اجرى الحوار: علي شمدين
لاشك بأن كل منطقة من مناطقنا الكردية في سوريا اكتسبت بنفسها ملامحها المميزة لها عن الأخرى، تلك الملامح التي اندمجت عبر مئات السنين وتفاعلت معاً لترسم هذه اللوحة الفسيفسائية الجميلة التي بسطت أبعادها على مساحة جغرافية فصلتها (سايكس بيكو) مطلع القرن العشرين عن عمقها القومي قسراً ومن دون رغبة سكانها الأكراد، وهي التي تسمى اليوم بـ(كردستان سوريا).
لقد بات اليوم من الواجب أن يبادر كل منّا من جانبه إلى توثيق هذه الملامح القومية (الثقافية والسياسية والاجتماعية..)، لتلك المناطق والتي تكاد عمليات التغيير الديمغرافي الشوفينية المبرمجة منها والعفوية، أن تمحوها شيئاً فشيئاً من على وجه الأرض، وأن تزيلها مع الزمن من الذاكرة الشعبية.
وفي هذا السياق صدف أن التقينا في مدينة السليمانية أوائل عام (2019)1، أحد الشخصيات السياسية من منطقة (آشيتا)، والذي كان يحمل في ذاكرته النشيطة الكثير من الذكريات الهامة عن هذه المنطقة، وهو الأستاذ حمزة علي الملقب (أبو النور)، وباعتبارنا من المنطقة نفسها تناقشنا مطولاً حول القضايا والأحداث المختلفة التي شهدتها هذه المنطقة، وقمنا باستغلال هذه الصدفة وتدوين ملخص هذا اللقاء لأهميته في توثيق الوجود الكردي في هذه المنطقة، هذا الوجود الذي يمتد إلى مئات السنين قبل الإنتداب الفرنسي الذي يصر الشوفينيون على أخذه حداً فاصلاً لهجرة الكرد إلى سوريا كما يدعون، وفيما يلي خلاصة هذا الحوار:
حمزة علي حامد علي، الملقب بـ(أبو النور)، هو من مواليد قرية السيحة الكبيرة التابعة لناحية تربسبية (1946)، ينتمي إلى عائلة فلاحية كردية كادحة سكنت قرية السيحة منذ اوائل القرن الثامن عشر، وعندما قام (حسين الأحمد)2، اواسط الاربعينيات ببناء قرية (خراب العبد)3، التي صار يملكها بدعم من (شيخ الطي)4، عندئذ انتقلت هذه العائلة مع حسين الأحمد إلى قريته الجديدة خراب العبد، وظلت موضع ثقته.
تنتمي عائلة (علي حامد)، إلى عشيرة تسمى (عربية/ جيلكي)، ترتبط بصلة قرابة مع زعيم عشيرتها (عبد الكريم علي رمو)، الذي قدم آنذاك بنفسه من تركيا الى قرية السيحة ليطلب من (أحمد اليوسف)5، أن يسمح له بإعادة هذه العائلة إلى أهلها، ولكنه لم يتخل عنها وأبقاها عنده، ويقول أبو النور بأنه كانت هناك تلة صغيرة سميت بإسم عائلتهم (كركي عليكو)[1]، كما ينقل أبو النور أيضاً على لسان (حسين المقطف)[2]، بأن تل (قرةسيي)8، قديماً كان يعد من مرابع أجداد أبو النور (أيّ مرابع آل علي رمو).
ويذكر أبو النور خلال حديثه بأن قرية سيحة كانت تضم الكثير من العوائل الكردية المعروفة في المنطقة منها عائلة شمدين التي جاورت عائلته آنذاك في قرية السيحة، وبأن هاتين العائلتين كانت تربطهما علاقات الـ(كريفانتي)9، ويذكر بأن المد القومي كان يتنامى في منطقة آشيتا أواخر الخمسينيات، وبأن محمد صالح شمدين كان له دوره المؤثر في هذا المجال.
يذكر أبو النور بأن والده كان على الدوام يستحوذ على كتب كردية مكتوبة بالأحرف العربية، وبأن والده كان يلحن الأشعار الكردية عند تلاوتها، وأضاف بأن عمته كانت تقول بأن كاميران بدرخان كثيراً ما كان يأتي إلى قرية السيحة راكباً دراجة نارية، وفي الربيع كان يلحق بهم إلى مرابعهم في البرية حاملاً معه الجرائد والمطبوعات الكردية وكان ذلك في الأربعينيات من القرن المنصرم، وبأنه كان يمكث لأيام عديدة بضيافة عمه (يوسف حامد علي).
