رابطة العقلانيين العرب”، 2008م).
فما خطبُ السياسيين الكرد يدّعون تمثيل روح “الشارع” والاستسلام لخياراته كيفما اتفق؟ خيراً إن شاء الله؟
وإذا كان “الشارع” البسيط يستحقّ منّا التعاطف والاحترام والعمل على ترقيته من داخله، ولكن من خارجه أيضاً وهذه مهمة السياسة الحقيقية على ما نرى، وتوجيهه بيقظةٍ دائمة فإنّ “الشّارع الانترنيتي الثائر” بشقّيه “الأوربيّ” (ولا فَخر) أو الداخليّ، قتلاً لأوقات فراغه بـ”السياسة” أو”الشعبويّة الشعاراتية” الهائجة من الداخل والخارج و التي يأتي إرضاؤها على حساب السياسة تماماً، لا يستحقّان أدنى قسطٍ من ذلك بل السّخط والإدانة وحسب.
ويا لفخرِ بعضنا وقد التقط صوراً تذكارية ونشرها على صفحات الانترنت مرفقة بعباراتٍ صادحة، مخرّشة ومؤلمة لحنجرة الإنسان السّويّ، عن تمثيل الشّارع الكرديّ الصّامد والأمّة الكرديّة المجيدة، وعَظَمَة أحزابهم وتخاذل الآخرين…… وقُربِ يوم الفَرَج والسَّعد.
فابشروا: أنتم في زمن السَّكْرة القوميّة و البهلوانيات و الشّعارات و”النظريات” المؤلّفة على قارعة الطرقات وشوارع الانترنت في قامشلي وعفرين وكوباني و……….أوربا.
أدركُ جيداً أننا نواجه ظروفاً “غير طبيعية” ونكابد أوضاعاً جائرة فظيعة.
وأعلم أيضاً، متيقّناً، أننا لم نحرز حقوقاً “ملموسة” لا لكوننا ضُعفاء و غير عقلاء و غير موضوعيين وغير موحَّدين أو لأننا لا “نتقن” السياسة كما يُرجِع بعضٌ من مثقفينا الأفاضل، في سياق التهكّم على الحركة الكردية والسّاسة الكرد في سوريا، سببَ أوضاعنا لعدم” إتقان” الساسة الكردية السياسة بخلاف السّاسة الكرد في العراق مثلاً -أو الأمريكان تارة، إذ يعود سبب قوّة ومنعة بلادهم إلى ذكاء سياسييهم، كذا! ، فالأمر برمّته تقنيٌّ والحال هذه.
نعم هكذا قال “مفكر كبير” قبل سنوات!.
وهذه “نظرية” كردية أخرى اخترعها مفكرونا ومثقفونا الأفاضل.
يُرجى أخذ العلم.
غير أنّ النّظر الثّاقب ينبغي عليه أن يذهب لعمق المشكلة.
السياسة لا تبنى على التحريض لوحده والتعبئة ومدارس الإعداد الحزبي التي ما صَنَعَت سياسيين حقيقيين وسياسة جديرة بالبقاء والتفاعل مع المتغيرات الدائمة والتي لا تنتظر موافقة من أحدٍ منّا.
والمأساة الكبرى أن جلّ نقاد الحركة الكردية في سوريا من الكتاب والمثقفين لا تستوقفهم كل ما ذكرناه أعلاه.
إن لم يكونوا معجبين بها ومروّجين لها بثورية وعنفوان.
وقد يرون في تناولها بالإشارة والنقد خدمةً جليلة للنظام.
على العكس من ذلك فهم يريدون لمنْ لمْ يتورّط بعد في تسطيح الوعي والثقافة والمهازل السابقة أن ينزلق هو أيضاً إلى المواضيع و المواصيل الهزيلة.
أي القضاء على شذراتٍ وبذور قليلة للعقلانيّة في السياسة اليوميّة الكرديّة.
كي تكتمل الصورة وتغدو تمثيلاً حقيقياً لـ”الشارع”.
أليس “الشارع” هو المُبتدأ والمُنتَهى والمُشتَهى في سياستنا الكردية الحكيمة؟
أن ذلك يزعجُ النظام (والعرب)..يا للاكتشاف!.
