إبراهيم اليوسف
لا ينظر إلى الإشكال الذي خلقه معرض الكتاب الكردي. معرض الشهيد هركول- رحمه الله، والذي يقام، في هذه الأيام، في مدينة قامشلي، وللسنة الرابعة، على التوالي، من خلال اعتباره نشاطاً حزبياً، كما يحاول بعضهم اعتباره كذلك، لأن تسميته ليست معرض كتاب- الحزب الفلاني أو حتى الإدارة الذاتية التي لاحول لها ولا قوة في كل مايدورباسمها إلا فيما يتعلق بمكاسب قلة مستفيدة من وجوهها، ونلجأ أحياناً إلى تناول- اسمها- في السياق النقدي ونحن عارفون- سلفاً- أن هذه المؤسسة الأخيرة لا صوت لأحد فيها إلا صوت ممثل” حزب واحد”، وهو ذاته لاصوت له إلا صوت- الملقن، المتواري، أو العلني، بل يُنظر إليه – أي المعرض- كاستحقاق كردي، في مكان كان ضبط كتاب كردي، أو شريط كاسيت أغنية جريمة كبرى. استحقاق ليس بملكية مطوبة باسم كل هؤلاء دون غيرهم، لأن مسرحه مسرح الكردي ابن المكان، ولأن ثمن كلفته دم ابن المكان: الشهيد- المقاتل- ومن يواجه الحصار- ومن شرد مكرهاً- ومن لا تاريخ ولاجذور له ولا مآب إلا هناك.
كل هؤلاء الذين شكلوا ملامح الكردي، ولهجوا باسمه، قبل أي ظهور-عسكري- كان يمكن أن يكون نواته طرف كردي آخر وليس هؤلاء فحسب، بالرغم من كل ما يسجل عليه، أي هذا الطرف، منذ ربيع العام2011، حيث كانت كل خططه. تكتيكاته. استراتيجياته- ومع احترامي العظيم لتشبث رموزه- الشجعان- برؤيتهم وصمودهم في مواجهة أكثر من طرف- غير مجدية، قوامها الروح الانهزامية التي هيمنت على بعض آخرمن وجوهه، وتم تغليفها بورق السلوفان، بدعاوى الحرص على الدم الكردي- وهو صائب- ولقد كانت هناك حلول سابقة على الدم. على اللحظة الثورية المنفلتة، لحظة تشكل قوة الآخر، إذ كانت الحوارات تدورحول قضايا ثانوية، من دون اتخاذ الموقف المطلوب، وتشتت أولي الأمر، في تموقعهم، بين أقصيي طرفين متناقضين، وهو ما يحتاج إلى دراسات معمقة، بهذا الشأن.
ليس لي أي موقف شخصي، من أي حزب كردي- ومن بين هذه الأحزاب ب ي د- فيما لو لم يتأسس على فردانيته، والاعتياش، والتشكل، على حساب إرث سواه، وإعدام هذا الآخر، إذ كان بإمكانه الانفتاح على الآخر/ الذات، حتى قبل اتفاقات هولير ودهوك، ليكون أمثالي مع محور إنسانهم، ومن دون أن نتوسل آخرين، خارج الحدود ولو المصطنعة، فنشكل أعباء على هؤلاء، كما هو حال ممثلياتنا التي لها أشكال معاناتها، وقد غدت مفرغة، وكادت هي ذاتها تتنمر في لحظة قوة منصرمة أو تنمرت في بعض منها- كما هو شأن ممثلية الإقليم وبعض رموز المجلس الكردي الذين مارسوا الآغالركية حتى في مواجهة حقوقييهم وكتابهم الذين لم يخذلوا شعبهم حتى اللحظة!
