كان يريد أن يقول لي وداعاً.
كان الموقف بالنسبة لي وله على غاية الصعوبة والحزن؛ فكلانا يدرك أن موعد الرحيل النهائي قد اقترب، والفراق سيكون أبدياً؛ والحسرة المشتركة ظلت قائمة، فقد كنا نتطلع إلى اللقاء الأخير الذي لم يتم.
فقد كنت متيقناً من قرب الموعد المحتوم؛ ولكن ما أثار دهشتي هو أنه كان أقوى وأكثر تماسكاً في هذه المرة؛ وطلب مني أن اطمئن، فالأمور عادية، ولا داعي للقلق؛ لكنه أردف قائلا: كانت أمنيتي أن نلتقي ثانية، سواء هنا أو هناك…ولكن….
يبدو أنه لم يكن قادراً على المتابعة؛ وتوقف الكلام فيما بيننا على أمل أن نكمله لاحقاً، الأمر الذي لم يحدث بكل أسف.
فقد كان الحديث مع عزيز في طريقه إلى الرحيل الأبدي مؤلماً، قاسياً، لذلك كان الكلام بيننا يتوقف، ويسود الصمت البليغ.
ويوم أمس حينما دخلت أم ابراهيم إلى المكتب وأنا منهمك في العمل، شعرت أن شيئاً ما قد حدث؛ وما أن مهّدت للموضوع حتى بادرتها على الفور: يبدو أن حسن قد غادر دنيانا.
أليس كذلك؟ فأومأت برأسها والدمع في الأعين.
سادت لحظات صمت حزينة‘ قطعتها قائلاً: كنت أدرك أن النهاية وشيكة، لكن الأمر مع ذلك صعب ومؤلم.
ارتديت ملابسي على الفور، وخرجت من المنزل أسير من دون هدف سوى الرغبة في أن أكون مع ذاتي.
وتوالت أحداث الماضي كشريط سينمائي يحتفظ بتفصيلات أذهلتني، وأثارت استغرابي؛ فقد كنت أعتقد أن عذابات الغربة بوحشيتها قد التهمت الكثير من المعطيات والوقائع السالفة؛ ولكن ها أنذا أسير في ردهات الذاكرة، وأعود إلى بداية السبعينات، وهي الفترة التي عرفت فيها حسن لال لأول مرة، وكانت بداية عهدي مع العمل السياسي على الرغم من صغري سني في ذلك الحين.
كان حسن يأتينا من قريته خاص التابعة لناحية عامودا.
ونظراً لوجود أكثر من حسن بين الرفاق والزملاء، نُسب حسن إلى قريته، فكان يُعرف بيننا ب: حسني خاسي، وذلك بموجب اللفظ الكردي.
التقينا مرات عديدة في عامودا في غرف رفاقنا وأصدقائنا الطلاب من أهل القرى التابعة لعامودا.
كما دعانا حسن إلى قريته حيث حصلت معرفة بيننا وبين أهله وبعض الأصدقاء هناك.
ومرّ الزمن، وانتقل حسن إلى عامودا مع أهله؛ وامتهن الحلاقة التي كان يجيدها قبل سكنه في عامودا.
ومع الوقت غدا صالونه الخاص بالحلاقة مكاناً لجلساتنا ومواعيدنا.
كنا نلتقي لديه نتداول في مختلف القضايا؛ ومع الأيام كان الصداقة بيننا تتعزز وتتوطد؛ وكنت أكتشف أكثر فأكثر بأن حسن هو من المعدن النادر بين الرجال.
متواضع، مخلص، أمين، يَحترم الجميع، ويُحترم من قبل الجميع.
كانت علاقاته ودية مع سائر الرفاق في منظمة عامودا للحزب، ومع أعضاء وأنصار الأحزاب الأخرى؛ بل مع جيرانه وأهالي عامودا بصفة عامة.
كان يبغض القدح والذم والحقد؛ ويرغب في التواصل، يرتاح إلى النكتة، ويحب شعبه إلى درجة العشق.