ولَنَا في ظاهرة مستجدّة في حياتنا السياسية مثالاً ممتازاً لِما أسميناه “الانشقاق عن السياسة” والخروج عنها والقيامِ عليها.أعني الظاهرة الشعبويّة الكردية النّاشئةِ على إيقاع الوضع الكرديّ العراقيّ والتي زادت من حمولتها العاطفيّة أحداث قامشلي “آذار2004” وأعقابها وغداة مقتل الشيخ الخزنوي.
و الشعبوية السياسية،المتفاقمة على أرضية الاستبداد السياسيّ المديد والأزمة المعيشيّة العامة والاغتراب الروحيّ، الظاهرةُ هذه جديرةٌ بأن تستوقف المثقفين الكرد والسياسيين النبيهين، لأكثر من سببٍ وسبب، لا الاحتفاء بها كما يجري اليوم في أوساطنا الكردية.مع تقديرنا التّام لظروف صعودها (باجتماع مسببات عدّة لا الاضطهاد القومي لوحده) وكأننا عثرنا على ضالّتنا المنشودة: إنه الجمهور والشارع! كلا،مع الأسف، ليس اكتشافاً مطمئناً كثيراً ولا هو بالجديد كلياً.
ولم نُصب هنا أيضاً.
ونَستبقُ القارئ المنفعل جرّاء هذه الصراحة السياسية، غير المألوفة كردياً، بالقول أن الجماهير متأهّبة ومتحفّزة للقيام بأيّ عملٍ ونشاطٍ احتجاجيّ عندما تجدُ نفسها وسطَ حدثٍ ضاغط ومهول.
لكن من يشككّ بصدقيّة مشاعر شعبٍ مغبون ومهمّش؟ ومتى كانت مشكلة السياسة الكردية في غياب التضحيات؟ و هل هذا ما نريده من السياسة المؤثّرة والفاعلة؟ و هل هذا ما نصبوا إليه كساسة ومثقفين؟إنّ مهمّة السياسيين والمثقفين شيء مختلف عن التصفيق و التجييش.إنها ما قبل اللحظة الجماهيرية بكثير وأثناءها وبعدها بكثير.
وليست كل الحركات الجماهيرية مفيدة وفي كل الأمكنة والأزمنة.
لا سيما في الموقع الحسّاس للقضية الكردية في سوريا التي لا تنطبق عليها وصفات جاهزة من أية جهة أتَت.
وللإيضاح نقول أن القصد بالشعبوية هي الحالة الغريزية غير المنضبطة وغير المكترثة لحسابات الربح والخسارة، لا الناس كأفراد وبشر.
أي الحالةُ لا عناصرها.
والناس هؤلاء من “بني جلدتنا” وأهلنا أولاً وأخيراً ودائماً.
ويخطئ من يظنّ أنها قادرة على انتزاع الحقوق والمكاسب من النظام الحاكم للأسباب التي توقفت عليها مراراً في مداخلتي السابقة وهذه.
ويكفي غيابُ الأفقُ السياسيّ لهذه الحالات الطارئة والتي سرعان ما تصعد وسرعان ما تخمد، أن تكون سبباً لعدم الارتهان إليها في خلق دينامية سياسية كردية متوازنة وفاعلة ومستمرّة.
ومن الشهير تلك الآراء التي قدّمها واحدٌ من أعلام علم النفس الاجتماعي “غوستاف لوبون” بصدد الحالة الجماهيرية الغريزية التي يريدها لنا رهطٌ من سياسييننا الأفاضل ومثقفينا الأكارم.
ولولا أنّ “غوستاف لوبون” يمينيٌّ عنصريّ بجلاء كان يمكن الاستشهاد ببعض آرائه المهينة عن سهولة انقياد الشعب وراء زعيمٍ ما أو إثر واقعة ما لكنها جارحة قليلاً و غير مناسبة للسّياق كثيراًً.
(و “لوبون” هذا ذائع الصيت في العالمين العربي والإسلامي بفضل مديحه على رسول الإسلام والحضارة “العربية الإسلامية” وكتبه تباع على أرصفة الشوارع.لكن كتابه الآخر “السنن النفسية في تطور الأمم” كفيلٌ في إجلاء نظريته العنصرية القائمة على المفاضلة بين الأعراق وكذلك “وحشيّة نظريّته في التاريخ”على حدّ تعبير أحدهم).