يقول أبو النور بأنه انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري أواخر عام 1958، وبأنه حضر اجتماعه الحزبي الأول في قرية السيحة بحضور (ملاسليمان كربري ويوسف ابراهيم)، وكان كادراً نشيطاً في منظمة الجزيرة للحزب الشيوعي، وعند انشقاق الحزب على نفسه عام (1979)، اصطف أبو النور مع جناح (مراد يوسف)، مؤكداً بأن الموقف من المسألة الكردية كان وراء هذا الإختيار، وظل أبو النور لأكثر من عقد من الزمن مرشحاً للجنة المركزية في هذا الحزب، وبأنه قدم خدمات كثيرة للشيوعيين العراقيين الذين لجؤوا إلى القامشلي حيث كان أبو النور يسكن فيها منذ انتقاله من قريته خراب العبد، ويذكر من بين هؤلاء(البروفيسور عزالدين مصطفى رسول، والسياسي المعروف جلال دباغ..)، الذين لازالت تربطه بهم علاقات متينة وقوية، كما شغل منصب سكرتير فرعية المثقفين في مدينة القامشلي لسنوات طويلة.
يقول أبو النور بأن القيادة الشيوعية الكردية في الجزيرة وخاصة (رمو شيخو الفرحة، وعثمان برو)، كانت شبه أمية، ولم تستطع أن تستوعب الحالة القومية الكردية، لابل كانت تتهرب منها وتتجاهلها نهائياً، وكانت تعمل تحت تأثير العقدة الكوسموبوليتية، ويأخذ أبو النور على الكرد بأنهم أيضاً كانوا مقصرين من جهتهم في تعريف المكونات الأخرى بقضيتهم القومية العادلة، مؤكداً بأن عبد الحميد درويش ورفاقه في الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا كانوا سباقين في مجال الانفتاح على الوسط العربي، وخاصة الشيوعي منه.
اصطف أبو النور إلى جانب(مراد يوسف)، بعد إنشقاقه عن (خالد بكداش)، ويقول بأنه لعب بنفسه دوراً بارزاً في تواصل جناح مراد يوسف مع الحركة الكردية، وانفتاحه شيئاً فشيئاً على الوسط الكردي والاهتمام بقضيته القومية، الأمر الذي حرض جناح بكداش أيضاً للتواصل مع الكرد وإن بشكل أقل.
يؤكد ابو النور بأنه لم يشعر يوماً بأنه كان خارج دائرة الفكر القومي، وبأنه الشيوعي الوحيد الذي ظل مفصولاً عن عمله في سلك التربية بسبب مواقفه القومية، وبأنه رفض ذات يوم أن يردد شعار البعث في المدرسة التي كان يدرس فيها، ويؤكد بأن الشخص الذي كتب به التقرير وأخبر عنه الجهات الأمنية حول ذلك كان كردياً بعثياً اسمه (أحمد درويش)، ويضيف أبو النور بأنه خلال التحقيقات الأمنية كان يقرّ بأنه عضو في الحزب الشيوعي وبأنه ملتزم بشعاراته وأهدافه، ولذلك كان يرى من حقه الطبيعي أن يمتنع عن ترديد شعارات حزب ( البعث)، ويذكر بأن آخر تحقيق أمني أجري معه كان اثناء مراجعته لمسؤول الأمن السياسي بالقامشلي ( علي مخلوف)، وذلك من أجل التحقيق معه في قضية توظيف ابنته، ويقول بأن علي مخلوف قال له في نهاية تحقيقه معه: ( سأوظف ابنتك ولن أحرقها بنارك، ولكن أنت بالذات عليك أن لا تحلم بالعودة إلى الوظيفة قط، لأنك لم تردد شعاراتنا..).
