على قدر أهل العزم تأتي العزائم..

عبد الرحمن آلوجي

تنجب الأمم قادةً و مفكرين و عظماء تفخر بهم , و تعتزّ بانتمائها إليهم ..

و تزداد فخراً و اعتزازاً إذا كان هؤلاء الأعلام قد تخطوا حاجز الزمان و المكان , ليكون لهم ذكر في عوالم قصية , و أزمان طويت , و تعاقبت أدهراً و أجيالاً ..

ليكون هؤلاء طاقة إبداع , و قوة إلهام , و مبعث عافية للبشرية ..

لقد كان (لآينشتاين , و هوبز, و دوركهايم , و ديدرو, و نهرو , و إقبال , و غاندي , و طاغور, و ديكنز , و غوغول , و ت.س إليوت , و أديسون , و كيركجار , و سيمون ديبوفوار , و بيكون , و غاليلو , و محمد عبده , و جمال الدين الأفغاني , و جمال عبد الناصر ..) أثر كبير في مجالات الحياة و تقدمها , و حضارة الإنسان و تطوّرها , و فكر البشرية و تمدنها ..
فقد كان لكل واحد من هؤلاء المبدعين أثر بارز في جانب حياتي : فكراً و اقتصاداً و تكنولوجيا و اجتماعاً و مناهج و مدارس ..

ليغنوا الحياة الإنسانية بثمرات عقولهم , و عصارات قلوبهم , و بدائع قرائحهم , خيراً عميماً , و نفعاً كبيراً  و صرحاًً شامخاً غدا منارة الأجيال ..

و قدوةً لأبنائهم و أحفادهم و تلامذتهم و مريديهم و مناصريهم في بقاع المعمورة ..
و إذا كان للكورد أن يفخروا بأبنائهم قادة و مفكرين و مؤرخين و علماء و مبدعين , فمن حقّهم أن يذكروا في صحائف خالدات قادة عظاماً , و رادةً كباراً , أغنوا الحياة , و أبدعوا في جنباتها , و أضاؤوا سفرا خالداً في سجلات المؤثرين على التاريخ الإنساني , فكان منهم قائد عظيم اعترف به الشرق و الغرب , فاتحاً رحيماً و مفكراً عظيماً هو صلاح الدين الأيوبي , وجاء من بعده من رفع صرح العلوم شامخة , و الازدهار واضحة المعالم كأبي الفداء , و مؤرخه ابن شدّاد , ومن بعدهم  ابن تيمية , و الآمدي , و الإمام الجامي , و ابن الأثير , و ابن خلكان ..

وخلف من بعدهم أعلام كبار وقادة نجباء في الدول المتتابعة , و الإمارات المتعاقبة , حتى كان العصر الحديث ليبرز أعلام في الفكر والأدب و قادة في الميدان , كأمير الشعراء أحمد شوقي و قاسم أمين أحد رواد النهضة الحديثة, و العلاّمة المازني , و عباس محمود العقاد الذي كان عملاقاً في الفكر و الأدب و السياسة , و الأستاذ الرئيس محمد كرد علي مؤسس مجمعي اللغة في القاهرة و دمشق , 1919 – 1920 , و صاحب وحي الرسالة أحمد حسن الزيات , و فيض الخاطر أحمد أمين , و الرصافي و الزهاوي و الحيدري و العطار و الزركلي , و بطل ميسلون يوسف العظمة , و قادة الثورات الوطنية هنانو و الخراط  و عمر ديبو آغا , و كان منهم فطاحلة في السلم و الحرب , و السياسة و القيادة , فكان عبيد الله النهري , و سمكو الشكاكي , و إحسان نوري باشا , و الشيخ سعيد , و القاضي محمد , و محمود البرزنجي ..


و عبد السلام البارزاني , و القائد الخالد مصطفى البارزاني , لتجد هذه الأمة في هؤلاء القادة العظام نموذجاً إنسانياً رفيعاً تجلى في الإيثار و التضحية بالنفس كأقصى غاية الجود , في سماحة , و يقظة , و روح إنسانية سمحة و رفيعة , و إيمان مطلق بعدالة القضية الكوردية , كقضية شعب عريق , يزدهر حضارة , و يعلو قيماً , و يرقى في العطاء الفكري و العلمي ..