ولهذه الأسباب وغيرها اكتفي بتسجيل حذريّ المُفرط من ظواهر الانقياد الجماهيريّ العفويّ والعاطفيّ وعدم عقد الرهانات الكبيرة عليها في ظلّ غياب بنيان ورسوخ المجال السياسيّ الكرديّ على صورةٍ واضحة ومستقرّة ومالكة لمقدّرات التحكّم والضبط وكذلك الرضوخ والاستسلام التّام لـ”ما يطلبه الشارع” أو “ما يطلبه الجمهور” من غير تهذيب وتصويب في العديد من التوجهات العفوية الخاطئة أو حتى التجرّؤ على ذلك.وكلّ ذلك بسببٍ من التّنافس الرّخيص على الشرعية الحزبوية في ظلّ الحرب على السلطة الرمزية والمعنوية.زد على ذلك دخول مستجدّاتٍ سياسية أخرى على الخط كتبدّل وجهة أنصار حزب العمال الكردستانيّ في سوريا، وهم قطاعٌ جماهيريّ واسع وكتلة متراصّة ومرصوصة لكنْ متوتّرة ومشوّشة إلى حدٍ بعيد ومن غير برنامج سياسيّ موزون ومعروف، وهم جسداً في سوريا وقلباً وروحاً وفكراً في مكان آخر مجاور.
ومن دون أرضيّة ما لالتقاط الأنفاس وأخذ استراحة المحارب حتّى أو إدراك معطيات الساحة الجديدة وممارسة العمل السلميّ بعنفوانٍ فائضٍ عن الحاجة والضرورة، وبعقليّة ونفسيّة المحارب والمقاتل العسكريّ و التشوّش الحاصل جرّاء كل هذا.
ومع فارقٍ مهمّ آخر وأساسيّ أن السياسيّ الكرديّ عندنا هو الذي ينقاد لـ”صوت الشعب” لا الجماهير هي التي تنقاد وراءه بسبب غياب كاريزما نضاليّة، لأي قياديّ كرديّ كان، تبعاً لصعوبة إحرازها أصلاً في الأزمة والمسيرة المعروفة التي تمرّ بها الحركة الكردية عندنا.
أضِفْ أن اللوحة الاجتماعية، في المناطق الكردية و ذات الأغلبية الكردية أو المدن الكبيرة حلب-دمشق حيث تجمعات كردية كبيرة، تتضمّن تعقيداتٍ أخرى لا يجوز الإغماض عنها، تَنْضافُ لكل ما سبق.كما أن السّلطة السياسية ليست خصماً سهلَ المنازلة الميدانية بل هي خارجة عن كلّ الأعراف الوضعيّة منها والسماوية كي لا نتحدث عن القوانين.
عليه نقول، ليس من مصلحة الكرد أن تكون مناطقهم ساحة مفتوحة أو ميدان الصراع السياسيّ مع أجهزة السلطة الضاربة كما تشيعُ خطاباتٌ متحمّسةٌ مُنتشيةٌ (بماذا؟).
بـ…….أننا نملك بضعة مواقع انترنت كردية ستنقل الأخبار إلى العالم ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي!! هذا المجتمع الذي ينتظر منّا أيّة شاردة وواردة للضغط على النظام ومطاردته – كما تجسّد مؤخراً في الاحتفال بعيد الثورة الفرنسية في باريس!-؟ (نظرية كردية بليغة وذائعة الصيت في العالم كلّه وتُردّد عندنا بدون أن تستوقف أحداً منّا).
وهناك سببٌ وجيه آخر (أي نظرية كردية أخرى) بنظر هؤلاء، وهو فقط لنؤكّد لبعضنا البعض أننا لسنا جبناء وغير متخاذلين، ومثلنا مثل أكراد العراق وتركيا وإيران، ندفع التضحيات “الضرورية”!.