سرد أبو النورحكاية تورطه في شجار مع طالب عربي من دير الزور كان يدرس معه في الصف الأول بدار المعلمين بالحسكة وإسمه ( فواز)10، ويؤكد بأنه كان ذلك هو الشجار الأول والأخير الذي خاضه في حياته، وبأن هذا الشجار حصل نتيجة لموقفه الملتزم بمسألة حركة التحرر القومي، وذلك عندما قام مدير مدرسة دار المعلمين، وإسمه ( علي شمسين)11، بتكليفهم بكتابة موضوع عن حركات التحرر.. ويذكر أبو النور بأنه كتب بنفسه ذاك الموضوع بالاعتماد على مقالات جريدة الحزب الشيوعي وبالإستفادة منها، وبأنه بعد أن ألقى موضوعه على الطلاب، هب الطالب الديري ( فواز)، موجهاً كلامه إلى أبو النور وقال بأنك من أنصار( البرزاني)، الأمر الذي تسبب في الشجار بينهما،لأن تهمة كهذه كانت خطيرة جداً في ذلك الوقت، ويضيف بأنه بالرغم من ذلك لم ينتقم الاستاذ منه وإنما ظل يحترمه.
كما إنه يذكر أيضاً الحادثة التالية التي تعبر عن جرأته في الدفاع عن قناعاته ومبادئه، فيقول بأنه وعلى إثر اعتقال اعضاء المنظمة الآثورية الديمقراطية، حيث كان بين المعتقلين إثنان من المعلمين السريان (لحدو كورية/ كادر في المنظمة الآثورية، ابراهيم إيشو/ عضو بعثي)، فيقول بأنه حضر مؤتمر نقابة المعلمين في القامشلي ممثلاً عن منظمات القاعدة للحزب الشيوعي السوري، وقد شارك آنذاك في ذاك المؤتمرأكثر من (300) عضو نقابي، وحضره أيضاً كلٌ من نائبة النقيب العام فريال أرسلان (بعثية/ درزية)، ومدير التربية عبد القادر برخو، ومختلف الاجهزة الامنية في المحافظة.. ويقول أبو النور بأن الشوعيين اتفقوا على أن يتحدث هو بإسمهم ويطرح قضية المعلمين المعتقلين على خلفية اتهامهم بالانتماء إلى المنظمة الآثورية، ويقول بأنه تحدث في ذاك المؤتمر عن المعتقلين ودافع عنهم بجرأة حازت على تضامن معظم الحضور وخاصة السريان منهم، وأثارت في الوقت نفسه إرباك المشرفين على إدارة المؤتمر..
ويتذكر بأنه عندما كان صغيراً علم بزيارة جكرخوين لقريتهم (خراب العبد)، برفقة ابراهيم بكري اللذين كانا آنذاك مرشحين للبرلمان عن الحزب الشيوعي السوري عام 1954، ويقول بأنه علم بأن حسين الأحمد استقبلهم برحابة وود، وبأنه فرش لهم (الدوشك) فضلاً عن السجاد العجمي، وبأنه أقام على شرفهم وليمة، ويقول بأن جكرخوين أخبر حسين الأحمد بأنهم جاءوا من أجل أن يصوتوا لهم، إلاّ أن حسين يجيبه مازحاً بأنه سيصوت لقائمة مجيد الأصفر لأنه يدفع الأكثر، وفي الأخير يطلب منه جكرخوين أن يخبر أهالي القرية ليصوتوا لقائمتهم، فيرد عليه حسين الأحمد بأنه لن يخبر أحداً منهم، مضيفاً بإنهم أحرار في التصويت لمن يرغبون وبإنه سوف لن يفتش جيوبهم وبطاقاتهم.
يتذكر أبو النور لقاءه الأول بالشاعر الكردي (جكرخوين)، فيقول بأنه وخلال سفره إلى دمشق بقصد معالجة والدته المريضةعام (1962)، وخلال زيارته إلى حسين الأحمد الذي كان هو الآخر متواجداً حينذاك في دمشق، التقى عنده ذات مرّة برجل كان يلح حسين عليه بالبقاء معه إلى أن يغادر دمشق، وتبين له بانه تجمعهما علاقات قوية جداً، فكان هو (جكرخوين)، الذي كان حين ذاك منفياً إلى السويداء، ويقول بأنه التقاه المرّة الثانية برفقة رمو شيخو الفرحة في بيته بركن الدين بمدينة دمشق عام (1970).