كانت ظروفه المادية صعبة، لكنه كان عزيز النفس، يحصّل رزقه بكده وجهده؛ لم أجده يوماً مشتكياً متبرماً من سوء أحواله؛ كان متفائلاً شجاعاً من دون ادعاء، كريماً من دون تكلّف.
وشاءت الصدف أن أكون فيما بعد مسؤول حسن الحزبي على الرغم من فارق السن – فقد كان يكبرني بنحو ثماني سنوات- وقد ساعدتني تلك التجربة على اكتشاف المزيد من الخصال الحميدة في شخصيته.
فقد كان دقيقاً في مواعيده، يحرص على أداء مهماته على أكمل وجه؛ يلتزم بالتعليمات، يكره التباهي، ويمقت نزعة إظهار الذات التي عادة ما تكون سبباً من أسباب المشكلات التنظيمية في الأحزاب.
وتلاحقت السنوات، والثقة الخالصة تترسخ بيننا، وكذلك الاحترام المتبادل.
واجهتنا مع الرفاق الآخرين صعوبات كثيرة؛ ولكن بين الحين والآخر كنا نخفف عن أنفسنا بعض الشيء بتنظيم حفلات صغيرة، ونقيم سهرات تجمع بين الأصدقاء؛ كنا نخرج في رحلات نحو عين ديور وسري كانيي.
كنا نتسامر، نتبادل المعلومات والطرائف، ونستمع إلى أغاني بعض الإخوة من أصحاب الأصوات الشجية.
كنا نلعب بالفناجين والخاتم.
لم نكن نتملك أجهزة التلفاز، ولم تكن هناك هواتف؛ أما الحاسوب فقد كان بالنسبة إلينا من الخيال العلمي.
ومع ذلك كنا نقرأ، ونتابع الأخبار، ونتعلم اللغة الكردية قراءة وكتابة، على الرغم من المراقبة والمتابعة الأمنية المستمرة لجهودنا، وعلى الرغم من المضايقات والاعتقالات التي كان يخضع لها بعض الرفاق بين الحين والآخر.
وهكذا تتابعت الأعوام، وواجهتنا مشكلة عويصة داخل الحزب “الحزب الديمقراطي الكردي في سورية- اليساري”، وذلك نتيجة التعارض بين وجهتي نظر: واحدة تميل إلى السير على المألوف العقيم، وأخرى تبحث عن تغيير ضروري على صعيد الرؤية والأداة والممارسة.
وتعقدت الأمور، وأخفقت محاولات رأب الصدع جميعها في إصلاح الوضع.
وهكذا واجه الحزب عملية انقسامية، تجلت في ظهور حزب الشغيلة الكردية في سورية الذي ألزم أعضاءه بجهود تنظيمية وسياسية كبيرة بحق، وكانت النتائج واعدة مبشرة، تلفت الانتباه، وتدعو إلى التأمل والتفاؤل.
كان دور حسن في منظمة عامودا أساسياً، فقد تمكن بهدوئه وإخلاصه وتضحياته، أن يكون محور العمل بالنسبة إلى جميع الرفاق الذين كانوا يكنون له باستمرار الاحترام والتقدير.
لم يكن يحب الترقية الحزبية، يرفضها باحترام ولباقة؛ لكنه حينما كان يشعر أن الواجب يلزمه بتحمل أعبائها كان يتسلّم المهمة على مضض، ويتحيّن أية فرصة للعودة مجدداً إلى الفرقة الحزبية التي كان يعدها مكانه الطبيعي.
كنت أتابع في تلك الفترة دراستي الجامعية العليا، وأعيل أسرة من عدة أفراد، وأتحمل مسؤوليات عدة ضمن الحزب؛ وكل ذلك كان يستهلك مني الكثير من الطاقة والجهد والأعصاب، لكن زيارات “أبو دلو” أيام الأحد – أيام عطلة الصالون- كانت تخفف العبء النفسي.