لتقف الأمة شامخة و هي تشهد بطولاتهم الميدانية , و تحديهم عوامل الإفناء و الإبادة و التمييز ..


و يبرز من بين هؤلاء القادة من اعتصر الفكر الكوردستاني , و هضم التراث النضالي , و هذّب المسيرة التاريخية , و نظم الطاقات و عبّأ إمكانات الأمة , فاستفاد من هذه عبراً سخيّة , و استلهم دروساً بليغة , فكان من أكبر اهتماماته و أشدها إثارة قي نفسه ما قلّده قائد ثورة مهاباد من وسام عظيم , بإسناده أمانة الحفاظ على علم بلاده , و رمزها الكردستاني (آلا رنكين) لينطلق بقادة العبور و الفتح وهم يتجاوزون الضفة الأخرى لنهر آراس , بخمس مئة من أفذاذ الرجال , لصنع مجد تاريخيّ عظيم تألّق عبر عقود متطاولة , فجرت أعظم ثـورة على  الأرض , كما يقول دانا شميدث , وهو  يشهد ملامح نصر عظيم في ثورة أيلول المجيدة ..

و ينتقل من الميدان إلى التنظير و تقديم خلاصة الثورات الكوردستانية و آفاقها و قيمها و مقوّمات نجاحها إلى تنظيم سياسي , استطاع أن يخرج آلاف الكوادر و يرفد عشرات القادة الميدانيين و المفكرين و الساسة و المبدعين عبر مسيرة نضالية صاعدة تجاوزت نصف قرن , لتؤسس لفكر نضالي , و تترجم عمل القادة و دماء الشهداء , و عطاءات المقاتلين إلى رؤية منهجية , و فكر عقائدي , ثبت مع الزمن , و ترسخت قواعده و معطياته مع الأيام , ليكون نهجاً وطنياً و قومياً و إنسانياً رفيعاً , صلح أن يكون بمثابة فكر مستنير ممارسة و نظرية , تستند إلى قواعد فكرية و أخلاقية و نظام إدارة و تشريع سياسي , تجلى في امتدادة ثورة أيلول إلى ثورة كولان , و التجربة الديمقراطية لإقليم كوردستان , التي يقودها أبناؤه الأبرار و تلامذته و أنصاره , و قادة الفكر الكوردي المعاصر , ليكون هذا النهج باعثاً حقيقياً للتأمل و التحليل و استكناه فكر معاصر , و رؤية متماسكة , و قيم تترسخ مع الأيام , و ليكون من ذلك كله مدرسة سلام و تآلف و تسامح , تؤمن بالإنسان و قيمه و حريته , و تسعى إلى حالة من التوافق الوطني و القومي , من خلال ممارسة ديمقراطية واعية و عادلة , تحترم فيها العهود و المواثيق و الاتفاقات , ليشكل ذلك مدخلاً أساسياً إلى زرع الثقة, و بث الطمأنينة في النفوس ,و إبعادها عن شبح الحروب و آثارها المدمرة , و الإرهاب ووجهه الكالح , و الكراهية و العنصرية و أوضارها و جنوحها إلى فلسفة الإلغاء , و رؤية الإنكار : إنكار الآخرين ووجودهم و حقهم في الحياة , و امتدادهم الحضاري ..


لقد أدرك البارزاني الخالد – و هو يسطر عملياً , و من خلال حياته و ممارسته – أن عمر الشعوب و تاريخها و حضارتها و تراثها و قيمها , أكثر بقاءً و خلوداً و عظمة , من ثلّة عابثة طاغية مستبدة , سوف يقبرها التاريخ , و تنتهي كما انتهى هامان و فرعون و قارون و نيرون , و طغاة و جبابرة أفنوا البلاد , و ذاقوا أهلها الشر و عقابيل الفساد , و بقيت الحضارة , و شمخت الشعوب بأبنائها البررة الأطهار , الذين سَموا على الترهات , و خطوا للبشرية سجلاً ناصعاً , و فكراً سامياً , و مجداً سوف تذكره الأجيال (Generations) ..
لقد أحيا البارزاني الخالد , بفكره و عقيدته و قيمه الروحية العالية , و تضحياته الكبار و همته العالية و عناده و إصراره , ما يستحق أن يخاطب به عظيماً رائدا , على قدر عزمه , و بحجم تضحياته , لتكون عزائمه و مراتبه , و قدره العظيم  بمقدار ما أوتي من عزيمة لا تتراجع , و إرادة فولاذية لا تقهر , لتأتي على قدر ذلك كرماً و فضلا و سخاءً من قومه , و عرفانا من الإنسانية , ليرفع لواؤه في واشنطن في مركز السلام للبارزاني الخالد , رمزا لأمته , و موئلاً للأحرار , و معهداً أكاديميا تنتهج فيه , و من خلال أروقته قضايا العدل و السلم و الحرية  , لقد أحيا البارزاني الخالد عقيدة أمة , و أشاد عزّا شامخ البنيان , قلت فيه في فجيعة رحيله في الأول من آذار عام 1979 :
لا لن تموت ..