يقول أبو النور بأن التمييز الطبقي في المنطقة تعمق أكثر فاكثر بعد ظهور الآلات الزراعية، وخاصة بعد أن تأسست في القامشلي شركة كاتربيلار التي كانت تمنح الملاكين الجرارات الزراعية بالتقسيط، وكذلك تعمق الاضطهاد القومي على يد البعثيين بشكل علني وصارخ، ويقول بأن هذه التطورات شكلت الأرضية المناسبة لإنتشار الوعي (القومي والطبقي)، ونشوء الحركة السياسية في المنطقة، وبدأت الافكار السياسية تتسرب شيئاً فشيئاً إلى المنطقة عبر توافد الشخصيات السياسية إليها بين الحين والآخر، وعبر تواصل أبنائها مع الوسط الخارجي، وبالرغم من أن أبو النور يذكر بأن شخصاً من قرية السيحة إسمه (يوسف ابراهيم)، كان سباقاً في الترويج للأفكار الشيوعية والدعاية لها، ولكنه يؤكد بأن أول من انتظم في الحزب الشيوعي السوري من قرية السيحة آنذاك هو (أحمد حج عباس)12، ويقول بأنه كان هناك أيضاً شخصاً من بين الذين انضموا فيما بعد إلى الحزب الشيوعي السوري إسمه (رخَيصْ)13، ويذكر بأنه كان حينذاك في قرية السيحة رجلاً يمتلك صوتاً غنائياً عذباً وهو من أقرباء يوسف ابراهيم واسمه (شيخوي أيو)14.
يذكر أبو النور بأن عمه (يوسف حامد علي)، كان قد حصل على بطاقة الهوية عام (1935)، وبأنه كان من مواليد عام (1915)، أيّ قبل سايكس بيكو وقبل ترسيم الحدود بين سوريا وتركيا وقبل الإنتداب طبعاً، وبأن عمه يوسف كان على تواصل مع كاميران بدرخان الذي كان يزوره في القرية بين الحين والآخر، ويقول بأن عمه في بداية الخمسينيات كان يتردد على بيروت بهدف المعالجة من مرض السل الذي كان يعانيه، وكان هناك يلتقي بكاميران بدرخان وغيره، مؤكداً بأن حصول عمه على الهوية الشخصية في ذاك الوقت المبكر (أي في 1935)، إنما يدل على وعيه المتقدم بسبب انفتاحه على المدينة وتواصله مع كاميران بدرخان وغيره من المتنورين الكرد آنذاك.
ويقول بأن عمه ( يوسف) كان من الأوائل الذين تعلموا الكردية وقام بتدريسها لصبية القرية، وبأنه كان متأثراً بالفكر القومي، ويقول أبو النور بأن عمه أرسل ذات مرّة كلاً من (محمد لطيف نجو، وأحمد علي عمر، وسليم ابراهيم شيخو)15، إلى جكرخوين في مدينة القامشلي ليجلبوا من عنده منهاج تعليم اللغة الكردية، ويقول بأنهم ذهبوا بالفعل وعادوا بالكتب إلى عمي،وبأن ذلك كان حوالي 1949، كما أن أبو النور يذكر بإعجاب المناضل (سليم شيخو)16، ودوره المؤثر في نشر الوعي القومي في منطقة آشيتا، وبأنه كان له الدور الأهم في تنظيم الأعضاء في منظمات البارتي في المنطقة، وتعليمهم اللغة الكردية17.
يذكرأبو النور بأن قرية (خربة الذيب)، كانت عصية على الإختراق من جانب تنظيم الحزب الشيوعي السوري، مثلما كانت عصية على حزب البعث أيضاً، بسبب نفوذ الأحزاب الكردية فيها، وخاصة نفوذالحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، ويقول بأنهم حاولوا كثيراً من خلال (حمزة حسو)18 ، الذي عين معلماً في القرية أواسط الستينيات، ان يخترقوا القرية بالاستفادة من علاقاته العائلية فيها، ولكن من دون جدوى.