كنا نتناقش – وغالباً مع رفاق وأصدقاء آخرين- معظم القضايا.
نتبادل الأخبار.
كان يحرص على تزويدي بالمعلومات الموثقة الدقيقة التي يعرفها؛ كان يريد لإعلامنا أن يكون صادقاً موضع ثقة الناس واحترامهم.
يؤكد دائماً ضرورة مد الجسور مع الجميع، لكنه في نهاية المطاف يلتزم بإرادة الجماعة.
وتعاقبت السنوات، وواجه حزب الشغيلة مرة أخرى تصرفات غير ناضجة، ومزوادات شعاراتية لم تكن تُدعم بمصداقية المواقف من قبل أصحابها.
ومرة أخرى كان حسن مع العديد من الرفاق الآخرين صمّام الأمان بالنسبة إلى منظمة عامودا.
كان يدعو إلى الحوار والتواصل، يمقت التطرف، والنزعات الصبيانية.
وجاء مشروع الوحدة مع الحزب اليساري ، الحزب الذي كنا قد خرجنا منه – أو بتعبير أدق أُخرجنا منه- من بين صفوفه (وهذا موضوع شائك يستدعي المزيد من التفصيل ربما نتناوله في مناسبة أخرى)، فوجدت حسن من أشد المتحمسين له.
يبدو أن الحنين إلى الرفاق القدامى.
كان قوياً عنده؛ كما انه كان يميل بطبعه، وبسليقته الفطرية، إلى وحدة الموقف الكردي؛ لكن غياب عصمت سيدا، الأمين العام للحزب اليساري المفاجئ عام 1989، كان صدمة كبيرة لنا جميعاً، ولحسن على وجه التحديد.
فقد كان يدرك بحسه السليم أن المدافع القوي، والحامي الفعلي لمشروع الوحدة بين اليسار والشغيلة لم يعد موجوداً؛ الأمر الذي فتح المجال أمام أولئك الذين كانوا أصلاً وراء إخراج كوادر الشغيلة من بين صفوف حزب اليسار عام 1982؛ إلا أنه مع ذلك عملنا معاً، وتواصلنا مع كل أولئك الذين كانوا مع المشروع الوحدوي في الحزب اليساري.
وحينما أدركت أن المشروع المنشود لن يتحقق بوجودي، لأن المتزاحمين على المناصب لغايات شتى كانوا يرون في هذا الوجود خطراً على تطلعاتهم، ومشاريعهم؛ وكانوا متأكدين من أن الانتخابات الديمقراطية النزيهة، في إطار مؤتمر توحيدي اعتيادي يجمع بين الحزبين، لن تكون في صالحهم.
فطرحوا شروطاً تعجيزية، من بينها أن حزب الشغيلة سينضم انضماماً إلى حزب اليسار بأربعة قياديين، شرط ألا يكون عبدا لباسط سيدا من بينهم، ولن يكون هناك أي مؤتمر توحيدي ولا هم يحزنون.
حينها استنتجت وجود إرادة ما رافضة لمشروع الوحدة من أساسه، الأمر الذي زادني عزما وتصميماً على تحقيق هذا المشروع، وذلك بالتعاون مع كل الرفاق المتحمسين بطبيعة الحال.
وهنا أود أن أعترف بأنني خدعت حسن بعض الشيء حينما أخبرته بشروط الإخوة في حزب اليسار.
فقد بينت له الجانب المتعلق بالضم مقابل اختيار أربعة في القيادة؛ ولكنني لم أتحدث عن الجانب الآخر المتعلق بي؛ وأقنعته بضرورة الموافقة على المشروع الوحدوي، بغض النظر عن الشروط والعراقيل؛ فكل عقبة تعترض طريق الوحدة علينا أن نزيلها.
هكذا كنا نعتقد ونمارس.
وجاء اليوم الموعود، يوم عرف فيه حسن أنني لن أكون من بين الأربعة المقترحين.
