د. ولات ح محمد
خلال الأسابيع الماضية اتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجموعة من القرارات والإجراءات بدا معها وكأنه في بداية عهده قبل أربع سنوات؛ فقد أقال وزير دفاعه وعين بديلاً له، وقام بتخفيض حجم قواته في كل من العراق وأفغانستان، وسارع الخطى لإبرام اتفاقية سلام بين إسرائيل والمملكة المغربية بعد أن فعل ذلك في وقت سابق مع كل من الإمارات والبحرين والسودان. كما عاد إلى تهديد إيران ورأى بعضهم أنه قد يذهب إلى حد خوض حرب معها في أيامه الأخيرة. وهناك كلام عن موافقة ترامبية على عقوبات سيفرضها الكونغرس على حكومة أردوغان في الأسابيع المقبلة. كل هذا قام به ترامب بعد أن تيقن قبل نحو شهر من هزيمته في الانتخابات الرئاسية أمام بايدن، وكأنه بات في سباق مع الزمن ويريد في ما تبقى له من وقت أن يعاقب خصومه ويخدم حلفاءه ويصعّب الأمور على الرئيس الجديد وأن يفعل في شهرين ما لم يفعله في أربع سنوات.
في المقابل سيكون أردوغان أكبر الخاسرين من غياب ترامب الذي قدم له خدمات جليلة؛ فقد سمح له أن يمارس قرصنته هنا وهناك وظل يسكت عن تجاوزاته ويمنع عنه العقوبات الأمريكية حتى عندما خالف الناتو واشترى صواريخ روسية، وهو ما لم يفعله رئيس أمريكي سابق ولن يسمح به القادم بايدن. لذلك كان أردوغان يعول على أربع سنوات أخرى من هذه البحبوحة الترامبية كي يوسع تمدده ويقوي نفوذه في غياب الرادع الأمريكي وحضور الجفاء الأمريكي الأوربي الذي أحدثه ترامب. لهذا ما إن تأكدت خسارة ترامب في الانتخابات حتى راح أردوغان يتحرك من جديد للقيام بحملة عسكرية جديدة على شمال وشرق سوريا مستغلاً الفترة المتبقية قبل أن يصل الرئيس الأمريكي الجديد إلى البيت الأبيض، إذ لم تتوقف قواته عن قصف تلك المنطقة منذ انتهاء الانتخابات الأمريكية وحتى هذه اللحظة تمهيداً لفعلته القادمة.
وهكذا صار كل من ترامب وأردوغان يريد أن يحقق آخر “انتصاراته” في الوقت القليل المتبقي، ولكن كل واحد باتجاه مختلف عن الآخر هذه المرة؛ فترامب يفكر فقط في الوفاء بتعهداته لجمهوره الذي انتخبه قبل أربع سنوات أملاً في ترشح جديد بعد أربع سنوات، كما يريد إضعاف إيران خدمة لحلفائه في المنطقة الذين لم يفعل لهم الكثير خلال سنوات عهده، كما أنه يريد من بعض القرارات أن يضع عراقيل في طريق بايدن الذي لم يعترف بفوزه حتى الآن ويتهمه بسرقة الانتخابات.
أردوغان من جهته وضع نفسه خلال السنوات الماضية في مأزق داخلي اقتصادي وسياسي صعب، ولكنه كان بمغامراته الخارجية (مدعوماً من ترامب) يغطي على فشله في الداخل. الآن بعد أن تأكدت مغادرة ترامب للبيت الأبيض لم يعد أمام أردوغان غير الإسراع إلى خوض مغامرة خارجية جديدة واحتلال أكبر مساحة جغرافية ممكنة قبل انتقال السلطة في البيت الأبيض إلى من هدد بإزاحته عن الحكم من خلال دعم خصومه في المعارضة.
سلوك كل من ترامب وأردوغان منذ شهر يشبه سلوك فريق كرة قدم خاسر في نتيجة المباراة والوقت يشير إلى الدقيقة 85 فيدفع بكل عناصره وأدواته كي يقلب النتيجة ويفوز في المباراة أو يتجنب الخسارة على أقل تقدير. المفارقة هنا أن الكورد (الذين هم هدف هذا السباق الأردوغاني المحموم مع الوقت) يتصرفون وكأنهم في الدقيقة الخامسة من المباراة وأن الوقت أمامهم ما زال طويلاً، أو كأنهم ليسوا معنيين بكل هذه التحركات والتحرشات والأطماع والتهديدات، فلا تراهم يغيرون من سلوكهم شيئاً كي لا يتعرضوا لمأساة جديدة، بل ينتهون في كل مرة من خسارة ومأساة وينتظرون الخسارة التالية بذات الفعل وذات الأدوات.
حتى حواراتهم التي بدأت قبل ثمانية شهور بإرغام أمريكي لم ينتج عنها شيء يبعث على التفاؤل، وكأنها حوارات بين دولتين عدوتين وليست بين أطراف ضعيفة تبحث لنفسها ولشعبها عن خلاص وحماية. على العكس من ذلك عندما غاب الوسيط الأمريكي لعدة أسابيع بسبب انتخابات بلاده راحت أطراف الحوار الكوردي تتراشق بالكلام وتتبادل الاتهامات وتحميل مسؤولية الإخفاق بدلاً من تعميق التواصل والحوار والإسراع في الاتفاق والتهيؤ لمواجهة أية مغامرة أردوغانية أو غير أردوغانية جديدة.
الآن وبعد أن عادت تهديدات أردوغان مرة أخرى (مستغلاً الدقائق الخمس الأخيرة من وقت المباراة) راح الكورد المعنيون بالأمر يناشدون الدول الكبرى من جديد كي تمنعه من اجتياح مناطقهم وتهجير شعبهم واحتلال مدنهم، دون أن يسأل أحدهم نفسه ما الذي فعله هو طوال كل ذلك الوقت كي لا تتكرر مأساة شعبه وكي يقطع الطريق على عدوه ويمنعه من تحقيق أهدافه وأطماعه؟. الأطراف الكوردية السياسية تشعر وتتصرف دائماً وكأنها في الدقيقة الخامسة من المباراة إلى أن تجد نفسها فجأة في الدقيقة 85 وقد شارفت المباراة على نهايتها وأصبحت الخسارة أمراً واقعاً لا محالة وبنتيجة كبيرة.
الآخرون في سباق مع الزمن لتحقيق أهدافهم على حساب الكورد، والكورد في سباق مع الزمن لتحقيق أهدافهم: بعضهم على حساب بعض. الآخرون يستغلون 5 الدقائق الأخيرة لإلحاق الأذى بالكورد، والكورد يستغلون 85 دقيقة بكاملها لإلحاق الأذى بعضهم ببعض. وفي النتيجة يصبحون هم وأناسهم أهدافاً للآخرين.. ويبقون بلا أهداف.