«فيدرالييو» هولير و «كونفيدرالييو» بغداد

  صلاح بدرالدين

          نشبت الحرب الأهلية (1861 – 1865) في الولايات المتحدة الأمريكية بين الحكومة الفيدرالية التي عرفت با “الاتحاديين” مقابل أحدا عشر ولاية جنوبية متمسكة بالعبودية.

أسست ما سمي الولايات الكونفدرالية الأمريكية و أعلنت انفصالها عن باقي الولايات الشمالية.

قوات الاتحاد كانت تحت قيادة الرئيس أبراهام لينكون و الحزب الجمهوري (حزب الرئيس الحالي جورج دبل يو بوش) الذي كان يعارض توسيع العبودية و يرفض أي إعلان بالانفصال للولايات الجنوبية.

بالرغم من اسم الحرب الأهلية فإن القوات الكونفدرالية الجنوبية انحصرت رغبتها في الانفصال و ليس السيطرة على الحكومة المركزية (الفدرالية).

بعد معركة أنتيتام في سبتمبر 1862 أصدر لنكولن إعلان تحرير العبيد جاعلاً من تحرير العبيد في الجنوب هدفاً للحرب.

التصريح بهدف تحرير العبيد أكد ألا تتدخل أياً من بريطانيا أو فرنسا في مساعدة “الكونفدراليين” .

كما أن هذا الهدف المعلن ساعد على ظهور مقاومة من الأمريكيين الأفارقة في الولايات الجنوبية ، و هو عامل لم تتداركه القوات الكونفدرالية إلا متأخرة .
في عام 1864 تمكنت قوات الاتحاد من تحقيق أفضلية كبيرة على الجنوبيين في الجغرافيا و الاستراتيجية و النقل مما أضعف الجنوبيين كثيرا أما إعادة الوحدة الكاملة لجميع الولايات المتحدة فقد  أخذت عملاً و جهداً في مرحلة ما بعد الحرب ضمن عملية عرفت إعادة التأسيس.

خلفت الحرب أكثر من 970,000 قتيل (3% من مجموع السكان) تتضمن مقتل 620,000 جندي – ثلثيهم عن طريق الأمراض.
ما زال هناك الكثير من الجدل حول أسباب الحرب و نتائجها و حتى تسميتها لكن وبمقاربة بسيطة بين وجهي موضوع بحثنا نلحظ مدى توفر عناصر التشابه بشكل عام مثل إعادة تأسيس الاتحاد بين جميع الولايات (الدولة العراقية الاتحادية الواحدة) و تحرير العبيد (الديموقراطية والشراكة العادلة في السلطة والثروة)  وقطع الطريق على أي تدخل انكليزي وفرنسي تحت حجج وذرائع مختلفة مثل قضية العبيد (رفض ومواجهة شتى التدخلات من الجوار العراقي تحت حجج قومية أو مذهبية)  وتقارب في حجم الخسائر البشرية وويلات التهجير والحرمان والابادة  والفارق الأهم في الحالتين أن ” كونفدراليي ” أمريكا لم يرغبوا في السيطرة على المركز الفدرالي بعكس نظرائهم العراقيين .
   بدأت بهذه المقدمة التحليلية المستخلصة من رؤا الأمريكيين أنفسهم من النخب الثقافية وعلماء السياسة والتاريخ والاجتماع الذين أرخوا لقيام الدولة الأعظم في العالم بعد حروب دامية والتي تشكل الآن الدولة الديموقراطية الأولى وبهذه المقارنة بين الحالتين رغم البعدين الجغرافي الممتد من المتوسط مرورا بأوروبا وضفتي الأطلسي والزمني الممدود مائة وخمسين عاما  بسبب بعض أوجه التشابه بين تلك التجربة التاريخية الكبرى وبين تجربة العراق الجديد من حيث الصراع المحتدم بين ارادتين واحدة تجسد النظام الفدرالي التعددي في اعادة بناء الدولة الواحدة الديموقراطية العادلة المسالمة وأخرى تهدف العكس باتجاه خيارين اما مركزية الغالبية الصارمة والظالمة ضد الآخر الأقل عددا أو الكونفدرالية المذهبية المستندة الى ثقافة رفض الآخر المذهبي المحصورة بين الشيعة والسنة مقابل ثقافة الكراهية من الأبيض تجاه الأسود في التجربة الأمريكية  وقد شاءت المصادفة أن الدولة ذاتها التي شهدت الحرب الأهلية منذ ما يقارب القرن ونصف القرن باتت معنية بصورة مباشرة بما يحدث في العراق بعد حربها على النظام الدكتاتوري المخلوع منذ أقل من خمسة أعوام ومضيها حسب قرارات الشرعية الدولية وارادة العراقيين وعبر جيوشها وخبرائها في حماية العملية السلمية ودمقرطة البلاد وصيانة وحدتها والحفاظ على سيادتها من أية تدخلات أجنبية والتي قد تدوم لسنوات قادمة حسب تقديرات العراقيين.