ويقول أبو النور بإن قرية خراب العبد شهدت كادراً شوعياً آخرَ هو حمزة سليمان فندي الملقب بـ(أبو سلام)، وبأن أبو سلام سبقه في الانتساب إلى الحزب الشيوعي السوري، واصطف هو الآخر مع مراد يوسف في انشقاقه عن خالد بكداش، وتدرج في المسؤليات الحزبية حتى عضوية المكتب السياسي، وفي هذا السياق يتذكر أبو النورأحد رفاقه الشيوعيين من حي (قدور بك)، وبأنه كان يعمل حمالاً واسمه (حسن عمر)، ويذكر بأنه عندما طُلِبَ منه الانضمام الى حركة الانصار المسلحة والالتحاق بمنظمة جورج حبش ونايف حواتمة، رفض حسن ذلك الطلب قائلاً: (اذا كنتم أمميين صادقين حقاً، فلنذهب للالتحاق بثورة البرزاني بدلاً من الإلتحاق بالحركة الفلسطينية).
ويتوقف أبو النور على شخصية (حسين الأحمد)، ويقول بأنه كانت تربطه معه علاقة ود وصداقة متينة، بالرغم من فارق السن والفارق الطبقي بينه كفلاح شيوعي وبين الملاك حسين الأحمد، ويقول بأنه كان يستمع إلى أحاديثهم ونقاشاتهم باهتمام واحترام، ويقول أبو النور بأن حسين الأحمد كان شخصية وطنية بكل معنى الكلمة، وبأنه كان يمتلك شعوراً قومياً صادقاً، وبأنه كان يدافع بشجاعة عن أهله من الكرد في المنطقة في مواجهة المظالم التي كانت تلحق بهم من عرب الجوار، مستخدماً في ذلك علاقاته الاجتماعية الجيدة مع العشائر العربية المحيطة بهم.
ويذكر أبو النور بأنه كان هناك في القرى المجاورة لقرية خراب العبد ملاكون كرد مثل عائلة (سيدو) في قرية (حبيس)، وعائلة (حج خلف سيدو) في قرية (أبطخ)، وعائلة (عدوكي)، وغيرهم من الذين كانوا يتعرضون للمشاكل والتهديدات من العرب المجاورين لهم، فكان حسين الأحمد ينحاز للكرد ويحميهم من تحرشات العرب، ويضيف بأن الشرابية كانوا يسرقون ماشية الكرد ويعتدون عليهم، فكانوا يستنجدون بحسين الأحمد الذي لم يكن يتردد في التوسط من أجلهم لدى وجهاء عشيرة الشرابية وكان يعيد إليهم ممتلكاتهم وماشيتهم المسروقة.
ويقول أبو النور بأن معلم مدرسة القرية (وجيه ميني)19، ضبط ذات يوم بحوزة الطالب محمود علي حامد (شقيق أبو النور)، مطبوعات الحزب الشيوعي التي كانت محظورة آنذاك، وقال بأنه لوعلم حكمت ميني بذلك لقام بقمعه وتصفيته، إلاّ أنه مع ذلك عفا عنه بسبب تدخل حسين الأحمد لدى معلم المدرسة ليغض النظر عن القضية، وكان ذلك في أواخر الخمسينيات.
ويذكر أبو النور أيضاً هذه الحكاية، ويقول بأن حسين الأحمد عاد ذات يوم إلى مضافته، ليتفاجأ بوجود حكمت ميني وهو ينهال بالضرب على السيد سعيد حامد (وهو عم أبو النور)، وعدد من رفاقه الشيوعيين، فأثار المشهد غضب حسين الأحمد كثيراً ليرد على حكمت ميني بلهجة قاسية ويقول له:(كيف لك أن تعاقب هؤلاء هكذا وهم في مضافتي، كان عليك أن تخبرني قبل ذلك كي أتصرف بنفسي)، فيرد عليه حكمت ميني:(ولكنهم شيوعيون !!)، فيجيبه حسين:(هذه تهمة باطلة، متى كنت أنا شيوعياً حينذاك سيكونوا هم أيضاً شيوعيين..)، ويقول بأن حكمت ميني صار مرتبكاً من دفاع حسين الأحمد عن سعيد ورفاقه، فسارع إلى إطلاق سراحهم..
