نحو رؤية منهجية وسياسية متطورة متوازنة في سوريا

  افتتاحية صوت الكورد *

قبل التطرق إلى واقع وحقيقة أي نظام سياسي ، لابد من دراسة تحليلية لهذا الواقع ولظروف وصول هذا النظام إلى السلطة ، وشكل ممارسته، وطريقة أدائه، وما مدى مبررات هذا الأداء ، والأساليب المعتمدة تخطيطا و إدارة وتنفيذا ؟! وما حجم النجاحات والإخفاقات ؟! كما أن البرنامج السياسي المعتمد ، والقدرة على الوصول إلى تحقيق مصلحة الشعب العليا ، وقيمه ومعاييره وما يمكن أن يحقق من الخطط والأهداف ، التي توفر للوطن قدراً كبيرا من التقدم والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، والارتقاء بالواقع الثقافي ، كل ذلك يتعلق بحجم الأداء و نوعه ومدى تلبيته لمستلزمات الوحدة الوطنية والبلوغ بها حدا من التوافق والانسجام واحترام القانون،وترتيب المكونات الوطنية، بما تتلاءم مع قيم العدل والتكافؤ والمساواة ومقاومة الفساد وضرب مقوماته وأركانه.

 

إن ذلك يتطلب منا أن نراجع سياسات النظام وانبثاقه الأول ، ووصوله إلى السلطة في الثامن من آذار 1963 إثر انقلاب مباشر، واحتكام إلى الأحكام العرفية ، واعتبار ذلك منذ تاريخه حاجة ملحة ، تعطي للسلطات والأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة ، كما تعطي لها الحق بموجب الأمر العسكري رقم 2 الصادر عن مجلس قيادة الثورة آنذاك بممارسة كل الأساليب التي تتيح لها حكم البلاد بلا منازع ، وقد جاءت القرارات التالية بكون حكم البلاد يختص بحزب البعث في قيادة الدولة والمجتمع ، والتي لاتزال سارية المفعول في كل إدارات وهيئات ومجالس الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية ، بحيث بات العرف الأحادي العربي البحت الخاصية السائدة ، والفكر الشمولي الذي ينبغي أن يسود الحياة العامة والخاصة ، الاجتماعية والثقافية والتراثية ، وما تلا ذلك من قرارات وقوانين ومشاريع استثنائية ، تمييزية بحق الشعب الكوردي ، الذي تعرض ـ بشكل كامل ـ للإلغاء والشطب وإنكار الوجود الحياتي والدستوري وما تبع ذلك من عدم اعتراف بتميزه اللغوي والثقافي والأثني ، وسائر أطياف ومكونات الشعب السوري .

وما  استلزم ذلك بالضرورة من تعريب شامل للمنهاج والمعارف والعلوم والثقافة والإعلام وسائر ميادين الحياة ، بما في ذلك من تعريب المناطق والأماكن والمسميات في المدن والقرى والأرياف والمعالم والشوارع والأزقة ، وقمع واعتقال المناضلين ، وفصل الكورد من الوظائف والجامعات والمعاهد والمدارس ..وقد ظهر في الممارسة الإدارية والمالية فساد كبير ، وإضرار عميق بالقطاع العام ، وهدر واضح للمال العام ، إلى جانب انتشار واسع للبطالة الحقيقية والمقنعة ووصول بالمجتمع السوري إلى خط الفقر ، مما يمكن رصده وتحليله ، وضرورة معالجته جذرياً ، خدمة لأبناء هذا الوطن ، وإخراجه من أزماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، بضرورة إقرار حقيقي للتعددية الأثنية والسياسية ، والأنماط الاجتماعية المتعلقة بهما ، بما يثري المجتمع ، ويدفعه إلى مزيد من الاستقرار والتقدم والاقتصاد الموجه والمخطط ، وعدم تعطيل أو تأجيل المشاريع الإنمائية والخدمية ، لانتشال الشعب السوري من التخلف والركود الاقتصادي ، والتدهور المعاشي تحت حجة المواجهة مع العدو الإسرائيلي ، والذي يتطلب بالدرجة الأولى رص الصفوف ، وبناء الحالة الوطنية ، وإنعاش الاقتصاد وتنميته ، والإيمان بالآخرين والاستعانة بهم ، في الخروج من حالة الحكر السياسي والثقافي والاجتماعي للسلطة ، وهو ما يمكن اعتباره في المقدمة لأي إصلاح إداري وتشريعي وإنمائي ، كما تتطلب المواجهة  الحقيقية إعداداً للبرامج الاقتصادية والعلمية وحسن التخطيط ، ووضع الكفاءات والقدرات والطاقات في مكانها المناسب ، وزجها في معركة البناء والبقاء لتحسن التعبير عن إمكاناتها في ظل منهج ديمقراطي ، يعتمد العدل والكفاءة والمساواة والتعبير الحر ، وكسر حالة الجمود والركود والتراجع.