وإذا كانت التضحيات شيئاً مألوفاً واعتيادياً في العمل السياسيّ المعارض والمستقلّ في سوريا (وحتى الصمت ليس يكفي لاتقاء شرّ السلطة)، لأنها من طبائع السياسة والاستبداد في بلدنا لا لأنها “ضرورة” نضالية بالطبع كما تُفيد النظرية الكردية، فسيكون من أقصى الحكمة و الشعور بالمسؤوليّة إنْ نحنُ تجنّبنا كشف “المجتمع” أمام أجهزة السلطة وضراوتها والتي تعمل بالعقوبات الجماعية في الحالة هذه، وعَمِلنا على اقتصار “المواجهة” على النّشطاء السياسيين المكرّسين (والكتّاب والمثقّفين،لا قدّر الله).”نظرية” كردية أخرى تقول أنه كلّما اعُتقل منا الكثير كان ذلك أفضل لنا،كأننا نتخلّص من عارٍ يلاحقنا، ويعني بالضرورة أننا نتقدّم أشواطاً قدماً باتجاه الحلّ.
فهيّا بنا.
إلا أن النظرية الكردية الأكثر إدهاشاً- وقد أمْسَت بمثابة محرّك السياسة الكردية وقد تُفسّر حركة التاريخ البشريّ كلّه- وهي كالآتي: كلّما رفعنا سقف مطالبنا إلى الحد الأعلى كان ذلك أفضل وأجدى لأننا سنحصل على أقل منها بالتأكيد.
وهذا أفضل من أن نطالب بحدٍ أدنى ولا نحصل على أي شيء! وهذه النظرية -التي لا يُعرفُ واضِعُها بالضبط وهي مثل الأغاني الفلكلورية إبداعٌ جماعي- تردّد في الأوساط الشعبية والسياسية و”النخبوية” الكردية.
وإياك والتشكيك فيها لأنها مُثْبَتة كبعض القواعد العلمية في الرياضيات والفيزياء وإلا ستُرمى بالانتهازيّة والمُساوَمة (والجهل والغباء).
وعمّ نتحدثُ بعد، وعمّنْ؟
عنْ الوَقَار الذي يُذكر به اسم” رفعت الأسد” في بعض الخطابات الكردية “الجادة”.
ويجب أن يسبق، دائماً وأبداً، اسمه بلقب “الدكتور” كي لا نغمط حقّه في الشهادة التي قضى جلّ عمره بحثاً وتنقيباً قي الدراسة والكتب والمجلدات لتحصيلها.
(وأفضل من يروي حكاية دراسة “الرفيق” رفعت الجامعيّة هو وزير دفاعنا الموقّر الأسبق، صاحب المواهب الشعرية والغَزَل وفنّ الطبخ).
كادَ بعضهم أن يلقب رفعت هذا بـ”صديق الشعب الكردي”(أي مثله مثل الراحل هادي العلوي).
وكلّ هذا نكاية بالأحزاب الكردية الأخرى (وتخصيصاً تلك المنخرطة في إعلان دمشق).
ولمن لا يعلم فالعصبية، الحزبوية هنا، تُعمي البصر والبصيرة.
أليس هم أنفسهم من رأوا في لقاءٍ أمنيّ مُفبرك دليلاً على عَظَمَة أحزابهم وسيطرتهم على “الشارع” الكردي؟ ولو أن أطرافاً كردية انزلقت إلى تلك اللعبة الأمنيّة المفضوحة والهفوة غير اللائقة لرأينا كيف تنقلب الشعارات في الاتجاه المعاكس.
واستطيع تقديم سيناريو لذلك، لكن لا نريد إضاعة المزيد من الوقت في ذلك.
وعن ذاك” السائح” الذي استند إلى تحليلات عميقة ومراقبين حياديين ليتوصلّ إلى أن “إعلان دمشق” مدبرٌ في دهاليز أجهزة المخابرات السورية.
وحتّى إن لم كذلك فهو -أي الإعلان- مؤامرة على الشعب الكردي بالتأكيد لأنه لا ينصّ “صراحة” بحق الشعب الكرديّ في تقرير مصيره والاعتراف بكردستان سوريا.
قبل أن يقدّم لنا محاضراتٍ عن مبدأ التوافقات التي قادته إلى الانخراط في جبهة خلاصٍ للشعب الكرديّ والسوريّ كلّه بقيادة ديمقراطيّ معتّق نزيه والذي يستظلُّ بظلّه السياسيّ الكرديّ المُخضرم ذاك.ولحسن حظّنا أن الديمقراطي البعثي النزيه لم يُجامل أحداً منذ اليوم الأول.