ويقول أبو النور بأن الخلاف بدأ يتنامى شيئاً فشيئاً بين حسين وأهل القرية بعد مجيء الآلات الزراعية (كاتربيلار)، وبعد أن بدأ الفلاحون يطالبون بتوزيع الأراضي، فكان حسين الأحمد يقوم سنوياً بإعادة خلط أراضي وضع اليد ، ويقوم بتوزيعها من جديدعلى أهالي القرية، كي لا يحتفظوا بها ولكي تظل حيازتهم لها مؤقتة، وكان يخصم من انتاجهم السنوي مصاريف سائق سيارته وأجرة القهوجي في مضافته، فضلاً عن مطالبته لهم حتى بحصته من حطب اهالي القرية (تبك).
وفي هذا السياق يقول أبو النور بأنهم في فترة ما كانوا يترددون كثيراً على القامشلي والحسكة ويراجعون الدوائر الحكومية، ويقول بأن حسين الأحمد سأله باستغراب: (ماذا انتم فاعلون بذهابكم المكثف إلى القامشلي والحسكة ؟!)، ويقول بأنه بعد أن الح عليه بالسؤال، أجابه صراحة:(إننا نطالب بتوزيع الاراضي والانتفاع بها)، ويقول أبو النور بأن: (حسين التزم الصمت ولم يعلق بأيّ جواب..).
يقول أبو النور بأنه ذات يوم سأل حسين الأحمدعن حقيقة الاتهام الذي كان يوجهه إليهم حاجو على أنهم لم يكونوا متحمسين لكرديتهم ولم يتضامنوا معه من اجل نيل حقوق الكرد في سوريا، فكان رد حسين هو: (لقد كان حاجو قاطع طريق/ جتة، إحدى قدميه كانت هنا تحت الخط والأخرى هناك فوق الخط، ولم تكن تهمه العلاقة مع العرب الذين نجاورهم منذ القدم، ونتعايش معاً في منطقة واحدة، وتربطنا وأياهم علاقة اجتماعية بلغت حدّ المصاهرة)20.
وفي هذا السياق يقول أبو النور بأنه قرأ بنفسه في المركز الثقافي بالقامشلي عام 1959، التصريح الذي أدلى به آل حاجو تحت الضغط خلال عهد عبد الناصر، والذي يقول بأنهم ينتمون بأصولهم إلى عشيرة (يسار/ فخذ من قبيلة الطي)..
كما يتذكر أبو النور بمرارة حكاية أهل قرية (كري بري)21 ، التي كانت عائدة بملكيتها إلى (عزيز جاجان حاجو)، وبعد وفاته قام آل حاجو بعرض القرية للبيع، وكان المشتري هو (فرج ناعوم)، إلاّ إن أهل القرية اتفقوا معاً على مراجعة وجهاء آل حاجو آنذاك (حسن وجميل)، وعرضوا عليهما استعدادهم لدفع السعر المطلوب لشرائها بدلاً من بيعها للغريب، ويقول أبو النور نقلاًعن لسان أحد فلاحي القرية وهو (أوصمان سرحان)، بأن رد آل حاجو حينذاك كان عنيفاً جداً وساخراً، وهو: (هل تريدون انتم أيضاً ان تصبحوا ملاكين ؟!)، رافضين عرض أهل القرية، وبالفعل تم بيع القرية لغير الكرد إلى أن استولت الدولة عليها فيما بعد ومنحهتها لعرب الغمر ليظل فلاحوها بنتيجة ذلك محرومين من الأرض، ويضيف أبو النور بأن المؤلم جداً هو إن آل حاجو الذين عرفوا إعلامياً بموقفهم القومي، قد أضروا بفلاحيهم الكرد مرتين، مرّة عندما استولوا وبدعم فرنسي على أراضي الكرد بالقوة بعد قدوم حاجوا من تركيا، ومرة أخرى عندما رفضوا توزيع تلك الأراضي على الفلاحين الكرد عند تنفيذ خطة الاستيلاء، فذهبت كلها إلى عرب(الغمر)22.
ولاينسى أبو النور أن يؤكد على الأهمية التاريخية التي تتمتع بها قريته (خراب العبد)، فيسرد حكاية اكتشاف قبر بطول يزيد عن مترين في التلة التي بنيت عليها القرية، ويقول بأن طول شاهدتها تصل إلى 70سم/ كانت مطمورة تحت التراب، كتب عليها اسم الميت (باجلي)، ويقول بأن الجثة كانت ضمن ما يشبه صندوق قرميدي على شكل قالب، ولم تسمح الدول بفتحه، ربما لأن الصندوق كان يضم مقتنيات أثرية هامة، ويقول بأنه كانت هناك اسهم مرسومة ضمن دائرة على لوح في القبر، وبأنه كانت توجد بجوار القبر بقايا اللبن وبيوت السكن، وقد تكون هي آثار تكية الشيخ نفسه..