مأخذي الوحيد، على ب ي د، في النزعة الاستفرادية التي تأسس عليها، وغذاه بعض واجهاته- الشكليين داخلياً- والتف حولهم بعض الهامشيين، الذي تغيرت سلوكياتهم بين ليلة وضحاها، وكانوا بيننا. أصدقاءنا، وأهلنا، ويجمعنا الكثير من الأعمال المشتركة، إذ راحوا يؤسسون ماهو افتراضي، مزاوجين بين جبهتين: جبهة الهكر الإعلامي والتي تضم ناشطين أميين وإعلاميين معروفين وغيرهم من جهة وجبهة الداخل التي كنت- وبالتزامن مع نقدها- من عداد من وقفوا معها- وهي تدافع عن وجودنا، منذ سري كانيي/رأس العين2012 وحتى سري كانيي رأس العين2019، ولعلنا جميعاً، كتبنا عن وحدة الصف في كل محطة تمت، ضاغطين، كل من جهته على جرحه الذي عاناه، منذ بلبلة الشارع، بظهور ب ي د، وماترتب على ذلك من خض لكل شيء، معترفين بما انعكس على إنساننا، وإن كان ذلك من جراء عمل هذا الحزب لفرض ذاته، وكذلك ما ترتب عليه من أذيين: داخلي من جراء دفعه الضريبة بناء على هيمنة طرف هامشي لم يكن له أي حضور، حتى لحظة ربيع2011، وخارجي بسبب استوحاش بعض الجيران الذين نتشارك وإياهم العيش والمكان واللحظة والمستقبل، وإن كان من المعروف أن النظام السوري هو من أسس اللبنة الأولى للاستعداء على الكردي، وقد وجدنا ذلك في محطات عديدة، وتستوي هنا مواقف المعارضة والموالاة، وإن كانت الأولى قد قبلت ببعض التوافقات نتيجة قوة حضور الحراك الثوري الكردي ومن ثم نتيجة ضغوط دولية يعرفها من حضروا المؤتمرات التأسيسية والترميمية للائتلاف!
لقد كانت التباينات بين أطراف الحركة الكردية، قبل محطة ظهور” ب ك ك” التدريجي على مسرح حياة كرد سوريا محصوراً في الرؤى، وإن كان هناك من بالغ، وأسس لتخوين الآخر، وهو بالمناسبة تخوين يقابل التخوين، وأسس لاختراقات كثيرة، أولها تشويه روح النضال، وتقزيم العمل السياسي، وكان كل ذلك كان في- إطار لفظي مفروغ من بارود توتراته- إلا إنه مع بداية عقد الثمانينيات، ومن ثم بعيد ربيع 2011، غدا ابن المكان في مواجهة إرث آخر، فقد استبيح دم الكردي بيد الكردي، على قاعدة الاختلاف في الرأي، ومن أجل فرض الذات، وهو ما استدعاه للاستعانة بالمقاوم الافتراضي، من وراء الحدود!
ثمة صفحة جديدة، انفتحت، أو تنفتح، على نحو ممكن التأسيس عليه، ودعونا جميعاً للعض على الجراح، ضمن شروط مصالحة وتسيد ابن المكان ذاته، إلا إن ذلك الجيش الإلكتروني الذي دعم من قبل، وبات يؤسس لأسماء ناشطين وإعلاميين- ومنهم الأمي أو غير المؤهل، إذ يتم إشعال فتيل النار من قبلهم، بحسب تراتبيات المنفعتين : المادية والمعنوية، في بعض من شبكات التواصل الاجتماعي- وأخص عالم الفيس بوك- الذي يرى بعض هؤلاء أنه يبني وطناً، وليست البانية الفعلية وواضعة الأسس دماء الشهداء الأبطال، ودأب الشرفاء من أهلنا، وهم موجودون في: ب ي د- الآن، في هوامشه. أوفي نواته حيث مكمن الوقود، كما هم موجودون خارجه، من أحزابنا، ومستقلينا. صغارنا، وكبارنا، نسائنا، ورجالنا، وشبابنا، وأطفالنا، إذ إن هؤلاء- وتقابلهم جبهة مذرذرة أخرى- من الفراطات- في الطرف الآخر دأبت الإساءات، والانخراط في الفعل وردات الفعل، بعيداً عن لغة الردود التي هي من حق جميعنا!
وإذا كنت معنياً بالشأن الثقافي، وأتناول مفرداته، ومنه- معرض الكتاب الكردي- فذلك ليس استعطاء على- باب أم أي مسؤول حزبي أو لسان حاله الثقافي- فلأنني أحد هؤلاء الذين يعنون بثقافة أهلهم، وكان لنا جهدنا في خدمة هذه الثقافة، قبل أن يصبح التحدث باسمها، وصناعة مسؤولين عنها، مثقفين وإعلاميين، متاحاً، بل كان لذلك ضريبته التي دفعناها، قبل أن يظهر من يستظل ببندقية ودم سواه، ويساهم في فرم الجسد الثقافي، لاسيما في ظل وجود منتفعين، ومصفقين، وبعض من يسيل لعابهم، كما حال من هرول، وأقام الدنيا ولم يقعدها ليكون ممثلاً في- مؤتمر كبير مزمع- هنا أو هناك، أية كانت وسيلة هذا الظهور!
