د. ولات ح محمد
مصطفى سليمي المناضل الكوردي الذي قضى في السجون الإيرانية سبع عشرة سنة من عمره وكان محكوماً عليه من النظام الإيراني بالإعدام تمكن قبل أسبوعين من الفرار من سجنه في سقز والوصول إلى أراضي إقليم كوردستان والاختباء في إحدى قرى منطقة بنجوين. لكن أفراداً من الجهة الكوردية التي تدير تلك المنطقة قاموا بإلقاء القبض على سليمي وتسليمه للسلطات الإيرانية التي قامت على الفور في اليوم التالي بإعدامه دون أي أجل مسمى أو غير مسمى. والسؤال المطروح هنا: لماذا تم تسيلم رقبة المناضل الكوردي إلى حبل المشنقة؟ وما دلالات ذلك الفعل وما خطورته على الإقليم؟ ولماذا تسكت حكومة الإقليم عن هذا الأمر؟ وماذا تمتلك من حلول وإجراءات في هذا الإطار؟.
عمق المأساة في هذه الجريمة يكمن في ثلاث نقاط: الأولى هي أن من قام بتسليم رقبة سليمي لحبل المشنقة ينتمي لطرف كوردي هو نفسه عانى أفراده لسنوات وسنوات من السجون الملاحقات والخوف من أن تقوم أنظمة المنطقة بتسليم عناصره لأجهزة النظام العراقي. وهذا ما دل على انخفاض شديد في منسوب الأخلاق والإنسانية لدى من ارتكب هذا الفعل الشنيع والذي لا يعرف من تجربة النضال والملاحقة والخوف والسجن شيئاً.
النقطة الثانية التي عمقت هذه المأساة هي أن الكوردي قام بتسليم الشقيق اللائذ به إلى من هو افتراضاً عدو “مشترك؟” لقضيتهم، وهو (سليمي) الذي في قرارة نفسه كان يؤمن حسب ما لديه ولدى الكوردي من قيم بأن الشقيق المفترض لن يعيده إلى حبل مشنقة العدو مهما كلفه الأمر، ولذلك اعتبر وصوله إلى أراضي “الشقيق” خلاصاً للروح وانتصاراً على مشانق العدو وسجونه وتخلفه المزمن. وهذا ما وضع المسألة في إطار الغدر بالشقيق وخيانته في وضح النهار وضربَ إحدى القيم البارزة التي يتمتع بها الكوردي وهي قيمة الوفاء والإخلاص وإكرام الضيف، فكيف إذا كان شقيقاً؟.
نقطة الذروة وقمة المأساة في هذه المسألة تتمثل في ما تقوم به هذه الفئة الكوردية من تصرفات وما تتخذه من قرارات خارج إطار حكومة الإقليم الموحدة؛ فهذه الفئة التي لا يتجاوز عدد أفرادها أصابع اليدين باتت تشكل بسلوكها المشين خطراً وجودياً حقيقياً على مصير الكوردي ووحدة كيانه الفريد تاريخياً، إذ إن تسليم المعارض الكوردي بقرار فردي من هذه الفئة بعيداً عن علم الحكومة ليس التصرف الأول من نوعه ويبدو أنه لن يكون الأخير، وما زالت تجربة كركوك المريرة قريبة العهد وطازجة في الذاكرة.
الخطورة الوجودية التي أتحدث عنها تكمن في كون هذه الفئة لا يهمها أي شيء يخص الحالة الوطنية للكوردي وإقليمه ومستقبله، بل تعمل لذاتها ولحسابها الخاص بعيداً عن أية مصلحة كوردية أو كوردستانية؛ فإدارة بئر نفط تدر في جيوب أفرادها حفنة من الدولارات يومياً مع مجموعة من العناصر تقوم على حمايتهم وتفرض سطوتهم على الناس خير عندهم من كوردستان وما فيها. وكل ما قامت به هذه الفئة وما تقوم أو ستقوم به مستقبلاً لا يخرج من إطار هذه المعادلة.
وبحكم ما تملكه هذه الفئة من مال وقوة عسكرية “خاصة” بها (كانت دائماً تعرقل تشكيل قوة عسكرية وأمنية موحدة تأخذ أوامرها من الحكومة فقط) فإنها تتصرف دائماً بما يخدم حسابها الخاص ويضع حكومة الإقليم في موقف صعب وأمام خيارين كلاهما محرج وخاسر: فإما أن تقبل الحكومة بتجاوزات تلك الفئة وتصرفاتها وتظهر بكونها ليست السلطة الوحيدة في الإقليم، وإما أن ترفض تصرفات تلك الفئة وزعرنتها وتدخل معها في مواجهةٍ تحاول إدارة الإقليم أن تبعدها من حساباتها على الإطلاق لأن من شأنها أن تدمر كل ما قاموا ببنائه حتى الآن. بهذه الطريقة وبهذه الزعرنة تحاول هذه الفئة فرض أمر واقع يبدو أن الإقليم وشعبه خاسر فيه سواء قبِلَ بذلك الواقع أم لم يقبل.