تظل رغم نعيّهــــــم * * رمز الخلود شعار كردستـــان
ما مات من نقض الضلالة و العمى * * علماً يلوح كرائع العرفــــــــان
و إلى ثراك أزفّ أعطر ســـــــورة * * أمّ الكتاب مثانـــــــــيَ القـــرآن
لقد أعلى صرح فكر ديمقراطي , و أشاد بناء عقيدة لا تعرف المهادنة مع الطغاة , و لا تلين أمام جبروت الظلم و العسف , و بؤس التخلف الفكري العنصري المقيت , و انهيار الحس الأخلاقي , و تهاوي جدار العرفان , مع طغيان نكران الجميل , و غيبة الجيرة الحميدة , و صلافة التحجر الفكري , و تبلّد روح التاريخ المشترك … لتبرز دعوته الصارخة فوق الجراح مدوّية داعية إلى وحدة وطنية صلبة القاعدة , تجاوب لها أبناء العراق الأحرار , ليكون بداية مشروع وطني رائد , و نواة عمل جماعي فاعل , تجلى في إنجاح كل مساعي الوفاق و المصالحة و التسامح , على الرغم من أقسى ألوان القهر و المعاناة و التصفية الجسدية , لتؤتي أكلها يانعة و لو بعد حين , فيعقد مؤتمر مصالحة وطنية شاملة في الرابع و العشرين من آذار عام 2004 بعد ربع قرن من رحيله , مؤكداً على مدرسته العظيمة , و نهجه الوطني السلمي , و رؤيته الرفيعة في الإخاء و المحبة و الوئام , تعالياً على جراحات الأمس , و ضحايا آلاف الكورد , و ما حاق بهم من دمار و خراب و قتل و حرق و تشريد …

إن الذكرى التاسعة و العشرين لرحيل قائد عظيم , و مقاتل فذ , و داعية سلام كبير , يذكر بأساطين الفكر و العلم , و قادة العالم و عظمائه , يجعل من الأمة الكوردية , و عطاءاتها , في مصاف  الأمم العريقة التي لا تزال تنجب العظماء كالبارزاني الخالد , الذي يذكرنا بما كتبه عنه الرحالة و الباحث الأمريكي دانا شميدث : ” لقد كان البارزاني يخرج بقرارات تعجز عنها كبريات المؤتمرات ..

” فقد كان ثاقب الرؤية , واسع الأفق , حاضر البديهة , متحدثاً هادئا و بارعا , ذا قدرة على الإقناع , قنوعا يصل إلى درجة الزهادة , متواضعاً مخالطا لمقاتليه , يؤاكلهم و يشاربهم و يجالسهم , و لا يكاد يعلو على مخلوق , آثر الفقر و الحرمان و شظف العيش مع شعبه المغلوب على أمره , و قاتل قتال الأبطال مؤمنا بالنصر و لو إلى حين , يدعو إلى السلام كلما وجد الفرصة إليه , رافضا في الوقت ذاته كل ألوان الاستعباد و الركوع يبحث و يدرس و ينقب دافعاً بالذي هو أحسن , مؤكدا على ضرورة الديمقراطية للعراق , و الحقوق العادلة لشعبه , متكهنا ” بأن الحق سوف يدمغ الباطل فإذا هو زاهق و لو بعد لأي و أمد آت لا محال … ” ألف تحية إلى ثراك الطاهر , و إلى ذكراك العطرة , آملين أن تنعم برحمة الله في فراديس الجنان … أيُّها البارزاني الخالد , في موئل الأرامل و الأيامى و المستضعفين ..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…