لم أتوقع البتة، أن يكون معرض الكتاب الكردي لهذه السنة، صورة عن معرض السنة الماضية، مكرراً لأخطائه، لاسيما بعد المقال الذي كتبته، وحاول بعضهم استغلاله- خارج سياقه- ووعد آخرون، بتجاوز الأخطاء، لأنه معرض جميعهم – وهي الحقيقة- إلا أن نشر الروائي الباحث والأديب جان دوست خبراً عن مشاركة القاموس الذي حققه في المعرض، ألب عليه جيشاً من العاطلين عن الفعل/ النضال في الخارج، ما دعا لتضامن بعضهم في الداخل، وإحراج اللجنة التحضيرية التي وجدت ذاتها في موقف لا تحسد عليه، بالرغم من نقدنا لها، لأنها وضعت ذاتها في الواجهة، أو وضعت، لتتحمل تبعات أخطاء سواها، بالرغم من أن أربع سنوات من عمر المعرض كافية لتأسيس قاعدة بيانات بالكتاب الكردي، في ما إذا كانت الغاية ثقافية، لا أن تكون الغاية الاستيلاء على القرار الثقافي، وجعل الثقافة متراس دفاع عن عمل سياسي محدد، لئلا يكون- في المقابل- معرض مواز لكل حزب، في السنوات القادمة، لاسيما إن إقامة المعارض الحزبية لطالما كانت موجودة!
لقد ظهر لجميعنا، ومن خلال التدقيق في ماقدم إلينا من التوضيحات والبيانات الثلاثة: اللجنة التحضيرية- دار آفا- الكاتب جان دوست، أن منع عرض كتاب جان دوست لم يكن مصادفة، وأن كل الذرائع التي قيلت إنما هي مواربة للحقيقة، لأن المقصود به: اسم جان، الذي اتخذ مواقف محددة، من قضايا تعدها السلطة القائمة ممنوعة التناول، وهنا نحن أمام إلغاء لدور المثقف، والذي لا أريد أن يكون مغالياً هو الآخر، ولا انفعالياً، لاسيما إنه تم اصطياد ردة فعل في تعليق من الكاتب جان دوست- وكتبت في ذلك مقالاً آنذاك- ذريعة لإعدامه، إلا أن الأمر هنا هو إعدام كتاب، وما جاء في ذلك التعليق كما قلت: ليس إلا من قبيل من يصرخ في وجه أبيه أو أمه في لحظة غضب وانفعال ويندم بعدئذ، ومن منا لم يقع في هكذا مصيدة انفعالية عابرة، لايقوم جوهر المرء على أساسها، إلا من قبل متربص، يستثمر بارود عاطفة الآخرين، في غير اتجاهاتها اللازمة، ونحن أصحاب قضية، وتدور الدوائر ضد وجودنا. أجل ضد وجودنا.
ما لفت نظري، أن أحداً من كتاب الداخل لم يبد أي تعاطف مع الكاتب جان دوست، إذ من حق جميع المختلفين معه نقد آرائه التي قد ألتقي معها شخصياً أو أختلف، شأن جميعهم مع آرائي، إلا أن الأمر هنا يتعلق بكرامة الثقافة، أمام قرار السياسي، الذي لا أحترمه، وأدينه، إن كان فيه حضاً على انتهاك الحريات، والاستيلاء على الثقافة، على أنها- ملكية حزبية- أياً كان الحزب، ولو أن المجلس الوطني الكردي، أو سواه، من الأطراف قد ارتكب هذا الانتهاك، لكان صوتاً أكثر دوياً. إلا أن ما يلفت -أكثر- هو أنه توجد في الوطن بضعة-اتحادات ومؤسسات كتاب ومثقفين وإعلاميين ومنظمات حقوق إنسان- لم نر بياناً لأي منها حول الحدث الذي جرى على بعد آلاف الأمتار منهم، على أبعد تصور، وإنني أتقبل من بعضهم أن يكون راسل أولي الأمر، وصور لهم مدى فداحة الموقف، وكيف أنه يسيء إلى الإدارة الذاتية/ذاتها، إلى الكرد جميعاً، أن يكون بيننا ذلك الرقيب صاحب القرار الذي يتدخل في شأن ثقافي على نحو كاركاتيري، ولعلي هنا تمنيت لو أن عشرين كاتباً. مئة كاتباً خرجوا في اعتصام صغير لأجل هذا الحدث، ليدافعوا عن كراماتهم، وليس عن جان دوست الذي هو في نهاية المطاف كاتب ذو رأي محدد، يخطىء أو يصيب، كما حالي، أو أي من هؤلاء!