إبراهيم محمود
من الممكن الحديث عن الشهيد، كما هو شائع، عن أنه ذاك الذي يموت دفاعاً عن قضية إنسانية: شهيد الوطن، شهيد الدفاع عن بيته، أهله، عائلته، أمواله، وعن نفسه، حيث لا يخطئه النظر. ماعدا ذلك محل خلاف. إنما كيف يُنظَر إلى المعتبَر شهيداً ” وهو كذلك هنا، وبشكل بليغ ” وهو يقتَل غيلةً على أيدي المنتسبين إلى بني جلدته؟ يتكلمون بلسانه، ويقيمون مجاورين له، وليس من حدود فاصلة بينهما. ألا ما أوجع، ما أفجع، ما أعظم الحديث في أصل شهادة كهذه، يعرفها الجميع، إنما للكرد حصة تبّز أي حصة أخرى، لأمم أخرى مجتمعة، واقعاً وتاريخاً، وهو ما يستدعي الحديث عن الشهيد أحمد فرمان بونجق، المقتول في وضح النهار، وقبل سنوات سبْع، في مدينته قامشلو، وبأيدي من يعرفونه هو وأهله والمحيطين به، وربما تناولوا معه طعاماً، وعاشوا معاً طفولة، وتعليماً، وأفراحاً طفولية ذات يوم، وقد كان هناك احتفاء بروحه المغدورة، بدمه المغدور، بكرديته المغدورة، في جوار ” كامبا دوميز ” بدهوك، الثلاثاء “1-9/2020 ” أي وقد مرَّ على واقعة الغيلة هذه سنوات سبع.
الكردي نفسه، بمعنى قوي، في مجموعه شهيد، طالما أنه محروم من حقوق التسمية والاستقرار في مكانه، مؤمّن على نفسه وأهله وأقربائه، كونه كردياً، تسمّيه حدوده، سماؤه الخاصة، أرضه الخاصة، لغته الخاصة طبعاً، وجهه الخاص، حياته الخاصة، وحتى موته الخاص كآخرين .
في كل كردي ثمة من يعدُّ نفسه شهيداً في أي لحظة على وقْع هذه التأشيرة المفتوحة، حال جسده المفتوح، ووجهه المفتوح، وبيته المفتوح…الخ، أو من يُعِدُّه للقتل، تحت تسمية معينة” ولا أكثر من التسميات: المبرّرات ، التي يجهِز فيها الكردي فرداً جماعة، طرفاً، حزباً، تكتلاً، تنظيماً، وتحالفاً على كردي أنّى كان، إظهاراً لمدى مقدرة الكردي مفرداً وجمعاً على قتل كرديه، حيث يراه أعداؤه عن قرب، أو خلف الحدود القريبة قرب إصبع يد من راحتها.
يقتِل الكرديُّ الكردي، لا لأنه يجد فيه ما يستوجب القتْل، فهنا تقدّم ثبوتيات معينة، مسوغات، أو أسباب، كما هو متداول، وإنما لأنه يجد فيه ما يتوجب عليه قتْله، أو لأن فيه ما يثير قاتله هنا.
الشهيد الكردي من نوع خاص، تميّزاً عن ” شهداء الآخرين ” ومواقع استشهادهم، وساعتها، وكيفية وقوعه صريع وضع، حق ما، وكيفية دفْنه، إذ لا بد من مراعاة الطقوس في الحالة هذه، على الأقل بالنسبة للكردي، والتوترات التي يفجّرها قتل كردي، في وطن سيقَ متجاهلاً له .
هكذا كان الشهيد من نوع خاص، أعني به أحمد فرمان بونجق، أعني به ابن الصديق الكاتب والناشط الحقوق فرمان بونجق، المقيم لاجئاً حال مئات ألوف كرده، في إقليم كردستان العراق.
وحين آتي على تحديد هذه العلاقة، فكوني أعرف مجريات الأحداث عن قرب، وقد كتبتُ ما كتبتُ في هذا المجال: عن الشهيد عموماً، وعن الشهيد خصوصاً ” الشهيد الكردي ” وعن الشهيد من نوع خاص ” الشهيد الكردي يقتَل بأيدي بني جلدته “.
أسمّي هذه العلاقات، متقدماً بهذه التوصيفات، لأشير إلى هول الجاري، ورعب المعيش الكردي، ممن يستسهل قتل كردّيه، لأنه يتصرف ” أي القاتل ” على طريقة ” يعجبني، ما يعجبني ” وليس من مبرّرات، ليقل النظارة الجمهور، الناس من حوله ما يشاؤون قوله، المهم ثمة من يجب قتله، وقد قتِل وهو بلباس كردي مقاتل ” بيشماركاوي “، فتتضح العلاقة، ليجري انتقام من أهله، ومن الجهة الجغرافية التي سمّته بيشمركياً، ونسّبته إلى صفوف مقاتليها ضد أعداء الكردي عموماً ” جهة إقليم كردستان العراق “.