         العراق بمكوناته القومية والدينية والمذهبية وبكتله وقواه السياسية الحاكمة والمعارضة ومنذ سقوط الدكتاتورية يتجاذبه نهجان مختلفان في قراءة الوضع الجديد ومستلزمات التغيير وآفاق المستقبل وأسس الدولة المنشودة وطبيعة الحكم وحقوق القوميات غير العربية وفي المقدمة مسألة كردستان وصلاحيات الفدرالية وتعريف الارهاب والفصل بين الدولة والدين والمذهب والتوجه الاقتصادي وتوزيع الثروة عموما والنفطية منه بشكل أخص ومبدأ الديموقراطية التوافقية ومن أخطر ما يفرق بين النهجين مسألة كيفية بناء الدولة الديموقراطية الفدرالية الحديثة الكفيلة بضمان وحدة العراق.
  فالنهج الاتحادي المواجه والموازي للنهج الانقسامي يقف في القلب منه اقليم كردستان بتكويناته الكردية والكلدانية والتركمانية والآشورية والعربية وتعبيراته المدنية المفعمة بثقافة التسامح والعيش المشترك وقياداته السياسية الشرعية وادارته الديموقراطية العلمانية دون اغفال أوتجاهل مشاركة تيارات في الوسط الشعبي في العراق العربي وفئات محدودة من الكيانات السياسية القائمة في الحكم وخارجه وبدعم معروف من الأوساط الدولية يسير باتجاه اعادة بناء الدولة على أسس جديدة وعلى أنقاض كل ما يمت بصلة الى الدكتاتورية الشمولية المنهارة والعنصرية وثقافة الاضطهاد والتهميش تعزز الوحدة والتعايش بين مكونات العراق القومية والدينية والمذهبية على قاعدة التسامح وقبول الآخر المختلف وتبني المستقبل الزاهر لدور العراق وشعبه في قضايا التقدم والسلم والتغيير ومن أهم الشواهد التي تعزز مكانة اقليم كردستان كمحرك وضامن في الخندق الاتحادي العراقي الحقائق والمسلمات التالية:     
      أولا – ما يهدد وحدة العراق ونسيج شعبه وتماسكه الاجتماعي هو الانقسام الطائفي أو المذهبي وشعب كردستان غير معني به وليس طرفا لا في التحريض ولا في التفجير ولا في عمليات التطهير المتبادلة لأن الانتماء القومي العربي يوحدأبناء الشيعة والسنة كطرفين متواجهين وبعبارة أدق بدفع ورعاية قوى سياسية طائفية غالبة بالمال والسلاح وسلطة الدولة والعصبية القبلية المذهبية والآيديولوجية في بعض الأحيان ومداخلات الخارج والتي لايناسبها الا ظروف الصراع والاحتراب حول المسائل الهامشية على حساب القضايا المصيرية.

 
   ثانيا – من مصلحة شعب كردستان توفير الاستقرار وانجاز فدرالية عربية كردية ذات طابع قومي تاريخي وجغرافي بدون منازعات على منطقة هنا ومدينة هناك لتتحول نموذجا ناجحا في حل المسالة القومية عموما والكردية بالمنطقةعلى وجه الخصوص على قاعدة المصالحة الكردية العربية التاريخية بعد أن شابت علاقات الشعبين مظاهر سلبية بفعل سياسات وممارسات الأنظمة الشمولية العنصرية في أكثر من بلد وتقصير قوى سياسية عربية في حركة التحرر العربية على مدى القرن المنصر في فهم وتفهم القضية الكردية الى جانب تقصير الحركة السياسية الكردية في تعريف قضيتها لدى الرأي العام العربي بالشكل المطلوب.
   ثالثا – ليس من مصلحة شعب كردستان بقاء أي تأثير من الجيران على مقاليد الدولة العراقية الجديدة لأسباب سياسية وخلافها أو التدخل في شؤونها واذا كان لابد من تواجد نفوذ اجنبي بحكم ظروف قاهرة خارج الارادة من الجوار فمن مصلحةاقليم كردستان توازن “نفوذي” اذا صح التعبير وليس استفراد ايران أو تركيا اوسورية او السعودية كل على حدة بمقدرات العراق والتحكم بمصيره لذلك فان سيادة العراق الجديد من الأولويات الكردستانية.
   رابعا – صيغة التوازن الداخلي المجتمعي والسياسي بين المذاهب والمكونات ايضا من مصلحة الاقليم حتى لا يتحول نظام الحكم الى الدكتاتورية وحتى لا يستغل البعض سطوته وتفرده باتجاه نظام الكانتونات باسم الطائفة والمذهب في ظروف السيولة النفطية والعوامل المساعدة  وهذا ما ادى الى حدوث تبدل في تحالفات القيادة السياسية الكردستانية  بعد اعلان المبادىء مع الحزب الاسلامي العربي السني الى جانب التحالف الرباعي القائم مع الاحزاب العربية الشيعية.