فهو يعترض صراحة على كل تعبير من قبيل المناطق الكردية أو القضية الكردية و ما شابه.وهو بذلك أراحنا كثيراً.
لأنه لو لم يفعل لكان من السهل أن يطالبنا رفيقه الكرديّ،والمعجبون بـفلسفته وحكمته في السياسة والحياة وأمور دنيوية أخرى،بحلّ أحزابنا والانضمام إلى جبهة الديمقراطي الجديد.
وهل مستغرب أن يفعلها؟
وعن ذاك السياسي الذي أفتى أكثر من مرة أن كل من لا يقول بالحرف بـ”الجزء الكردستاني الملحق بسوريا” إنّما يخدم السلطة والنظام (والعرب) في سوريا!.
وهذه نظرية كردية أخرى.
وعندما استغنى السياسي ذاك بنفسه عن خدمات تلك النظرية لم يقدم لنا تفسيراً مقنعاً.ربما يعود إليها ثانية عند الحاجة ورغبة “الشارع”.السياسي الكردي “الشوارعي” ( ونقولها من تمثيل الشارع حسب رغبته هو،لا سبّة ولا تهمة منّا له ورفاقه) لا يستطيع المجاهرة بآرائه حتى لو تبيّن له تهافت مقولاته فيما بعد.
وقد بلغ الخوف لديه من “الشارع” (ومن السياسة) مستويات بليغة.
والسياسي النبيه هذا نفسه عندما اضطر بعد حين لإقرار بمشروعية وجود أحزاب كردية أخرى غير حزبه الجبّار القائد للمجتمع.شرح لنا نظريته عن التعددية الحزبية كالتالي: التعددية ضرورية، كي يعرف الشارع من هم العملاء والجبناء ومن هم المناضلون والرجال الحقيقيون!
وعن خيمة تأبين وعزاء المغدور الشيخ معشوق الخزنوي، التي تحولّت إلى هرجٍ ومرجٍ بالمعنى الدقيق للكلمة لا المجازيّ .
كادَ بعضنا أنْ يرقص من الفرح لأنه رأى في تلك الأيام الأليمة فرصة ثمينة لا تعوّض.
خطابات رثّة ومغازلة رخيصة لعواطف الشبان والمراهقين.
كتاباتٌ في المواقع الكردية تنبذها الذائقة الأدبية قبل الرأي والتحليل لهشاشتها وفرط التصنّع والاستعراض فيها.
مزاوداتٌ على قارعة الطرقات.
“قيادات شابة” و”دماء جديدة” تتصدّر المشهد السياسيّ وتقودنا (إلى أين يا ترى؟).
يكفي القول أن تلك الجملة الضعيفة والسطحية والاستعراضية قيلت أكثر من مرة من قبل “سياسيين مخضرمين” عندما اعتلوا المنبر أكثر من مرة: إذا كان هذا هو التشدّد فنحن متشددّون ومتطرّفون.
ونفتخر بذلك.
وهل من أهان الرجل المغدور أكثر من الذين احتفلوا في مقتله، حين صوّروا الرجل على غير هيئته وتوجّهاته السياسية المُعلنة والواضحة قبل مقتله؟ ماذا تقول في أناسٍ يرون في الاعتدال والتواضع والدعوة الإصلاحيّة عاراً وعيباً ما بعده عيب، كأنّ بهم يعملون على تخليص المغدور من إثمه الإصلاحيّ بإسباغ أوصافٍ لم يردها هو لنفسه ولم يعمل من أجلها؟
وهذه نظرية أخرى -مستجدّة نسبياً لكنها بدورها تحوز إعجاباً خاصاً في “الأوساط” السياسية الكردية- تفيدُ بأن التشدّد الكرديّ ليس مبرر ومفهوم فحسب، بل ضروري أيضاً!.
أمّا لماذا التشدّد ضرورة.
فالتفسير هو بناء على مثلٍ شعبيّ كرديّ – يُردّد في جبل الكرد، عفرين كثيراً- كلّ بيت فيه مجنون، الناس يخافون منه أكثر.
ليكن لدينا متشددون حتى يخاف منّا الناس!.