كما أن مستلزمات بناء حياة مجتمعية مدنية مزدهرة و متطورة ، تتطلب محاربة فعلية لكل مظاهر الفساد والرشوة والمحسوبية المنتشرة في إدارات الدولة ومؤسساتها ، وضرب بؤر التهريب والنهب والإيذاء ووسائل وأدوات الإثراء غير المشروع ، ومقاومة بروز وتضخم رأس المال الطفيلي المتنامي من خلال تنامي طبقة مستفيدة من كل الأخطاء والعثرات التي تحول دون استثمار فاعل للمنتج والمبدع والمتطور من القوى الفاعلة الساهرة على بناء وطني مبدع ومثمر باعتماد منهج إصلاح شامل يرقى بالمجتمع والدولة إلى القيم الوطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، وتشجيع القدرات الكامنة ، واعتماد مبدأ المحاسبة لوقف التطفل على حساب قوت الشعب ولقمة عيشه ، وما يتبع ذلك من هجرة مزرية في الداخل إلى المدن الكبيرة ، والخارج التماساً لفرص العمل في المهجر بما يحقق المعيشة المناسبة ، مما يفرغ الوطن من طاقاته الشابة والمبدعة مهنياً وفكرياً …إن واقع الممارسة في الإدارة والتوجيه والإعداد والتخطيط تقود إلى حالة التردي والتراجع والانكفاء ، وهو يتطلب منا التنبيه إلى مخاطر انفراط العقد ، واهتزاز الوحدة الوطنية وتعطيل للعديد من المشاريع الاستثمارية والخدمية والمعامل ومؤسسات الدولة ، وتراجع فعلي للناتج القومي من أثر ذلك ، الأمر الذي يؤدي إلى هروب الأموال إلى خارج الوطن في حالة نزيف اقتصادي متواصل في ظل غياب واضح للرقابة والمحاسبة ، هذا الغياب المحكوم بظاهرة الإدارة المستندة إلى عوامل آنفة الذكر ، مما أضعف عنصر المسائلة وما تستحق من عقاب رادع يقي من كل الأخطاء والمنزلقات والأزمات وانعكاساتها الباهظة على السوية المعاشية والقدرة الشرائية والطاقة الإنتاجية المبدعة.

وتبرز المعاناة المضاعفة التي يتعرض لها الشعب الكوردي في سوريا وطنياً في ظاهرة الاضطهاد القومي التي أتينا عليها والمتجلاة في سياسة الإنكار والإلغاء والقوانين والمشاريع العنصرية المطبقة بحقه ، والإجراءات الاستثنائية غير العادلة من حزام وإحصاء وملاحقة واعتقال ، لتفاقم الحالة المعاشية والاجتماعية للكورد إلى جانب اغتراب روحي وما يتبع ذلك من حالات الحرمان والتمييز والفقر والجوع والهجرة ، مما يؤثر سلباً على الحالة الوطنية العامة بتغييب قوى واسعة كثاني قومية في سورية ، وإبعادها عن الانخراط في مجمل العملية السياسية.

إن مراجعة متأنية وطنية وجادة تستدعي ملاحظة كل أسباب وعوامل رفع السوية الثقافية والتوجيهية والتربوية والاقتصادية من جديد ، وعلى مستوى الأداء الإداري والتخطيط و المنهجية والبرامجية المقننة ، بما يشكل نقطة انطلاق واسعة نحو التجذر في التغيير والتطوير وإعادة التشكل والنظر في الحكر والاستئثار للوصول إلى حياة سياسية جامعة ومستنيرة توظف القوى المجتمعية والفاعليات ، وألوان وأطياف المجتمع السوري بكافة قومياته ومذاهبه ومعتقداته وأفكاره ، في ظل توجه عادل وبناء ، ورؤية اقتصادية وطنية تضرب مواقع الفساد والرشوة والتسيب وتضع الدولة في مسار قانون عصري ، تلغي الأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية ، وتسعى إلى إدارة ورسم سياسة ضريبية عادلة ، كما ترقى إلى إقرار دستوري بوجود الشعب الكوردي في سورية ، وما يستلزم ذلك من استحقاقات تشريعية وقضائية كثاني أكبر قومية في البلاد ، وضرورة إشراكه في القرار السياسي ، وإطلاق حالة حوار شاملة وبناءة ، من خلال سياسة متوازنة وعادلة ، تحقق قيم ومستلزمات الوحدة الوطنية المثمرة التي تنتهج توزيعاً عادلاً للثروة الوطنية ، وزجاً بكل المعطيات والإمكانات والموارد والبنى والطاقات في بناء حالة شاملة ، صحية ، ومعافاة ، للوصول إلى مجتمع كامل ، متفاهم حواري ، واضح التعددية ، متهيئ للإنتاج والإبداع والتطور.
——
*  الجريدة المركزية للبارتي الديمقراطي الكوردي – سوريا / العدد (320 )  كانون الأول 2007 م / 2707 ك

·   لقراءة مواد العدد انقر هنا  dengekurd_320

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…