نظر نحوي، ولم يتمالك نفسه.
بكى بحرقة، حاولت أن أخفف عنه، ولكن من دون جدوى.
تركته لبعض الوقت، ثم بدأت أقدم له الحجج الخاصة بي؛ قلت له: أبو دلو أنت تعرف وضعي أكثر من أي كان؛ فظروفي الأسرية والمعيشية لم تعد تسمح لي بالاستمرار، لذلك سأتفرغ بعض الوقت لإعالة الأسرة، وسد الديون المتراكمة.
سأسافر إلى ليبيا بقصد العمل – وكنت قد حصلت على الدكتوراه في ذلك الحين 1991- وسأكون قريباً منكم.
ولكن أرجو أن تُقبلوا على الوحدة بعقل وقلب مفتوحين.
ولنعمل جميعاً من أجل إنجاح هذا المشروع الذي نعتقد أنه في صالح شعبنا، ونأمل أن يكون ذلك.
وغادرت إلى ليبيا من دون رغبة، ودعت حسن والدموع في الأعين.
ومع عودتي في الصيف؛ استقبلني أبو دلو مع الرفاق الآخرين بترحاب وحرارة؛ ولكن وجدت في أعينهم قلقاً وخشية على مصير الحزب من جديد.
فقد كانت الخلافات الداخلية بين أعضاء اليسار على أشدها؛ والأمر اللافت أن أحد الجناحين المتخاصمين كان يريد الاستقواء بكوادر الشغيلة، بغية التخلص من الجناح الآخر.
التقيت بممثلي الجناحين، وحاولت التوفيق بينهما، ولكن من دون جدوى؛ فقد كانت المسائل قد وصلت بينهما قبل الوحدة على ما يبدو إلى طريق اللاعودة.
وحدث الانقسام البغيض، وأصبحنا في مواجهة يسارين؛ والجدير بالذكر هنا أن الأحزاب الكردية الأخرى كانت قد عانت، أو عانت لاحقاً، من وضعية مشابهة؛ وتلاحق الأيام، وتوجهت إلى السويد طالباً اللجوء السياسي – وكان حسن من بين القلائل المحدودين ممن أطلعتهم على قراري- بغية الاستقرار النسبي هناك، وذلك بناء على تفاعل جملة عوامل خاصة وعامة.
لكن التواصل بيني وبين حسن لم ينقطع.
كنا نتحادث هاتفياً، وكم كان يؤلمني ويعذبني عجزه عن الكلام.
وما زلت أذكر أنه اتصل بي مرة في عام 1996 أو 1997، لا أذكر بالضبط (فأنا أكتب من الذاكرة) على اثر انعقاد اجتماع حزب عام، مؤتمر أو كونفراس لا أذكره هو الآخر.
كان منفعلاً غاضباً إلى أبعد الحدود ، وللأمانة أقول هنا أن الأخ الصديق فهد كان إلى جانبه أثناء الحديث، حتى أنني بين الحين والآخر كنت أتحدث مع فهد نفسه محاولا تبادل الرأي معه، وهو الذي كان له إسهامه البارز في المشروع الوحدوي، وكان يعد من الكوادر الهامة في الشغيلة.
كان حسن يحتج على تهجم أحدهم عليّ أمام المجتمعين – في غيابي بطبيعة الحال، فهو في الجزيرة وأنا في السويد-، ولم تكن هناك أية علاقة شخصية أو حزبية به؛ فهذا الشخص وفق ما نُقل إلى عبر حسن وفهد كان يتهمني بالتقصير، علماً بأنني لم أكن في أي موقع حزبي يخوّله بإلزامي بأي عمل أو إلصاق تهمة التقصير بي.