وليس غريباً أن تسمع بهذا الكلام الرّصين من أناس بسطاء ومن قيادات شابة أو مخضرمة بنفس الوقت.
والنظريات الكردية كلّها على هذه الشاكلة.
وعن تقلّبات ذلك السياسيّ النبيه والصّادق مع نفسه أبداً.
الذي يرمي كل من خارج حزبه بـ”القصور المعرفي” وربما التخلف العقليّ.
حزبه الذي يثير مجرد ذكر اسمه الميمون الذُعر والهَلَع في أركان النظام.
وعبارة “السوية المعرفيّة” (التي لا معنى مفيد لها، خاصة عندما يقولها هو.
إلا إذا اعتبرنا أن مقياس “السوية المعرفية” مخبئ في جيوبه.
مثلما يخبئ سليم بركات مفاتيح اللغة العربية في جيوبه على ذمة أدونيس) التي يردّدها هذا السياسي والمثقف والناشط ، بداعٍ ودون داعٍ ولا يعرف معناها على وجهٍ صحيح، كي يغطي بها عجزه المزمن في الفهم والكتابة وعقدة نقص بليغة لديه وشهوة التمايز والإدّعاءات الزائفة واعتلاء المنابر.
وماذا نقول في الوفد رفيع المستوى من المسئولين الأوائل في أحزاب كردية عديدة وهم يتراكضون إلى اجتماع عاديّ في العاصمة للالتقاء بمسؤول (أو مسؤولة) ما في الدولة.
والسياسيّ الكرديّ – يا حرام- يحلمُ بأيّ لقاء كيفما وحيثما اتفق ومعَ مَنْ ومِنْ تدبير أيّ كان.
وماذا نقول في المهازل التي تسبق (وترافق وتتلو) التهافت على الدخول إلى “برلمان الدمى”…… وماذا بعد؟
كم تبدو رثّة وفقيرة تلك الخطابات التي تستقوي بشبّان في مُقتبل العمر لحلّ قضايا إنسانية وسياسية شائكة كقضيتنا الكردية (وفي الواقع لمجابهة أحزاب أخرى).
وجدنا بأمّ عينينا كيف يسير قادة وزعماء سياسيين خلف سائقي دراجات نارية مبتهجين فرحين بإنجازهم “القومي” الكبير في صورة لا تسرّ الأصدقاء أبداً.
و الأنكى أن يعايروا سياسيين آخرين لعدم انقيادهم بالصورة التي انقادوا هم فيها مستسلمين بـ”براءة” تامّة لـ”نبض الشارع الكردي” نبضةً نبضة.
و الحقّ أن “الشارع” كلمةٌ مُهينة للغاية، كما لاحظ مفكرٌ عربي، وقد نزيد أنها غامضة كثيراً وغير متعيّنة.
كاتبٌ آخر يقترح تعبير “رأي عام” احترماً للبشر بدل هذا التعبير المُهين.
لكن الرأي العام لن يتبلور إلا في ظروف الاستقرار السياسي و مناخات الحرية والديمقراطية و تكافؤ الفرص وعبر صحافة حرة ومؤسسات فعلية.
وحتى في هذه الأجواء يخضع الرأي العام لهيمنة وسائل الإعلام والدعاية ومصالح الشركات و و….
وسواء كنّا أمام “رأيّ عام” أم “شارع” فإننا قد وُهبنا عقولاً ينبغي أن لا نوفّر استعمالها في أية لحظة.
والعَقْلُ أَعْدَل الأشياءِ قسمةً بين الناس كما يقول ديكارت.
غير أن استعماله وتمرينه يخضع لشروط واعتبارات عدّة.
فحتّى أشد الإيديولوجيات احتفاءً بالجماهير والشعب نراها لا تتحرّج من ضرورة “نقل الوعي” إلى الجماهير من خارجها على ما قال لينين مُوكلاً المهمة إياها إلى حزب الطبقة العاملة.
وإنْ بدا هذه الكلام هذا نخبويّاً إلى حدٍ بعيد، وهو كذلك فعلاً، فلا ضيرَ ولا حَرَج.
فكل مفكّري الطبقة العاملة- كما يبيّن جورج طرابيشي- لم يكونوا عمالاً قطّ بل برجوازيين وأنصاف ارستقراطيين من سان سيمون إلى كارل ماركس وغيرهم.