الهوامش:
*- مع الأسف الشديد يصادف نشر هذا الحوار مع الرحيل المفجع للشخصية الوطنية الكردية المعروفة بين الأوساط السياسية عموماً في الجزيرة، والكردية منها خصوصاً، الأستاذ حمزة علي الملقب بـ(أبو النور)، والذي وافته المنية في كندا بتاريخ (14/6/2020).
1 – الحوار أجراه علي شمدين في مدينة السليمانية أوائل (2019).
2- حسين الأحمد هو من أبرز وجهاء عشيرة (كاسكا)، كان ملاكاًلقرية (خراب العبد)، شخصية ذكية وكريمة بحسب شهادة أبو النور، وهو من مواليد عام (1900)، توفي في دمشق ودفن في مقبرة مولانا خالد (1966).
3 – تتبع قرية (خراب العبد)،لمنطقة (آشيتا)، وتقع على بعد (15) كم جنوب بلدة تربسبيي، وتشكل الحد الفاصل مع المنطقة العربية.
4 – يذكر أبو النور بأنه كانت تجمع حسين الأحمد والشيخ عبد الرحمن الفارس (شيخ قبيلة الطي)، علاقة (كريفانتي)، فضلاً عن أن حسين الأحمد كان قد تزوج زوجته الثانية من عرب تلك المنطقة، الأمر الذي حصن موقعه هناك، وكسب دعم شيخ الطي وحمياته.
5 – أحمد اليوسف: زعيم عشيرة كاسكا التي تمتلك في منطقة آشيتا العديد من القرى (السيجة الكبيرة، السيحة الصغيرة، خراب العبد، آرزانة..).
6 – هي تلة صغيرة تقع في المنطقة التي تتوسط قرى (سيحة، بليج وخربة الذيب).
7 – حسين المقطف: هو شخصية اجتماعية عربية معروفة في المنطقة، ينتمي إلى عشيرة الـ(حريثة)، وهومن ملاكي قرية (أبطخ)، التي تجاور الحدود الشرقية لقرية (خراب العبد)، وبسبب ذكائه وحكمته سمي بين عرب المنطقة بلقب(عارفة)، توفي عام (1970)، وكان عمره حينها قد بلغ(105) سنة، أيّ أنه من مواليد عام (1865)،وكانت الزوجة الثانية التي تزوجها والد أبو النور، هي من أقارب (حسين المقطف).
8 – هي تلة تتوسط المنطقة الفاصلة بين (تل معروف) و(تل حميس).
9 – الكريفانتي كانت من العلاقات الاجتماعية المقدسة التي كانت ترتقي إلى درجة القربى بين عائلتين، حيث يقوم أحداهما بتطهير أحد أبنائها أو أكثر في حضن أبناء العائلة الأخرى، وكانوا بنتيجة ذلك يصبحون بمثابة المحرمات بالنسبة إلى بعضهم البعض، إلى درجة إته لم يكن مستحباً المصاهرة بين الكريفين.
10 – يقول أبو النور بأنه تخرج من السرتفيكا عام 1962، والتحق بدار المعلمين بالحسكة عام 1963، وتخرج منه معلماً عام 1967.
11- علي شمسين: كان علوياً بعثياً، وكان آنذاك مديراً لمدرسة دار المعلمين ويدرّس فيها اللغة العربية أيضاً، وكان بمثابة الرجل الثاني بعد المحافظ من حيث دوره وأهميته.
12- أحمد حج عباس، الملقب بـ (أبو رضوان)، من عائلة فلاحية كادحة تنتمي إلى عشيرة الدلممكية، وكان يسكن مع عائلته في قرية السيحة التي تولد فيها عام (1928)، ولكنه اضطر إلى ترك القرية مع أعمامه والانتقال الى قرية الـ(بيازة)، بسبب خلافه مع ملاكي قرية السيحة (آل اليوسف)،وكان مناضلاً صلباً في الالتزام بمبادئه وأفكاره، وعنيداً في الدفاع عنها، انتسب الى الحزب الشيوعي أوائل الحمسينيات من القرن المنص رم، وظل ملتزما بحزبه إلى أن وافته المنية بتاريخ (9/8/2013).