كل ما هنالك أنه أراد مني من موقع متوهم السلطة أن أذهب إلى إحدى القنوات التلفزيونية، فرفضت، وقلت له: لم ولن أذهب إلى هذه القناة طالما أنها تأتمر بأوامر حزب تسبب في مقتل الآلاف من خيرة شبابنا، وتمكّن من زرع بذور الفتنة والانشقاقات الحادة داخل مجتمعنا (وهذا حديث آخر له شجونه وتداعياته ندعه جانباً في الوقت الحالي)؛ ولكن مع ذلك أن يبدو أن صاحبنا استغل الفرصة، وبدأ يعزز موقفه، مستغلاً فرصة غيابي وغياب غيري من الكوادر التي لم تكن تفكر قط بالمناصب، والمصالح الشخصية، وإنما كان كل جل همها يتمحور حول المصلحة العامة.
تلحق الليل بالنهار، وتتحمل في سبيل أهدافها ظروفا معيشية ونفسية وأمنية لامعقولة.
كان حسن يتألم بمرارة ويقول: من هو فلان حتى يتهجم عليك في غيابك، وبأي حق يفعل ذلك؟ إنها حملة مقصودة الغاية منها تصفية كوادرنا أو إحباطها، ومن ثم إرغامها على الالتزام الأعمى بمشيئة الزعيم الجديد.
كان أبو دلو يطلب مني أن أفعل شيئاً؛ أن أساهم في إنقاذ الموقف؛ غير أن الظروف والإمكانيات الموضوعية لم تكن تسمح بذلك.
كما انني بعد مغادرتي للبلد، وخروجي من أجواء الخلافات الحزبية اليومية، كنت قد بدأت أنظر إلى الأمور بمنظار أشمل؛ وكنت قد قررت بيني وبين نفسي أن أهتم بصورة أفضل بالجانب البحثي الذي كان موضع قمعي طويلاً لصالح النشاط السياسي الذي لم أقم به في يوم من الأيام إلا من قبيل الواجب.
قلت لحسن: أيها الصديق العزيز، أنا لا أدعوك إلى ترك صفوف الحزب من أجلي، ولن أدعو إلى أي عمل تكون عاقبته الانشقاق.
أرى أن تستمر وتعمل مع الرفاق لأجل تحقيق الإصلاح من الداخل؛ أما إذا كنت ترى صعوبة الاستمرار فأمامك أحد الطريقين: إما أن تترك النشاط السياسي الحزبي، أو الانضمام إلى حزب آخر تراه أقرب إليك.
أعلم أن جوابي ذاك كان بارداً كبرودة الطقس السويدي، وأعلم أيضا أني لم يرتقِ إلى مستوى ما كان أبو دلو يتوقعه مني؛ ولكنه المنطق الذي كان يدفعني إليه، ولست نادماً حتى الآن على ذهبت إليه في ذلك الحين.
وتعاقبت الأيام، وترك أبو دلو الحزب اليساري، وانضم لاحقاً إلى حزب الوحدة، لكن الاتصال بيننا استمر، والاحترام المتبادل دائماً كان في ذروته؛ ولم أشعر في أي يوم بأن شيئاً ما قد ألقى بظلاله على علاقتنا التي كانت مبنية على الصداقة الوفية، والإخلاص لقضية الشعب.
وجاء الخبر المشؤوم قبل ثلاث سنوات تقريباً أو ربما أكثر.
خبر مفاده أن حسن مصاب بالسرطان، اتصلت به على الفور، وتبين لي أنه لا يدري بطبيعة مرضه؛ كل ما هنالك أنه كان يعتقد بأن عملية ناجحة قد أجريت له، وتم استئصال جزء من القولون.
ربما كان يشك في الأمر، لكنه كان ينطلق من أن الموضوع لا يخرج عن نطاق مجرد عملية عادية؛ غير انه مع الوقت تأكد بنفسه من حقيقة الأمر؛ وأرسل إليّ التقارير والصور الخاصة بمرضه، بالإضافة إلى إخراج قيده الخاص بالكرد المجردين من الجنسية السورية” الأجانب” الذي مازلت أحتفظ به للذكرى وذلك بناء على طلبه.