مثل هذا السيناريو حصل في جريمة تسليم كركوك في 16 أكتوبر 2017، إذ وجدت قيادة الإقليم نفسها أمام الخيارين المذكورين آنفاً فاختارت السكوت لأن المواجهة كانت مدمرة. كذلك هذه المرة قامت هذه الفئة بتسليم مصطفى سليمي دون علم الحكومة وتصرفت وكأنها سلطة قائمة بذاتها، الأمر الذي وضع الحكومة في حرج فسارعت إلى إدانة التصرف وتشكيل لجنة للتحقيق في الواقعة. السؤال الكبير الذي يتسبب طرحه بمشاكل هو: ماذا بعد نتائج التحقيق؟. من المؤكد أن الحكومة ستجد نفسها من جديد أمام الخيارين المرين وستختار السكوت لأن ما عداه مكلف جداً. وقد يتم تقديم بعض أكباش الفداء لغلق الملف، علماً أن الجميع يعلم أن الإيرانيين يسلمون أسماء المطلوبين لقيادات المنطقة وليس لحرس الحدود أو عناصر الأمن الميدانيين، وأن من يتخذ قرار التسليم في هكذا حالات هي العناصر القيادية وليس غيرها.
بتسليمها مصطفى سليمي إلى عدوه أثبتت هذه الفئة أنها مصرة على أن تعمل لحسابها وخارج سلطة الإقليم الشرعية الجامعة التي هم عملياً جزء منها، وأنها تسعى لفرض سلطتها الخاصة الموازية لسلطة الحكومة في “إقليم موازٍ”، حتى وإن كان وهمياً وعلى رقعة جغرافية محدودة؛ فمثل هذه السلطة المحدودة الوهمية الخاصة بهم ترضي مرضهم أكثر من مشاركتهم في سلطة شرعية حقيقية ومنتخبة، لأن مفهوم الدولة والمؤسسات والطموح الكوردي هي آخر ما يفكر به هؤلاء، بل هي على الضد من مصالحهم الذاتية الفردية والعائلية.
في 25 أيلول 2017 أجرى إقليم كوردستان استفتاء تاريخياً لمعرفة آراء الناس حول موضوعة الدولة الكوردية المستقلة. في ذلك الحدث صوت الناس بنسبة 93% لصالح الدولة المستقلة. السؤال الذي راودني وأنا أتابع بألم قضية مصطفى سليمي كان: ماذا لو وافق العراق آنذاك على الاستقلال وصارت كوردستان فعلاً بعد سنة أو أكثر من ذلك التاريخ دولة مستقلة؟ كيف كان تلك الفئة ستعمل لحسابها الخاص في دولة كوردية مستقلة؟ وماذا كان يمكن أن يكون عليه موقف حكومة تلك الدولة المستقلة؟ وهل يمكن لمثل هذه الفئة أن تكون ذات نفوذ في دولة مستقلة؟ أو هل يمكن لدولة مستقلة أن تقوم أساساً وعلى أراضيها أصحاب نفوذ خاص أمثال هؤلاء لا يعترفون بسلطة شرعية لحكومة (إقليم أو دولة) منتخبة من الشعب، علماً أنهم مشاركون فيها من الأساس؟.
الأسئلة كثيرة والمشكلة قائمة وحكومة الإقليم ليست عاجزة عن وضع حدود وإيجاد حلول، ولكن الحلول حتى هذه اللحظة مكلفة جداً والعقبات كثيرة؛ فالقيادة لن تدخل مطلقاً في صراعات داخلية من شأنها إضعاف الإقليم وإفقاده مكتسباته التي جاءت نتيجة عمل عقود من الزمن ومئات الآلاف من الشهداء. هذه الفئة لا تعرف هذه القيمة وتستغل حرص القيادة على وحدة الإقليم أرضاً وشعباً وعلى عدم الانجرار إلى أية مواجهة مع أي طرف. ولذلك يتصرف هؤلاء بهذه الطريقة في كل مرة.
قيادة الإقليم التي أثبتت جدارتها وحكمتها في المواجهة مع الآخر ومع الأزمات تبدو مربوطة اليدين إزاء هذه الفئة من قومها، لأن كل الخيارات المتاحة سيئة ومكلفة لفرض سلطة الإقليم على هؤلاء الناس الخارجين عن القانون. الحل الوحيد الناجع والدائم (وغير الممكن في الوقت الراهن) مع هؤلاء هو سحب القوة العسكرية والأمنية من أيديهم؛ فوجود وحدات عسكرية وأمنية تحت قيادتهم هو الذي أتاح لهم بيع كركوك وهو الذي مكنهم من تسليم مصطفى سليمي لشانقيه من خلف ظهر الحكومة.
يبدو أن هؤلاء لن يتوقفوا عن ارتكاب هذه السلسلة من الأعمال القذرة؛ فمن باع كركوك وسلّم رقاب الآلاف من أهليها إلى عصابات منفلتة دون أي وازع أخلاقي أو وطني يسهل عليه تسليم معارض واحد إلى حبل المشنقة في صفقة تجارية (مع الجهة ذاتها) ترفع مؤشر رصيده بضع درجات وتحسن من شهادة سلوكه لدى صاحب الوكالة، ومن غير المنتظر أن يتوقف عن ارتكاب أي جرم مماثل أو أبشع مستقبلاً ما دام الوضع باقياً على ما هو عليه.