مسعود عكو
جبل هدر الموت دمه، قمر أطفأت الغيوم الكئيبة ضياءه، الشمس باتت تبكي زهوراً بريئة أفسد الفراق ألونها، موت طرق باباً صغيراً ما زالت العصافير تغني على أبوابه صباح الخير، آلام ضاعت بين طيات سنين الهجرة في تلافيف قروي بات بعيداً عن تلته التي احتضنته صغيراً، فصار ضيفها المتكرر كل مساء، دموع قدر مبهم، صراعات حناجر باكية، تغرز الآهات في قلوب عشاق حب أبدي، المشهد يصدر أزيز ضوضاء متلبدة، عبرات حجل كوزل تنهمر من عيني حسناء فاتنة، انتحبت قلباً بات خاوياً سوى من آسىً، وأنين لحظات أليمة كئيبة، اليراعات تنهمر من ثغورها كلمات حمراء بلون الجوري.
قصيدة أخرى تصادف ربيعاً مليئاً بالآلام، رحيل آخر ألبس العشاق وشاح أسود، ألم اخترق الأذان كدوي صاعقة سماوية تبكي من أنينها كل كلمات الأرض، وحاول القلم من خلال أنينها الأجوف، رسم ابتسامة صغيرة قد تطفئ كآبة الأيام القاحلة، وتشفي جراحاً مل الكردي من تأخر التئامها، منتظرة البوح بحنين جديد يطفأ ألم فراق أبدي.
أنين طفل يتوسل أمه لإرضاعه قطرة حنين لأب قد فارق الحياة بلمح البصر، متنقلاً من الوجود إلى العدم، أنين قرية “حاج ناصر” إلى ابنها الذي فارقته بكل بساطة، فعاد إليها محمولاً في نعش على أكتاف شبيبة، آمل سعد أن يهدي لهم شيء أخر، لا جسداً مهشماً بفعل حادث مروري، ذلك الطفل الراكض في ربوع ضيعة نائية، ورغم انغراس آلاف الأشواك في تلك الأقدام الصغيرة، كان يعشق العدو بين تلالها وفوق أعشابها وأزهارها، لم تكن تدري تلك الأشجار أن سعداً قادم مرة أخرى، ولكن بدون روح هذه المرة، جسداً فقط، وروحاً بات بجوار الباري.
في عينيها صمت يومها الأول، وجوه على قبر الكآبة آثمة، تأن الدموع من الوهن الأبتر، وآلهة الحزن تعزف لحناً حزيناً وتراً على وتر، تغني للحب أحرفها التائهة، خلف كلمات قوس أصم، لتنذر لها نهاية يوم آخر، تتنهد أوداجها حيرة، على أزيز صراخ القبل، نهدان يقصان الحب أغنية، في فم طفل يئن من الأزل، لتغني الآلام على أعينٍ، فقد الهوى كلماته بجوارها، أنينك سيدتي أبتر، يختفي في أحلام ضيعة، وتهيب بكل ألامها، لتواري الثرى روحاً غادر الكون إلى الأبد، تاركاً خلفه حسناء، وطفلاً، وأنين يوم آخر.
قرية حجي ناصر
ضيعة تحمل بين طياتها مجرى ألم قديم، يزيد عطشها عشقاً، وتسبح بين نهديها، كلمات غائبة في أنفاس معتقة، بأنين أيام قاحلة، وترانيمك الخالدة، تقص أحزاناً أخرى، في عينيك بريق ياقوتة خضراء، ترتجف ألوانها خوفاً من الوهن، وتتكسر أرواح أمثالي، عارية أمام نظرة أنين خانقة، فتبيح لها ومن جاورها، كلمات أقسى من لون المطر، وتردي الحجل حزيناً في آخر الرواق، حبك يعشعش في قلوب كظمت الغيظ، وتنتظر الكلمات المتعبة، البوح بألمك الأبتر، لعل القلم يزيح عنه، غبار الزمن الأعمى، وقلبه أسير حب، يزيده آلماً على آلم.
نفير أعلن عن ولادة موت جديد، ربيع آخر يمر ومعه روح طاهرة، أرملة أخرى تطلق، دوياً في سماء الموت عندما غنت عويلاً صارخاً حارقاً، تكاد القلوب أن تتفطر، تكاد الروح أن تتكسر، لماذا هذا الخبر؟؟؟ لماذا هذا العمر انتهى في أول النهار؟؟؟ هكذا أعلن الموت قراراً آخر في مسلسل أيام آذارنا المليئة بالآهات.
نم هنيئاً بين الحرمل المنتشر بكثرة على هضبة “حاج ناصر” والق تحية على أوركيش التي لحدك بجوارها، تلك الأرض التي تطمر تحت ثراها حضارة أبائك، وأجدادك منذ آلاف السنين، فهنيئاً لك هذا الفراق، ومبارك لك هذا الرقاد.