   خامسا – من مصلحة شعب كردستان انفتاح العرب بمستويه الشعبي والرسمي على العراق ودخول الجامعة العربية بقوة في دفع المصالحة والعملية السياسية وافتتاح جميع الدول العربية قنصلياتها ومكاتبها وممثلياتها في هولير لان ذلك من شانه معرفة الحقائق عن السياسة الكردية وتقبل التجربة الفدرالية الفتية الواعدة في كردستان ومساهمة المستثمرين العرب في عملية البناء والاعمار والاستفادة من تجربة الطريق الفدرالي في حل المسألة القومية.
     سادسا – من مصلحة العراق الآخر العربي الاتحادي انتعاش اقليم كردستان اقتصاديا لانه تعزيز لتجربة شعب العراق في ازاحة الدكتاتورية وبناء العراق الجديد وبحث الكرد عن عقود نفطية لآبار جديدة قيد الاكتشاف في كردستان في ظل الوضع الأمني المستقر وبضمانات حسب المواصفات العالمية واتفاقيات شفافة حسب الدستور خطوة في ذلك الاتجاه فلماذا ذلك الضجيج المفتعل من جانب البعض الذي يريد العودة الى الوراء ويحرم الاقليم من فرص اعادة بناء ما هدمته عقلية ذلك البعض بالذات الذي نسمع كل يوم عن أخبار سرقاته النفطية ليس بالحاويات والبراميل بل بالآبار الكاملة .
     سابعا – هناك في بغداد ومن بعض الكتل السياسية المؤتلفة ومن خارج الائئتلاف بصورة أوضح من يضع العصي في دواليب التفاهم ويعمل على خلط الأوراق في كل انطلاقة جدية نحو الاستقرار والمصالحة الوطنية وعند كل زيارة يقوم بها السيد نيجيرفان بارزاني رئيس حكومة الاقليم الى بغداد بحثا عن التفاهم عبر الحوار وتأكيدا على ترابط الاقليم الطوعي بالمركز الاتحادي والا كيف نفسر تراكض القومجيين من أيتام النظام المخلوع في ما يسمى بجبهة التوافق نحو بعض زعماء الائتلاف الشيعي الحليف للجانب الكردستاني بغية توسيع فجوة الجدال الدائر بين الطرفين حول بعض القضايا الوطنية ومنها حصة الاقليم من الموارد حسب تعداد السكان وقانون النفط والغاز وتطبيق المادة الدستورية رقم 140 ومن ثم الضرب على الوتر القومي العنصري البغيض نحو اصطفافات على أسس قومية عنصرية بدلا من التحاور مع الجميع بالمفهوم الوطني اسوة بالقوى الوطنية الأخرى  وكان هؤلاء يخططون لدفع شعب كردستان المتمسك بالعيش المشترك تحت سقف العراق الفدرالي الجديد نحو العزلة والابتعاد عن المركز والخروج من الاتحاد الطوعي مع الشعب العربي .
     ثامنا – وهنا وبا المحصلة يصطدم المشروع الكردستاني الاتحادي المنفتح في اطار العراق الموحد مع مشروع انفصالي مبطن غير معلن ليس من جانب بقايا العقلية الشوفينية الحاكمة سابقا والتي يريد ايتامها الانتقام فحسب بل حتى من جانب بعض ضحايا ذلك النهج الشمولي الذي يجول بخاطره تقمص دور جلاد للآخرين  يهدف تمزيق العراق الى دويلات طائفية وكانتونات مذهبية باستعداءشعب كردستان وتجاهل تجربتهم الوطنيةالعراقية المحضة التي جاءت حصيلة قرن من المعاناة وعشرات الآلاف من الضحايا وتسعير المواجهات المحلية مما ينال رضى أنظمة دول الجوار ويدر مساعداتها ويسهل تداخلاتها التي تخشى من تجربة العراق الديموقراطي  التعددي ومن دولة عراقية اتحادية غنية وقوية قادمة.

  

  انتهاج طريق اليد الكردستانية الممدودة نحو المركز مبدأ وليس تكتيكا ظرفيا وتعبير عن واقع حال مستند الى ثوابت تاريخية ومصالح مشتركة مصيرية تتجاوز حدود العراق وثقافة اتحادية كردية عربية تؤسس لمستقبل زاهر في عراق سعيد وشرق أوسط متسامح تعددي جديد.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…