(ينظر كتاب طرابيشي: هرطقات 2 الصادر حديثاً عن “دار الساقي” و “رابطة العقلانيين العرب”، 2008م).
فما خطبُ السياسيين الكرد يدّعون تمثيل روح “الشارع” والاستسلام لخياراته كيفما اتفق؟ خيراً إن شاء الله؟
وإذا كان “الشارع” البسيط يستحقّ منّا التعاطف والاحترام والعمل على ترقيته من داخله، ولكن من خارجه أيضاً وهذه مهمة السياسة الحقيقية على ما نرى، وتوجيهه بيقظةٍ دائمة فإنّ “الشّارع الانترنيتي الثائر” بشقّيه “الأوربيّ” (ولا فَخر) أو الداخليّ، قتلاً لأوقات فراغه بـ”السياسة” أو”الشعبويّة الشعاراتية” الهائجة من الداخل والخارج و التي يأتي إرضاؤها على حساب السياسة تماماً، لا يستحقّان أدنى قسطٍ من ذلك بل السّخط والإدانة وحسب.
ويا لفخرِ بعضنا وقد التقط صوراً تذكارية ونشرها على صفحات الانترنت مرفقة بعباراتٍ صادحة، مخرّشة ومؤلمة لحنجرة الإنسان السّويّ، عن تمثيل الشّارع الكرديّ الصّامد والأمّة الكرديّة المجيدة، وعَظَمَة أحزابهم وتخاذل الآخرين…… وقُربِ يوم الفَرَج والسَّعد.
فابشروا: أنتم في زمن السَّكْرة القوميّة و البهلوانيات و الشّعارات و”النظريات” المؤلّفة على قارعة الطرقات وشوارع الانترنت في قامشلي وعفرين وكوباني و……….أوربا.
أدركُ جيداً أننا نواجه ظروفاً “غير طبيعية” ونكابد أوضاعاً جائرة فظيعة.
وأعلم أيضاً، متيقّناً، أننا لم نحرز حقوقاً “ملموسة” لا لكوننا ضُعفاء و غير عقلاء و غير موضوعيين وغير موحَّدين أو لأننا لا “نتقن” السياسة كما يُرجِع بعضٌ من مثقفينا الأفاضل، في سياق التهكّم على الحركة الكردية والسّاسة الكرد في سوريا، سببَ أوضاعنا لعدم” إتقان” الساسة الكردية السياسة بخلاف السّاسة الكرد في العراق مثلاً -أو الأمريكان تارة، إذ يعود سبب قوّة ومنعة بلادهم إلى ذكاء سياسييهم، كذا! ، فالأمر برمّته تقنيٌّ والحال هذه.
نعم هكذا قال “مفكر كبير” قبل سنوات!.
وهذه “نظرية” كردية أخرى اخترعها مفكرونا ومثقفونا الأفاضل.
يُرجى أخذ العلم.
غير أنّ النّظر الثّاقب ينبغي عليه أن يذهب لعمق المشكلة.
السياسة لا تبنى على التحريض لوحده والتعبئة ومدارس الإعداد الحزبي التي ما صَنَعَت سياسيين حقيقيين وسياسة جديرة بالبقاء والتفاعل مع المتغيرات الدائمة والتي لا تنتظر موافقة من أحدٍ منّا.
والمأساة الكبرى أن جلّ نقاد الحركة الكردية في سوريا من الكتاب والمثقفين لا تستوقفهم كل ما ذكرناه أعلاه.
إن لم يكونوا معجبين بها ومروّجين لها بثورية وعنفوان.
وقد يرون في تناولها بالإشارة والنقد خدمةً جليلة للنظام.
على العكس من ذلك فهم يريدون لمنْ لمْ يتورّط بعد في تسطيح الوعي والثقافة والمهازل السابقة أن ينزلق هو أيضاً إلى المواضيع و المواصيل الهزيلة.
أي القضاء على شذراتٍ وبذور قليلة للعقلانيّة في السياسة اليوميّة الكرديّة.
كي تكتمل الصورة وتغدو تمثيلاً حقيقياً لـ”الشارع”.
أليس “الشارع” هو المُبتدأ والمُنتَهى والمُشتَهى في سياستنا الكردية الحكيمة؟