13 – رخيص: هو ابن عم حسن النايف (مالك قرية بليج)، ويقول رمو شيخو الفرحة بأنه كان عضواً في الحزب الشيوعي، وبأنه قتل في حادثة غامضة، ولذلك يعتبره من شهداء الحزب الشيوعي السوري.
14 – شيخو أيو: هو من أقرباء الشيوعي (ابراهيم يوسف)، ويقول أبو النور بأن هذا الشخص كان متمرداً ويتعاطى الخمر حينذاك.
15- ثلاثتهم أصبحوا أعضاء في (الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا)، بعد تأسيسه أواسط الخمسينيات من القرن المنصرم.
15 – محمد سليم إبراهيم شيخو: هو ابن عمة أبو النور، توفي في دمشق مع ابنتيه بحادث سير حوالي عام 1984، حصل على السرتفيكا حوالي عام 1950، تطوع في الجيش السوري، ولكنه اصيب في حوضه بحادثة طبيعية خلال الدورة التدريبية ، فتم تسريحه حوالي عام 1961، ومن الجدير بالذكر بأنه كان من المناضلين الأوائل في المنطقة الذين انتسبوا إلى الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا ولعبوا دوراً في نشر أفكاره.
17 – يذكر محمد صالح شمدين في لقاء له مع جريدة الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا (الديمقراطي)، بأن سليم شيخو هو الذي علمه الأبجدية الكردية أوائل الخمسينيات، وهو نفسه الذي نظمه عضواً في الحزب عام 1959.
18 – حمزة ابراهيم محمد حسو: كان عضواً في الحزب الشيوعي السوري يسكن مدينة القامشلي، وهو من عائلة (جتو)، ذي الأصول الإيزيدية الساكنة في قرية خربة الذيب، ويقول أبو النور بأنه هو الذي نظمه في الحزب الشيوعي عندما كانا يسكنان معاً في غرفة بالحسكة أثناء دراستهم في دار المعلمين أوائل الستينيات.
19- وجيه ميني: هو استاذ من الطائفة العلوية، وهو إبن عم حكمت ميني سيء الصيت، عين معلماً في مدرسة خراب العبد في عام 1959.
20 – محمد صالح شمدين كان يؤكد هذه الحقيقة أيضاً، ويقول بأنه سأل ذات يوم السؤال نفسه من (عبد العزيز اليوسف)، فكان له نفس الجواب..
21 – قرية (كري بري): هي قرية كانت تعود بملكيتها لبيت حاجو، وكردة فعل على الظلم الذي كانوا يعانوه على يد ملاكيها، انتسب أهل القرية بالمطلق تقريباً إلى الحزب الشيوعي السوري تحت تأثير شعاراته الداعية إلى الوقوف إلى جانب الفلاحين ومناهضة الإقطاعيين، إلى درجة إنها كانت تسمى بـ(موسكو الصغرى).
22- سلمت تلك الأراضي التي استولت عليها الدولة والعائدة بملكيتها إلى آل حاجو، على عرب الغمر الذين تم اسكانهم في عدة قرى نموذجة شيدتها الدولة لهم عام 1973، مثل (تربسبي، معشوق، كرديم..).
[1]– هي تلة صغيرة تقع في المنطقة التي تتوسط قرى (سيحة، بليج وخربة الذيب).
[2]– حسين المقطف: هو شخصية اجتماعية عربية معروفة في المنطقة، ينتمي إلى عشيرة الـ(حريثة)، وهومن ملاكي قرية (أبطخ)، التي تجاور الحدود الشرقية لقرية (خراب العبد)، وبسبب ذكائه وحكمته سمي بين عرب المنطقة بلقب(عارفة)، توفي عام (1970)، وكان عمره حينها قد بلغ(105) سنة، أيّ أنه من مواليد عام (1865)،وكانت الزوجة الثانية التي تزوجها والد أبو النور، هي من أقارب (حسين المقطف).