توجهت على الفور إلى المشفى الجامعي في ابسالا، وهو مشفى معروف على مستوى السويد وأوربا؛ وشرحت للموظفة المسؤولة في قسم استقبال المرضى من خارج السويد عن طبيعة العلاقة التي تربطني بالصديق حسن، ورغبتي في مجيئه إلى السويد لإتمام الفحوصات، والتأكد من التشخيص، ومن ثم الحصول على العلاج المناسب.
بعد أيام، اتصلت بي الموظفة ذاتها، وخاطبتني بلهجة ودودة أشعرتني بقيمة الإنسان كإنسان، بغض النظر عن أي اعتبار آخر.
قالت لي: إن أمور صديقك الطيب على ما يرام؛ وقد حدد أطباؤنا له موعداً في الشهر التالي، أرسله لك لاحقاً.
ثم تابعت قائلة: بموجب ما توصل إليه الأطباء هنا بصورة مبدئية لا تدعو حالته إلى القلق؛ ونحن في انتظار مجيئه لإجراء اللازم.
واتصلت بحسن وأخبرته بنبأ الموافقة، لكنني كنت أدرك في قرارة نفسي بصعوبة حصوله عل جواز السفر الذي لا يعطي عادة للمواطنين الكرد الذي حرموا من الجنسية السورية نتيجة إحصاء 1962 – وحسن أحدهم- وكان التوقع في محله.
لم يحصل حسن على جواز السفر، أو جواز المرور الذي يعطى في حالات محدودة للمجردين من الجنسية – في حالات المرض والحج- وتفاقم مرض حسن، نتيجة الحالة النفسية، وعدم حصوله على العلاج المناسب.
وأُجريت له عملية أخرى؛ واتصلت مع مشفى ابسالا من جديد لتحديد موعد آخر؛ وأخبرتهم بنبأ العملية الثانية؛ فطلبوا الاتصال بطبيبه في دمشق.
زودتهم برقم هاتفه، واتصلوا به، ثم قرروا دعوة حسن من جديد إلى المجيء؛ ولكن الجواز لم يأتِ، ولم يأتِ حسن، وكانت النهاية المأساوية.
في طريق العودة إلى البيت من مشواري العبثي، رحت أتأمل ذهنياً الموت وطبيعته الإيلامية؛ وهو الذي سلبني أعزاء كثر، ثلاثة منهم في السنة الأخيرة وحدها: والدي ووالدتي والأخ الصديق حسن.
تُرى هل يمكن أن نفصل بين الموت والحياة، ليكون لكل منهما المملكة الخاصة به؟ أم أن التداخل بينهما من طبيعتهما، ولا معنى لأحدهما من دون الآخر؟ هل الحياة هي القاعدة والموت هو الاستثناء؟ أم أن الحياة هي التواصل، والموت هو الانقطاع؟ الحياة هي الاستمتاع، والموت هو الألم.
الحياة هي العمل والعطاء، والموت هو التوقف والخروج من الحلبة؟
ولكن ما قيمة هذه التصنيفات التي أوجدها بشر سينالهم الموت عاجلاً أم آجلاً؟
إلا انه مع ذلك، وبعيداً عن هذا الاسترسال، فإن مسيرة الحياة لا بد أن تتواصل، ليبقى الموت هو الآخر بملاحقة ضحاياه – وربما أصدقاءه فمن يدري- يسلبهم أعز ما يملكون، ويجعلهم مجرد ذكرى.
وطوبى لمن كانت ذكراه فاضلة وموضع اعتزاز وتقدير الأهل والأصدقاء.
لفقيدنا الغالي العزة والمجد، ولزوجته وأولاده: دلو واحسان وتحسين وشڨان وجوان وآشتي وروناك ولورين، وجميع أهله واصدقائه، ولنا جميعاً الصبر والسلوان.
وكل التقدير لأهالي عامودا، وأبناء شعبنا الذين قاموا بالواجب، وأثبتوا أن حِسّ تمييز معدن الرجال ما زال سليماً على الرغم من كل شيء.