كيف لجهة تقدِم على فعل صادم عادم كهذا، وهي تقسِم بدم الشهيد، الشهيد الذي يُقتَل على أرض بعيدة عن الأرض المعتبَرة أرضه، على حدود لا صلة قرابة بين حدوده المسمّاه وتلك، وعن أناس ينتهزون أي لحظة للانقضاض عليه، ليذهب هو ودم شهيده واسم شهيده ومقبرة شهيده التي لا يحاط بمداها، حيث تزداد اتساعاً في كل يوم؟ الشهيد الذي يقتَل، ولا حول له ولا قوة، يقتَل ليُسمى شهيداً، وهو يدفَن في قبر، ودمه المستباح، المسفوك في مكان غريب معاد له .
في الحالة هذه، كم هو مرعب أن تتحدث عن شهيد من هذه النوعية؟ كيف تأتي على ذكر اسمه، وأنت سويٌّ في داخلك، وثمة مشهد لعملية قتله برصاصات مدرَّبة على قتل الكردي من الكردي، يتراءى أمام ناظريك ؟ أي كردية يمكن للمشارك في المناسبة هذه ” وما أكثر مناسبات الكردي، إذ تقام، حيث صورة الكردي منقضاً على الكردي لقتله، أو لإيذائه، لا تحصى عدداً؟
كيف يمكن للمتكلم والمدعو إلى إلقاء كلمة له بهذا الصدد، أن يشير إلى شهيد كهذا، وهو يتمثّله: حيث غدرتْ به أيدي كرديه، وسفحت دماؤه، برصاص موجّه، قاتل، أو مميت، وأنت تستدعيه، وأنت تعيشه في وجعه المفاجىء، في صرخته اللاشعورية، في الرعب المرتسم على وجهه إزاء قتل فظيع مخز ٍ كهذا؟ كيف تتفوه بكلمات، وأنت تعيش عداوة الكردية المشينة المهينة والسافرة وعنفها النفسي والمؤدلج، ضد الكردي؟ هل من لحظة أثقل وأوخم من لحظة كهذه ؟
مناسبة حضرتُها، ولا أحضر غالبية المناسبات الكردية، لأنني خبرتها عن قرب، حيث يسهل الحديث عن كرد، وما أكثرهم، فيهم ما ينقض وضوء روح الكردية، صلاتها، حيويتها، على ” سجادة موت الكردي ” الكثير الكثير، إذ على قدْر رعب مشهد القتل، يتنفس قاتله الكردي الصعداء، ويدخل في حمدلة ونشوة، وهو على” سجادة صلاته، بوضوء كامل، وخشوع كامل”.
كان هناك حضور مقبول، وليس من مقبولية بالنسبة لواقعة كهذه، فالمتغيبون الذي لا يكفّون حديثاً عن ” وحدة الصف الكردي ” ينسون سريعاً ما تعنيه العبارة هذه، ليمارسوا هم أو غيرهم تمزيقاً وتخريقاً في وحدة الصف الكردي، ويمارسون حياتهم اليومية والحزبية دون حساب.
في المناسبة، كان والد الشهيد من نوع خاص، حاضراً وهو بسخطه، بوجعه، بمكبوت حزنه الذي لا يقاوَم، وقد قرئت ملامحه على كامل وجهه، وكان هناك ابنه الشهيد في ثلاثة أرباع جسمه” حيث أصيب في معظم أجزاء جسمه، وضمناً رأسه، ضمناً عيناه، في حرب المواجهة مع ” عصبة داعش الإرهابي ” على حدود تعنيه وتسمّيه في إقليم كردستان، قبل سنوات، وهو يتوكأ على عكازة، ويتنقل ميمنة وميسرة لتنظيم المناسبة من بدايتها إلى نهايتها.
دم الكردي المقسَّم، المنقسِم، ليس في زُمره الكيماوية، إنما التحزبية، والفئوية، وهذا يسمح ببقائه مرصوداً من الكردي الذي يعتد بزمرة دمه المصطفاة من وجهة نظر جهته، ولا يعود للدم الشهيد أن ينسفح خارج جسده، وهو يُرى بأحمره القاني، واصلاً بين جسده المضروب وتربة وطنه المحتضِنة له، لا يعود هذا الدم موحّداً، موحَّداً في اسمه، وتلك أفظع أوجاع الكردي.
هل سنشهد مقتلات كردية من هذا النوع، ووقوع شهداء كرد، من نوع خاص خاص، من هذا النوع المشار إليه؟ ليس من تباشير أمل، ولا في أي مكان يقيم فيه الكردي، رحالة في المكان، مهاجراً في بيته، مغترِباً داخل فراش نومه، ومع أهله، مسكوناً بالتخوف من كرديه، أكثر من العدو المرسوم، في خلفية الإحداثيات المعلنة، وإن كنتُ أنا، أزكّي الجسد الكردي، وأي جسد إنساني، في أن ينهض بحياته، ويعيش حياته، ويقيم آمناً في جسده وبحياته حتى موته الطبيعي!
صورة للشهيد أحمد مع والده فرمان بونجق قبل استشهاده بأيام